المسيحيون العراقيون في ذمة عَراقتهم ودستورهم الديمقراطي
بقلم : فاضل پـولا
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

من سخرية القدر أن يوضع المرء  في  ذمة  كائن من كان ، ليلعب بمقدراته كيفما يشاء ، وتعساً لكل من يمنح  لنفسه  حق التلاعب بمصير الإنسان ويشرط عليه بما يبقيه على قيد الحياة .

هذا هو المشهد التراجيدي الذي يمثله بحق المسيحيين في الموصل اولئك المنسلون من عتمة التاريخ يجاهدون في عمل المستحيل ، لإعادة عجلة التاريخ الى الوراء . إنها محنة يزدردها العراقيون الأحرار الذين يلتمسون من تاريخ العراق تلك الحداثة  التي تقبلها آباؤهم واجدادهم يوم قيام الدولة العراقية  كنتيجة  لتصفية التركات العثمانية في اعقاب الحرب العالمية الأولى .

أُرسيَتْ قيام تلك الدولة في مطلع القرن العشرين على  دستور ، لم يشر الى التعامل مع المسيحيين كذميين او كتابيين ، وإنما نص على أنهم شريحة اصيلة من شعب العراق ، وتم تثبيت اسمهم المذهبي اي ديانتهم في هوية الأحوال المدنية ( الجنسية )  وتبعاً لذلك استحقوا التتمتع بحقوق المواطنة غير المنقوصة اسوة ببقية القوميات العراقية الأخرى .

وبعد ذلك التاريخ تكوَّن الصف الوطني ، وشاع الحس والشعور الموحد في الإنتماء الى الوطن الواحد و المصير المشترك ، وافتخر المسيحيون العراقيون بذلك التوالف والتعايش بين الأديان والطوائف ، وباركوا اخوَّتَهم الوطنية مع المسلمين وجميع الأطياف الأخرى ، تحت خيمة حكومة عراقية متمسكة بمعايير القوانين الوضعية التي فتحت ابواب العراق ــ ولأول مــرة فـي تاريخه الحديث ــ امام قيم حضارية واحكام تنبذ الإضطهاد الديني والعنصري الذي كان دائماً وراء المذابح المروعة ايام الحكم العثماني البغيض .

ومع تقادم الأيام اخذت تضعف النظرة الدينية والعنصرية المنتقصة من المسيحيين ، وكان هذا حصيلة لسريان مفعول القوانين الوضعية المشرعة من الدستور ، مضافاً الى ذلك شروع احتكاك العراق مع العالم المتحضر ، وبالتحديد لما اصبح  دولة نفطية منذ تشرين الأول سنة 1929 بعد حفر اول بئر في بابا گرگر  في كركوك . وبجانب هذا ، يقف عامل آخر هو انتشار التعليم ونماء الشريحة المثقفة والمتعلمة وانبثاق الحركة الوطنية  العراقية بمختلف احزابها وتياراتها . وامام حركة التمدن هذه ، تلاشت تسمية أهل الذمة او الكتابيين بالنسبة للعراقيين من المسيحيين واليهود . ولم يبقى لها رجعٌ او صدى في الشارع العراقي ، بيدَ انها اصبحت بمثابة ( جذوة تحت الرماد ) لكن هذا لم يُبعد المسيحيين من التهميش ، ذلك بسبب ارتكاز الدولة على آلية ( الإسلام  دينها الرسمي ) بموجب فقرة  نص عليها الدستور العراقي . الأمر الذي اسقط حق غير المسلمين من تبوَّء مناصب متقدمة او رئيسية في مقام الإدارة المحلية ، كرئيس الجمهورية ورئيس الدولة ووزير الدفاع ورئيس اركان الجيش ووزير الداخلية وحتى الخارجية باستثناء ما حصل مع طارق عزيز.! ( ولهذا الحادث حديث آخر ) ومدير الأمن العام .

كان الأولى بالمسيحيين العراقيين التحري عن اسمهم القومي الذي يثبت انتماءهم التاريخي للأرض ويعيد اليهم هويتهم الرافدية التاريخية ، شفاعة لهم في التمتع بهوية تعكس  حقيقة عمق جذورهم في ارض الوطن . لأن الأسم الكنسي او المذهبي سبب لهم اشكالات مصدرها جهل القسم الأكبر من العراقيين عن تاريخ هذا المكون الأصيل . لا بل سارت النظرة اليهم وكأنهم اشتات دخلوا العراق واقاموا به في حقب زمنية متوالية .

والأنكى من ذلك  ، ثمة من ينظر اليهم وكأنهم امتداد للغرب المسيحي واحياناً يشير اليهم العوام في الشارع العربي ، بأنهم  طابور خامس لدول الغرب ، ويُؤخذون بجريرة اية اساءة من هذه الدول الى العالم العربي . عليه نقول ، بأن الأسم المذهبي الذي غطى اسمهم الرافدي ، قد وضعهم برسم الإضطهاد الإسلاموي المتشدد ، لمجرد التذكير بأن المسيحيين كتابيون على ذمة الإسلام .  والمعروف بأن العهد الذمي المفروض عليهم قبل 1400 عام لا يحتاج  تطبيقه او الرجوع اليه الى اكثر من فتوى ليجد المسيحي قدره بيد المسلم ، يبقي عليه اذا استسلم او دفع الجزية ، وبخلاف ذلك يكون السيف بانتظار عنقه .

المسيحي العراقي يسير اليوم جنباً الى جنب مع  ابناء وطنه في طريق صعب ودموي في مواجهة مصير ، يتقاسمه العراقيون في بناء عراق ديموقراطي ، يتعايش فيه الجميع متساويين في الحقوق والوجبات ، وتسوده العدالة الإجتماعية والإنصاف في كل مجالات الحياة ، كما انه ( المسيحي ) يناضل من اجل بعث اسمه القومي التاريخي الذي يعبر عن اصالته وعراقته وانتمائه للحضارة العراقية التي لا زالت آثارها شاخصة على ارض العراق ، وتتزين بها اشهر متاحف العالم .

المسيحيون اليوم امام مأساة كارثية في محافظة نينوى التي تشهد ظروفاً مشحونة بالكراهية وانفلات زمام الأمور . وإزاء هذا الوضع المزري ، ليس من الصعوبة بمكان التكهن بأن هذه الموجة الإرهابية  ستأخذ امتدادها الى بلدات المحافظة ودساكرها  التي يُعــد الكثيــر من سكانها من المسيحيين . نقول بأن النار لا زالت في شبوبها ، ولم تجابه الى الآن من يطفي اوارها . والذي يحتق فيها هم سكنة تلك المناطق الذين يشهد تاريخهم بأنهم من ابناء دجلة والفرات منذ آلاف السنين ولا يحق لأحد أن يزايد عليهم في اولوية الإنتماء الى ارض الرافدين . لذا يرفضون كلياً حسابهم على ذمة احد الاّ على ذمة وطن ديموقراطي ذي دستور علماني ، يحمي ويجسد حقيقة وحدة الأرض والشعب والمصير .

هذا هو ما يجب أن يقال ويُكتب بحق هولاء العراقيين الأصلاء . ولكن يا ترى من الذي يستطيع تقويم السلفيين التكفيريين الذين اهملوا كل مايدعو الى الخير والصلاح في كتابهم ، وتمسكوا بما يضعهم في مسار معاكس للمدنية والتحضر ، عبر ممارسة افضع انواع الإرهاب لتحقيق مشاريع مدمرة تلحق افدح الأذى والتخريب بالناس الآمنين .

ليكن في علم كل من تسول له نفسه نعت المسيحيين في الأوطان العربية بأنهم موالون للغرب او هم امتداد له ، أن الدول الأوربية جميعها حكومات وشعوب ، يغضون اليوم الطرف عن كارثة تهجير الف عائلة مسيحية من ابناء الموصل ، ويضعون الوقر في آذانهم عما جرى على هذه العوائل من حوادث السلب والنهب والقاء بهم في العراء ، لا يملكون شروى نقير .

وفي هذا الصدد ، نؤكد بأن ليس ثمة شفيع لهؤلاء العراقيين المسبيين سوى ابناء وطنهم من العرب والأكراد والتركمان واليزيدية والصابئة. وهذه هي الحقيقة التي يجب رفع لوائها دائماً وأبداً .

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 23-07-2014     عدد القراء :  3261       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced