إلتقينا به في إحدى مدن إيطاليا.هو صديق لصديقنا اللبناني.استقبلنا هذا الصديق بكل محبة في بيته، واحتار كيف يضيّفنا، كل ذلك لانه كان يعيش في العراق، في بغداد بالتحديد، وهو لا يفوّت فرصة لرد كرم العراقيين وحبهم واحتضانهم له.
حدثنا عن أجمل ذكرياته في العراق، وكيف أنه حتى الآن لم ينسَ طعم الأكلات العراقية ولا طعم المسكوف، ولا شارع أبي نؤاس ولا الكرادة ولا الباب الشرقي، فكلها أمكنة تذكره بطفولته وشبابه. ولكن الأجمل ما قاله عندما تحدثنا عن أوضاع العراق وتهجير المسيحيين، قال:
عندما كنت صغيراً كنت أتخذ من زواية في حسينية تقع وسط منطقة الكرادة مكاناً لأصلي فيه كل يوم وأنا ذاهب الى مدرستي. وفي يوم سألني القائم على شؤون الحسينية: كيف تصلي هنا؟ أنت مسيحي؟ يبدو ذلك من صلاتك؟ فأجبته: نعم أنا مسيحي، ولكن أليست الحسينية بيتاً من بيوت الله؟ قال: نعم. قلت: إذن لا ضير من صلاتي هنا.
في اليوم التالي مررت بالحسينية كعادتي كل يوم للصلاة، وإذا بي أجد ما يشبه "الدولاب الصغير" وقد وضع في الزاوية نفسها التي أصلي فيها، كما هو الحال في الكنائس. وعندما استفسرت عن ذلك فهمت أن الرجل ذاته الذي سألني من قبل، ذهب الى كنيسة قريبة وجلب لي هذا الـ"دولاب" ووضعه كي يبقى هذا المكان مخصص لي للصلاة.
كيف أنسى هذا الرجل، وهو رجل دين ويمثل طائفة واسعة؟ لا أنساه ابداً ولن أنسى العراقيين كلهم وقد احتضنوني بينهم وأنا الفلسطيني المسيحي. ولن أصدق ما أسمعه من أخبار، لان من يقوم بتهجير المسيحيين ليسوا عراقيين ولا حتى إسلام.
هل نجد بعد ذلك مَنْ يشكك بالتسامح والمحبة التي يحملها العراقيون؟ لا بد من الإعتراف بوجود بعض التطرف هنا وهناك، ولكنه ليس نهجاً للعراقيين جميعهم، بل أن غالبيتهم كانوا وما يزالون يحافظون على علاقاتهم وصداقاتهم مع بعضهم بغض النظر عن الدين أو الإنتماء أو القومية، ولن يستطيع المتخلفون "الدواعش" تفريق نسيجهم الواحد الذي يشكل خارطة العراق.
وانكشفت وستنكشف حقيقتهم أكثر أمام العالم كله بأنهم ليسوا مسلمين كما يدّعون، فلو كانوا كذلك، ماذا سيفعلون عندما تقابلهم سورة مريم في القرآن.. هل سيتجاوزونها؟ أم يحذفونها؟ "أم سيخيرونها بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتل؟!".
بأي دين تنطقون؟ وباسم أي دين تحكمون؟. إن الله ورسوله بريئان منكم ومن أفعالكم الشائنة هذه.
الزلزال الذي يهز العراق وصل أعلى درجات رختر هذه المرة، ولكنه سيبقى عارضاً ويزول. وسيعود مسيحيو العراق، حمامات السلام، الى أعشاشها، لأننا بدونها سنفقد هويتنا وتنوعنا وحضارتنا، سنفقد شيئاً كبيراً وعظيماً أسمه "العراق".