كان مبعث مسرة و اعتزاز تلك المشاهد البشرية المبتهجة الأسارير و رائعة المشاوير و متألقة الأساوير، والمنطلقة تحت شعار جميل و حلو و مؤثر فعلا : ( أنا عراقي .. أنا أقرأ ) و المتماوجة فردانا و زرافات ، امتدادا طويلا ، بين أحضان دجلة الخير و أبي نؤاس النّير نشدانا و توقا لقوت الروح من كتب و فنون ، شاء بغداديون توفيرها مجانا لزوار و ضيوف " أبو نؤاس " من رجال و نساء و أطفال ، تدفقوا إلى هناك آلوفا مؤلفة في أجمل و أروع ظاهرة ثقافية و حضارية متميزة و ملفتة ، لبغداديين أصلاء مسكونين بهواجس الفن و الإبداع ، و الحريصين دوما على حماية و صيانة التقاليد و القيم و المظاهر الثقافية و الفنية و الإبداعية الأصيلة الأخرى ، بل ومواصلتها في أحلك الظروف مشقة و صعوبة و قسوة ضارية ــ مثلما الحال الآن ــ كجزء مهم و ضروري و حيوي من حياتهم اليومية و قيمهم الحضارية التي يصرّون على ديمومتها و دفقها المتوهج ، غير آبهين لقوى الظلام و القتل الهستيري و اليومي ، و ردفها بمنابع الاستمرارية الوثابة ، إبداعا وخلقا و تشكيلا ، كأنما استجابة لنداء العصر ، و إزاحة لستار الفكر الظلامي المخيم على سماء العراق ، و من أجل المواكبة و الانطلاق الدائمين ، و فوق ذلك ، بجهودهم الفردية و المتواضعة ، بل ــ و هذا ما هو الأروع و الأعظم فيه ـــ بعيدا عن أي دافع من الدوافع الربحية و الجشعية السائدة و المهيمنة على أرواح النخبة السياسية المتنفذة و الفاسدة المتخشبة ، أي ، و كلما في الأمر : إن هذه الجهود تأتي و تُبذل من أجل خدمة حقول الثقافة و الفن والفكر الحر و شتى أنواع الإبداع و الخلق الأخرى فحسب و فقط ، لا أكثر و لا أقل ..
ولكن الأجمل من كل ذلك ، هو أن تتحول هذه الظاهرة الثقافية و الفنية ( أنا عراقي .. أنا أقرأ ) إلى تقليد دائم و متواصل ، بالغا عامه الثالث من عمر مديد وعامر بنشاط و حيوية وحماس ثقافي ، وقد تشكلت متكوّنة نتيجة ل( فكرة في وجدان بضعة شبان و شباب اجتمعوا بعد أن أدركوا أن كل ما من شأنها أن يجعل الحياة أجمل و أعمق و أغنى ، إنما يليق به أن يكون بين دفتي كتاب . صارت الفكرة بذرة ألقيناها هنا على حدائق أبي نؤاس بجوار دجلة الخالد و سقيتموها أنتم أيها الأصدقاء بفيض محبتكم فنمت و أزهرت ـ فقرات من كراس الملتقى الثقافي ) .
ولكن الأجمل الهدية أو " المكافأة " التي حصل عليها الزائر هي الكتب بحقولها المختلفة و التي كان الزوار يتدافعون نحوها على شكل صفوف متراصة متزاحمة ــ مثلما الجوعى على أرغفة الخبز الساخن و طيب النكهة !ـــ بهدف الحصول على الكتب التي يتمنون قراءتها ..
حتى أن أحد المتدافعين من أجل الحصول على كتاب واحد أو أكثر من تلك الكتب التفت نحوي قائلا ، كأنما اعتذارا لاندفاعه :
ــ أليس من الأفضل أن نندفع و نتزاحم على الكتب بدلا من القنابل ؟!..
فأجبته متفقا و مشجعا :
ــ يا رايت لو إن كل العراقيين يندفعون متزاحمين على الكتب بدلا من القنابل و المتفجرات !..
فتحية و كل التقدير و التثمين لهؤلاء الشباب و الشابات على جهودهم الرائعة و الطيبة هذه ، وهم حراس حدائق و بساتين الثقافة العراقية الزاهية بتنوعها المتعدد و عمال ديمومتها الأصلاء .