الإستبداد الديموقراطي .. ومأزق المجتمع المدني في العراق
بقلم : د. برهان شاوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

إنني أدرك أن لمفهوم ( الإستبداد الديموقراطي) دلالة قانونية وفكرية تستخدم عند تفكيك مفهوم الديموقراطية، إنطلاقا من مفهوم الدولة بشكل عام، ومفهوم تداول السلطة بشكل خاص، لكنني هنا لا أسعى للخوض في هذا المشكل، وإنما استخدم هذا المفهوم بصياغته الأدبية ودلالته الأخلاقية للتعبير عن ملابسات المشهد الثقافي والسياسي في العراق اليوم.

في الكثير من الأدبيات الخاصة بعلم الإجتماع والسياسة، لا سيما تللك الأدبيات التي ناقشت مفهوم الدولة ومفهوم ( المجتمع المدني)، نجد أن أهم خلاف تاريخي سياسي وقع بهذا الصدد هو الانشقاق الذي جرى في الحركة الثورية العالمية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وفي الربع الأول من القرن العشرين، بين الجناحين الشيوعي والاشتراكي الديموقراطي..!

صحيح ان بعض الماركسيين يسعون الى تجديد الماركسية، وإعادة الاعتبار لبعض مفاهيمها، وتصويب بعض تحليلاتها، بالإدعاء بأن (ماركس) عند نقده لفلسفة (هيجل) ناقش مفهوم ( المجتمع المدني)، الا أن البحث النظري في كلاسيكيات الماركسية، مثل كتاب (أصل العائلة والملكية والدولة) لفريدريك أنجلز وكتاب ( الدولة والثورة) لفلاديمير لينين، بل وحتى ( البيان الشيوعي) لماركس وأنجلز يضيّق على مثل هذا الادعاء، رغم أنه يحيلنا إلى تحليلات( لويس آلتوسر) في سعيه ل( قراءة ماركس) الشاب ، علما أننا نجد عند ( انتونيو غرامشي) مناقشات ثاقبة وعميقة لمفهوم الدولة والمجتمع المدني تثير الاعجاب، قياسا لجبال التنظير الغوغائي للماركسية اللينيية طوال عقود من هيمنة الشيوعيين على السلطة في بلدان شرق أوروبا.

لقد كانت الماركسية اللينينية تنظر الى (الدولة) نظرة أحادية باعتبارها آداة للهيمنة الطبقية و(آداة للقمع والاستبداد) فقط، وهكذا تمت تربية الملايين من الشيوعيين والمثقفين ورجال الفكر اليساريين، علما أن ماركس (الشاب) درس الدولة من جانبيها، أولا من جانب مضمونها (الطبقي) باعتبارها المؤسسة التي (تقنن) و(تشرعن) سيادة طبقة على أخرى، وثانيا من جانب علاقتها بالمجتمع، أي من جانب (تشكيلات المجتمع المدني) المتداخلة في البناء الفوقي للمجتمع، بمعنى اعتبار الدولة من جهة (جهاز قمع سياسي)، ومن جهة أخرى باعتبارها (مؤسسة مجتمع مدني)، لكن هذه الشذرات في فكر (ماركس) لم تتطور في الأدبيات الماركسية فيما بعد، إنما صار التركيز على جانب واحد من مفهوم الدولة، وهذا ما جرّ الى كوارث انسانية في المجتمعات التي حكمها الشيوعيون. بينما على الضد من ذلك، انتبه الاشتراكيون الديمقراطيون الى الجانب الثاني من الدولة، أي إلى كونها حاضنة ل(مؤسسات المجتمع المدني) وناضلوا من أجلها، وحققوا من الديموقراطية، ومن المكاسب للطبقة العاملة وللشرائح الاجتماعية الأخرى ما لم تحققه الأحزاب الشيوعية لها، على الرغم من أنها كانت تصف الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية بمطية الامبريالية وخادمة البرجوازية..!!

هذا الموقف من الدولة والمجتمع المدني في التاريخ السياسي العالمي يعيد الاعتبار للسؤال عن موقف (المثقف) من الدولة ومن مؤسسات المجتمع المدني في تاريخنا المعاصر، ولو سحبنا هذا السؤال الى الساحة العراقية اليوم، وبعد سقوط النظام الدكتاتوري لوجدنا أن غياب دور( المثقف)، في الصراع الاجتماعي والسياسي العراقي، كان نتيجة لهيمنة الفهم الأول للدولة على الفكر السياسي التقدمي في العراق، بحيث انتهى الأمر الى فصل (المعرفة) عن (السياسة) و(الفكر) عن (الواقع) ، وتعطيل (الطاقة النقدية) عند المثقف، وتحويله الى رمز أجوف، إلى شكل بلا مضمون، مما سهل الأمر الى بيعه وشرائه، وإلى تسهيل ظهور نموذج (المثقف المرتزق)، الانتهازي، اللاعب على حبال الصراعات السياسية وانكسارات الأجنحة الحزبية، مما أدى إلى إعادة إنتاج (ثقافة الاستبداد)، وهذا ما انعكس على علاقة (السياسي) ب(المثقف)، وبالتالي علاقة السياسي بالثقافة والفكر عموما.

جذر المشكل السياسي في العراق اليوم هو أن القوى السياسية التي تحكم العراق لا تستطيع ان تتخلى عن فهم (الدولة) باعتبارها (جهازا للقمع والهيمنة)، فمع أول بادرة لها في حرية ممارسة السلطة نجدها تمارس (الاستبداد) و(القمع الفكري) من خلال الاستهانة والتراخي بمفهوم الدولة باعتبارها( الهيكل الحاضن لتشكيلات المجتمع المدني)، وليس هذا بغريب، فان هذه القوى التي ترعرعت في ظل (ثقافة الاستبداد) لا يمكنها إلا أن تنتج ثقافة مستبدة،....فما العمل؟

إن ما نراه اليوم من تشوه سياسي في المجتمع العراقي ليس هو نتاج لفكر البعث القومي العنصري وحده كما يحاول السياسيون الجدد ورجال الدين أن يؤكدوه بمناسبة أو غير مناسبة،وإنما هو نتاج استبداد وقمع عاشه الانسان العراقي منذ قرون من جهة، ومحاولة الميهمنون على السلطة اليوم إعادة بناء الدولة والمجتمع العراقي وفق سياقات الفهم الإسلامي اعتماداً على تجارب دينية غير متحققة ومشكوك فيها، وعلى مرجعية نصوص وكتب لا علاقة لها بالزمان والمكان والعصر من جهة أخرى وتأكيداً على صراعات مضى عليها قرون وقرون..ناهيك عن (فهم) الدولة ليس فقط باعتبارها (آداة قمع واستبداد) للحفاظ على مصالح الطبقة السائدة وإنما (آداة للإنتقام السياسي والمذهبي والقومي)..أي الشكل البدائي للدولة الفاشية..لذا تغلغل هذا التشويه الى أعمق اعماق الشخصية العراقية، وهو ليس بغريب ولا بعيد عن كل الاورام والتشويهات الفكرية والاخلاقية والنفسية التي تعانيها شعوب منطقتنا العربية والاسلامية والشرق أوسطية، وهو نتاج الفهم الاحادي لطبيعة الدولة، والذي يرتبط في منطقتنا بقضية اعقد هي (علاقة الدين بالدولة)، بدءا من فتح مكة ودولة الخلافة الراشدية مرورا بدولة بني أمية القمعية ودولة العباسيين وملوك الطوائف وانتهاء بفكر البعث ودولته الدموية، وبالانظمة في بقية البلاد العربية والاسلامية الاخرى.

إن (الإستبداد) لا ينتج الا (الإستبداد)، و(ثقافة التخلف والتجهيل والأمية) لا تنتج الا (التخلف والأمية) ، وليس امام القوى الخيرة والمدافعة عن عراق الغد، والتي تسعى الى إقامة المجتمع المدني، سوى ان تأخذ دورها الحقيقي، الفكري، التنويري، وان تمارس (معرفتها) على الواقع العراقي، وأن لا تتردد في التوقف النقدي الرصين عند الطارئين على المشهد الثقافي والفكري من الفاسدين والمأجورين وأشباه المثقفين ومن الكتاب الحزبيين، وأن تنحاز للمعرفة الانسانية الرحبة، فأن الموقف الحقيقي والأساس للمثقف، لأي مثقف، في أي زمان ومكان، هو الموقف من السلطة، والشجاعة عند التجذر في أرض الفكر الخلاق.

  كتب بتأريخ :  الأحد 28-12-2014     عدد القراء :  1971       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced