حينما ينشغل الفنان في نقل تفاصيل شخص ما إلى اللوحة أو الورق أو الطين بدقة ويعكسها كالمرآة، فأنه في هذه الحالة ينقل الشخصية من الخارج دون أن يتمكن من الوصول إلى جوهرها الاجتماعي والنفسي.
إن الفنان يتوصل إلى التعبير عن الجوهر الإنساني العميق والحقيقي، وذلك من خلال ملاحظته الكثير من الناس، ومن مختلف مراحل العمر، ومن مختلف الظروف، ومن خلال المقارنة وانتقاء النموذجي والمتعدد السمات والخصوصيات. وكل هذه السمات النمطية يجب الاحساس بها بعمق وتجسيدها بشكل مقنع كي يرى المشاهد في العمل الفني شخصية ذات سمات خاصة وفي الوقت نفسه نموذجاً إنسانياً عاماً.. لكن كيف تجري عملية التعميم في لحظة الخلق الفني لدى الفنان..؟
إن الكثير من الفنانيين يفتشون دائماً وباصرار، في الحياة، عن مثل هذا الشخص الذي تتجسد فيه الملامح ذات الخصوصية والتفرد، وحينما يلتقي الفنان بواحد من هؤلاء فأنه يسعى جاهداً إلى رسمه واستنساخه بدقة. لكن لا يمكن النظر إلى مثل هذه اللقاءات وكأنها مصادفة عابرة، فعادة، يكون الفنان قد حدد في أعماق تفكيره هذا النموذج أو رسم تخطيطاً أولياً له في لا وعيه، وحينما يلتقي الفنان بمثل هذا الشخص، الذي ربما يحرك مشاعره الداخلية وبعض الملامح الشخصية التي رسمها في أعماقه، فأنه سرعان ما يعتبر أنه قد وجد ضالته، خاصة إذا كانت هذه الشخصية قريبة أو متطابقة مع الشخصية الفنية التي في أعماقه.
ومعروفة تلك القصص عن الفنان ف. سوريكوف، كيف أنه كان يفتش في الأسواق، في الشوارع، وفي الأزقة القديمة عن الأنماط والنماذج والشخصيات المتميزة والواضحة والحادة الملامح. فمثلاً إن النموذج الحي لشخصية (النبيلة موروزفا)، التي تحمل إحدى لوحات الفنان اسمها، كان قد التقاه في قرية (بري أوبراجينسكي) عند المقبرة القديمة:
( في تلك القرية – يروي سوريكوف- كان الجميع يعرفونني. حتى العجائز سمحن لي برسمهن، واحيانا حتى الفتيات. لقد كان يعجبهم أنني من القوزاق، ووأنني لا أدخن. وفجأة جاءت (أنستاسيا ميخالوفنا) في زيارة من الأورال، فرسمت لها تخطيطات سريعة في خلال ساعتين، وما أن انتهيت حتى أيقنت أنها هي التي أبحث عنها. أما شخصية (الأهبل) فقد وجدتها دونما مشقة، إذ كان بياعاً للخيار، وما أن رأيته حتى قلت: إنه هو. إن له جمجمة عجيبة، قلت له: لنذهب، لم يقبل أول الأمر، لقد أقنعته بمشقة. لقد كان ذلك في بداية الشتاء، وبينما كنت أرسمه بدأ الثلج بالهطول وهكذا رسمته في الثلج) – عن كتاب (سوريكوف) لمكسمليان فلوشيني – منشورات ابولون – 1916.
لكن هذه المشاهد التي تحدث عنها سوريكوف لا تعكس بالكامل شخصية النبيلة (موروزوفا) أو (الأهبل). ففي اللوحة نجد في كل منهما قوة تعبيرية غير عادية، فهي امرأة خارقة الإرادة، ذات أفكار ثورية، أما هو فنموذج للشحاذ العبيط، المسالم، الطيب.
مقطع من كتاب (لغة الفن التشكيلي) للمؤلفين ف. كوستين . ف. يوماتوف
من ترجمتي
ومنشورات دائرة الثقافة والفنون والإعلام – الشارقة - 1997