دستويفسكي وماركس..شخصية (راسكولنيكوف) في رواية (الجريمة والعقاب).
بقلم : د. برهان شاوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

واجه فيودور دستويفسكي في المرحلة السوفيتية تعتيماً لأسباب عديدة منها أن فلاديمير إيليتش لينـين لم يكن يحبـه إذ وضعه في درجة واطئة عند تقويمه للأدب الروسي قبل الثورة، إذ كان يأتي لديه بعد بوشكين وتولستوي وغوغول وليرمنتوف ونيكراسوف وتورغينف، ومن المعروف أن لينين كان يحب ليف تولستوي جداً بل كتب عن تولستوي خمس مقالات شهيرة صدرت في كتيب بعنوان (ليف تولستوي مرآة الثورة الروسية)..وقد إنسحب موقف لينين من دستويفسكي على موقف السلطة السوفيتية منه لاسيما في فترة ستالين.. فقد كانوا يعتبرونه كاتباً سوداوياً، كئيباً، رجعياً مواليا للقيصرية وكاتباً دينياً مسيحياً أشبه بواعظ في كنيسة.. لكنهم برغم ذلك لم يستطيعوا أن يحجبوا ظله العالي على مر تاريخ الأدب الروسي والعالمي.. لذلك كانوا يتقبلونه على مضض.

**********

ألبرتو مورافيا، الكاتب الإيطالي، الماركسي، الوجودي، الفرويدي،الشهير، زار الإتحاد السوفيتي ذات مرة. وحينما عاد إلى روما كتب مقالة شهيرة بعنوان (مبارزة بين ماركس ودستويفسكي)..حلل فيها شخصية (رودين راسكولنيكوف) بطل رواية (الجريمة والعقاب) تحليلاً بارعاً وجديداً. حيث كتب : ( من هو راسكو لينكوف ؟ إنه مثقف ما قبل الماركسية ، الذي يعبر عن احتجاجه على الظلم الإجتماعي والفقر المدقع في روسيا القيصرية ، والذي يقرر في تحد القيام بعمل رمزي ضد هذه الظروف . لم يتسن لراسكولنيكوف أن يقرأ ماركس وكان معجبًا بنابليون نموذج السوبرمان للقرن التاسع عشر بأكمله ، نفس الأعراض نجدها في الجانب المقابل عند جوليان سوريل في رواية ستاندال، بطل آخر متيم بنابوليون، بيد أن راسكو لنيكوف لا يحلم بالعظمة وإنما بالعدالة ، فيما بعد سنجد أن كراهيته تتركز في العجور المرابية ، وهو ما يتفق في المحصلة النهائية مع المعادلة الماركسية بشأن إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، ولكن من هي في هذه الحالة تلك العجوز المرابية ؟ إنها التجسيد للبورجوازية الاوروبية التي تضارب برؤوس الأموال المساهمة التي تعيش على الدخول التي تدفعها البروليتاريا في الدول المحتلة والتابعة ، وتفعل هذا كله دون وعي ، وبضمير مطمئن .

إن هذه العجوز هي في واقع الأمر رمز قد لا يختلف كثيرًا في سماته الرئيسية عن النموذج التقليدي لصاحب البمك في الروايات الساخرة المعادية للبورجوازية ، بشحمه المكتنز وقبعته الحريرية .

على الرغم من ان راسكو لنيكوف لم يقرأ ماركس ويتصور نفسه سوبرمان يعلو فوق الخير والشر ، فإنه كان ما يزال آنذاك جنيناً لقوميسار الشعب المقبل. والواقع أنه كان أول قوميسار شعبي يخرج من طبقة المثقفين التي ينتمي اليها ، والتي استحوذت عليها نفس الأفكار ، نفس التعطش للعدالة الإجتماعية ، ونفس التشبع الأيدلوجي الشديد ، ونفس الإصرار على الفعل .)

كان الخيار أمام راسكو لنيكوف هو ذاته الخيار المطروح أما قوميساري الشعب وأمام ستالين : " هل يمكن لصالح البشرية قتل العجوز المرابية ؟" ..وطبعا الجواب عند الماركسية هو: نعم...وعند دستويفسكي: لا.

**********

ألبرتو مورافيا طرح سؤاله بشكل مباشر: إذا كان الأمر على هذا النحو لماذا إذن يكن الشيوعييون الكراهية لدستويفسكي ؟

وأجاب مورافيا على سؤاله بنفسه: إن السبب غاية في البساطة. إن كراهية راسكو لنيكوف للعجوز المرابية لها جذور مسيحية ..

فالواقع أن هذه الكراهية هي كراهية المسيحي في العصور الوسطى للتجارة والربح ، إدراك تنافر تعاليم الكتاب المقدس مع البنوك والمكاسب .(ومن هنا كراهية ستويفسكي لليهود.. وله مقالة شهيرة بهذا الصدد..)

إن هذه الكراهية وهذه الخصومة التي استمرت مئات الأعوام قديمًا هي التي سلمت البنوك والتجارة لأيدي اليهود ، حت جاء اليوم الذي أدركت فيه شعوب اوروبا المسيحية أن بإستطاعتها هي ذاتها أن تصبح من أصحاب البنوك والتجارة ، وأن تبقى على شيء من الخوف من الله في قلوب الناس . وهنا أيضا توقف عالم الإحتماع الشهير (ماكس فيبر) عند الأخلاقة البروتستنانتية والرأسمالية..وكذا الكالفينية..

على أن راسكو لنيكوف كان قد ظهر، مثله في ذلك مثل قوميسار الشعب ومثل ستالين ، في دولة من العصور الوسطى حيث تتحكم في البنوك وفي التجارة ، أجناس وجماعات إجتماعية محدودة ، جاء (راسكو لنيكوف) من بلد زراعي متخلف ما يزال وثيق الارتباط بالمسيحية البدائية الصوفية . لهذا كانت البنوك والتجارة تمثل بالنسبة لراسكو لنيكوف أعمالاً ربوية ، أما البورجوازية الاوربية والروسية اللتان تمارسان الربا فقد تحولتا الى العجوز المرابية ، ولهذا وجب قتل العجوز أي وجب القضاء على البورجوازية .

على أنه وفي هذا المكان تفترق الطرق بدستويفسكي والماركسية .

الماركسيون غير المسيحين على الإطلاق يقولون : هيا نسحق المرابين ونمشي قدمًا . بعد موت العجوز سوف نخلق مجتمعًا جديدًا بلا طبقات . وبلا مرابين . إن هذا المجتمع يبرر تمامًا قتل "المرابية "التي تفسرها الماركسيون كرمز للإستغلال والجشع الطبقي..وبالتالي بمجدون فعل (راسكولنيكوف)..إلّا أن دستويفسكي الذي بقى مسيحيًا، نراه بعد أن قادنا خطوة وراء الأخرى، عبر جميع مراحل الجريمة التي كان يفكر فيها دون خوف، والتي اختبرها آلاف المرات في قلبه، فيتوقف فجأة ، وبتحول حاد مفاجئ ، يعلن أن (راسكو لنيكوف) و(ستالين) ليسا على حق ليقول : لا.. لا يجب أن تقتل حتى ولو كان هذا لصالح البشرية..!!فقد قال المسيح : لا تقتل.

لذا يتراجع دستويفسكي المسيحي ويدفع (راسكو لنيكوف) إلى التوبة نصوحا ويأخذ مع حبيبته المومس (سونيا ميرميلادفا) في قراءة الكتاب المقدس .وهنا يضفي دستويفسكي عل نهاية روايته هالة من الوجد الصوفي.

وهنا الإتراق النهائي بين جدستويفسكي وماركس..إذ تدريجيًا، يواصل دستويفسكي قصة إعادة انبعاث الروح المسيحية الجديدة رويدًا رويداً في وجدان (راسكولنيكوف)، ثم إنتقاله من عالم إلى عالم آخر خطوة خطوة..بينما في منظار الماركسية كل هذا ليس سوى خطوتين إلى الوراء حسب عنوان كتاب الينين الشهير(خطوة للأمام خطوتان إلى الوراء).

طبعا جذر الخلاف بين دستويفسكي والماركسيبة يكمن في فهم (الشر).. فهو عند الماركسين يجسد في (العجوز المرابية) لكنه عند دستويفسكي أن (الشر) لم يكن في العجوز وإنما في (قتل) العجوز..أي في (العنف)..وبتعبير الماركسية في (الثورة)..وبالتالي كانت النظرة لدستوبفسكي اعتباره (رجعيا) وفق المنطق الثوري. .أي أن (الشر) عند الماركسيين شيء غير حقيقي، إذ لا توجد سوى مشكلة (الشر الإجتماعي أو الطبقي) المتمثل في الطبقة التي تمتلك المال ووسائل الانتاج، ويمكن تدميرها عن طريق (الثورة)..أما عند دستويفسكي ف (الشر) حقيقة فردية في قلب كل إنسان..!.. وهذا الشر ينعكس تحديدًا في وسائل (العنف) التي تطبقها (الثورة)..وهذاهو جذر الخلاف بين الأخلاق (المسيحية) والأخلاق (الثورية) .

لكن نظرة البرتو موافيا الثاقبة تذهب أبعد..حيث يرى أن الشر في رواية (الجريمة والعقاب) قد جرى تقديمه لا في الموت العنيف للعجوز المرابية ، وإنما أيضاً، وبالدرجة الأولى، في الموت العنيف الذي تعرضت له (ليزافيتا البريئة) المتدينة أخت المرابية والتي قتلها (راسكو لينكوف) ليتحاشى شهادتها على جريمته .

لكن مشكلة (الشر) ظلت تؤرق دستويفسكي، فعاد لها في أعماله الكبرى (الشياطين)، (الأبله) و(الأخوة كرمازوف)..على وجه التحديد.

  كتب بتأريخ :  الأحد 05-04-2015     عدد القراء :  3918       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced