تمييز
بقلم : طارق الربيـــــعي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

جاء النبي محمد بقيم ومفاهيم مخالفة لما كان سائدا آنذاك في مجتمع شبه الجزيرة العربية ، في محاولة منه لخلق أنماط سلوكيــة جديدة منسجمة مع مبادئ ونهج الدين الإسلامي . فقد حث على المساواة بين الناس ، وظل يردد على مسامع المسلمين بان لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، وان الله لا ينظر إلى الألوان والأعراق بل ينظر إلى القلوب ، وأن بني آدم سواسية كأسنان المشط وغيـــر ذلك من الأحاديث الداعية إلى المساواة والعدالة والقيم الإنسانية .

تجسدت تلك الأحاديث في شخصية النبي ، وعمل بما كان يدعو إليه ويبشر به ، وقد عين بلال وهو عبد أسود كمؤذن لمسجده في المدينة ، وذلك شرف كبير لم يكن ليراود بلال حتى في أحلام يقظته . وخاطب سلمان الفارسي يوما أمام المسلمين قائلا : سلمان منا أهل البيت . وسلمان هذا كان ذا بشرة سوداء أيضا . ثم استمر الصحابة والمسلمون سائرون على نهج نبيهم في المساواة ، فهذا عمر بن الخطاب يعين سلمان واليا على المدائن ، كذلك صنع مع عمار ابن ياسر واختاره واليا على الكوفة . ان ما قام به عمر يعتبر نقلة نوعية وانعطافة كبرى في أنساق مجتمع الجزيرة القائم على مفاهيم العنصرية والتمييز ، وقد كان لوقع تلك التعينات على الذين لم يؤمنــوا حقا بالإسلام كوقع الصاعقة على الرؤوس وتقبلوه على مضض .

لكن سرعان ما ارتد المسلمون على أعقابهم بمرور الوقت ، وعمدوا إلى إعادة القيم والأعراف التي كانت سائدة في عصر ما قبل الإسلام . فامتهنوا العبيد من أصحاب البشرة السوداء ، واحتقروهم ، وجعلوهم في مرتبة أدنى من مرتبة الخيول والجِمال والمواشي ، ولم يعترفوا لهم بأي حقوق إنسانيــة ، وكأن الله لم يخلق السود إلا ليكونوا عبيدا في خدمة أسيادهم البيض . ولم يجد هؤلاء المساكين من ينصفهم ويعيد لهم كرامتهم المهدورة ، ويقف بوجه النظرة العنصرية الموجهة ضدهم من قبل المجتمع الإسلامي بخلفاءه وفقهاءه وعامة ناسه .

لم ينتج عن هذه الحالــة إلا زيادة مشاعر الكراهيــة في نفوس العبيد من ذوي البشرة السوداء تجاه مجتمع لم يعاملهم معاملة البشر ، ولم يعمل بنهج النبي . بل استغلهم أبشع استغلال وسخرهم لأشق الأعمال دون أن يمنحهم ما يستحقون من أجر أو يشعرهم بإنسانيتهم . فأضمروا الحقد عليه ، وتأججت نار الكراهية في أعماقهم مثل براكين خامدة مهيئة للإنفجار في أية لحظة . والضغط الدائم لا بد أن يولد الانفجار ذات يـــوم.

فحدثت الثورة سنة 255 للهجرة في البصرة ، وسارع العبيد من كل الأرجاء إلى الانضمام إليها ، والقتال في سبيل الحريــة والعدل ورفع الظلم ، ولم تنجح الخلافة العباسية في قمعها أول الآمر ، رغم ما حشدت لها من جيوش ، وما تكبدته من خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات ، لا سيما وان الثوار وصلوا إلى الكوت وبدأو يهددون بغداد عاصمة الخلافــة .وفي تلك الفترة سادت الفوضى وعمت المجاعة وأزهقت آلاف الأرواح إلى أن تم إخماد الثورة وقتل زعيمها بعد 15 سنة من اندلاعها وعرفت تاريخيا باسم ثورة الزنج .

إلى يومنا هذا لا يزال التمييز العنصري قائما في العراق ،لا تخفيه شعارات العدالة والمساواة الزائفة التي ينادي بها الخطباء في معابدهم وفضائياتهم ، مفتخرين بأن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس . فنظرة سريعة (وعلى سبيل المثال ) من واقع العملية السياسية نستطيع خلالها أن نرى التمييز بأبشع صوره . فمنذ أن أمسكت أحزاب الإسلام السياسي بمقاليد الأمور في البلاد ، بعد الإطاحة بالطاغيـــة صدام عام 2003 ، لم نر في الحكومات المتعاقبة إنسانا (رجلا أم إمراة ) ذا بشرة سوداء . لا في زمرة الوزراء أو الوكلاء أو السفراء ، ولا بين أعضاء البرلمان وفي كل دوراته المتعاقبـــة رغم كثرة أعدادهم ، لم نره بين قادة الجيش أو الشرطة ، ولا بين الضباط الصغار ، أو المدراء العامون بل ولا في أي منصب مرموق في الدولة العراقيــة الجديدة . وكأن ذوي البشرة السوداء لا وجود لهم في العراق ، علما إن أعدادهم ليست قليلة بحيث لا نجد لهم أي أثر في الحياة السياسية .

هذا لا يؤكد إلا إننا مجتمع عنصري ، نمارس التمييز على أبناء جلدتنا بوقاحــة ، وندفع بهم الى التقوقع على ذواتهم ، ليصبحوا منبوذون معزولون مستبعدون عن أي مشاركة فعالة في الحياة . وقد لا حظت إن غالبية السود في العراق يفضلون العيش في مناطق أو حارات معينة تكون أشبه بمناطق الجيتو اليهودي (الجيتو حارة اليهود )، لا يستطيعون اختراق الحواجز التي وضعها المجتمع أمامهم . وأن لديهم ميول عنيفة في سلوكياتهم تجاه الآخريــن ، وليس من الإنصاف أن نحاسبهم أولا بل نحاسب المجتمع بقيمه وأعرافه ومفاهيمه الخاطئة .

إن تسليط الضوء على كهوفنا المظلمة سيكشف لنا الكثير من العاهات والأمراض الاجتماعية الخطيرة ، التي تهدد استقرار المجتمع العراقي ، وتفكك الأواصر بين مكوناته ، وما التمييز على أساس اللون إلا واحد من هذه العاهات المستفحلة فينــا منذ القدم . اعتقد بان علينا أن نشعر بالخجل من أنفسنا ومن سلوكياتنا المشوهه ونحاول تقويمها ، وان لا نرفع عقيرتنا بانتقاد الآخرين في دول العالم متهمينهم بالتمييز العنصري وتهميش الأقليات ، ونبحث عن مثالبهم وعيوبهم ونقائصهم ، ونتغافل عن أمراضنا وعاهاتنا الاجتماعيـــة فمن كان بيته من زجاج فالأولى بـــه أن لا يرمي الناس بحجر .

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-05-2015     عدد القراء :  1650       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced