الصوم الذكي
بقلم : د. صادق إطيمش
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

يحتفل المسلمون في كل عام بحلول شهر رمضان المبارك لديهم والمشمول بقدسية خاصة تتجلى فيها العبادات التي يمارسونها خصيصاً في هذا الشهر وفي مقدمتها الصيام الذي اشارت اليه الكثير من نصوص الدين الإسلامي. وينبئنا التاريخ بان عبادة الصيام هذه لم تكن من إيحاءات الدين الإسلامي، بل انها كانت تُمارَس قبل الإسلام بطرق مختلفة تختلف باختلاف الدين او البيئة. فقد مارسها منتسبو الديانات الهندية المختلفة، كما مارسها السومريون والبابليون والفراعنة والمجوس واليونانيون القدماء والصابئة كل على شاكلته وطقوسه حتى انتقلت إلى الأديان الإبراهيمية التوحيدية اليهودية والمسيحية والإسلام.

وفيما يتعلق بالصوم الإسلامي فإنه أخذ ابعاداً اصبحت مليئة بالتساؤلات حول طبيعة تطبيق هذا الفرض الديني الذي اعتبره الإسلام واحداً من اسسه الخمسة إلى جانب التوحيد والصلاة والزكاة والحج. وقد برزت هذه التساؤلات بشكل اكثر إلحاحاً وتركيزاً خاصة بعد ان انتشر الدين الإسلامي على بقاع تحتلف في طبيعتها المناخية والجغرافية عن منطقة شبه الجزيرة العربية التي نشأ عليها الإسلام. كما برزت هذه التساؤلات ايضاً حينما تغيرت طبيعة العمل اليومي الذي يمارسه الإنسان المسلم الملتزم عن ذلك العمل الذي كان يمارسه إنسان شبه الجزيرة العربية آنذاك، حيث اصبح من الضروري لدى مسلم اليوم ان يوفق بين عمله المجهد في البناء او المعامل او اي مجال من مجالات العمل الأخرى التي تتطلب ساعات عمل مضني لا يمكن التلاعب بها وبالقوانين التي تنظمها في كثير من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية التي يعيش فيها هذا المسلم الملتزم. بالإضافة إلى ذلك فإن كثيراً من المسلمين القاطنين في مناطق جغرافية لا ينطبق عليها المبدأ الإسلامي القائل بالأكل والشرب ابتداءً من إمكانية فرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود. او البدء بالصيام استناداً إلى رؤية الهلال التي قد تكون غير ممكنة في بعض المناطق الجغرافية التي يحل فيها شهر رمضان والتي لا يتحقق فيها تبادل الليل والنهار بالشكل الذي يحدث على ارض شبه الجزيرة العربية. بالإضافة إلى ذلك كله فإن مسألة العدالة في وقت الصيام غير متوفرة نهائياً إستناداً إلى حلول شهر رمضان باوقات مختلفة من الفصول السنوية وذلك حسب التقويم القمري في تثبيت شهور السنة. ففي الوقت الذي يكون فيه وقت صيام الشتاء لا يزيد على الثمان ساعات، نجد ان الصيام في فصل الصيف قد يتجاوز ضعف هذا الوقت.

إنطلاقاً من كل هذه الإشكاليات التي ترافق مسألة تطبيق الصيام، كفريضة دينية، ينبغي التفكير بامكانيات اخرى يستطيع من خلالها الإنسان المؤمن بتأدية هذه الفريضة من تأديتها دون الوقوع باشكالات وشكوك الإخلال بهذا الواجب الديني، لاسيما إذا علمنا بأن اغلب هذه الإشكالات هي من ابتكارات بعض فقهاء السلاطين الذين لا همَّ لهم إلا قلب الدين وتعاليمه من فضائل إلى سلاسل يكبلون بها الناس التي لا ترى دينها إلا من خلال الفطرية والبساطة التي يجدون انعكاساً واقعياً لها في عدم التكلفة فوق الطاقة التي تراها المبادئ الدينية ايضاً.

يمكننا التفكير في بعض هذه الإمكانيات والعمل على تسهيل تأدية هذه الفريضة وذلك من خلال النظر اليها كواجب ديني يأخذه الإنسان المؤمن مأخذ الجد من خلال التخطيط لتنفيذه عن قناعة به. أي التعامل مع المبدأ الديني الذي ينص على ان " الأعمال بالنيات " او " وعلى نياتكم تُرزَقون ". لقد اكد الملتقى الفقهي الإسلامي على اهمية مبدأ النيِّة هذا إنطلاقاً من الحديث القائل " إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى اجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم واعمالكم " معتبراً ان النية هي مدار الأعمال كلها، ويعتمد صحة الفعل وفساده عليها. وأكد على ان الأعمال الصادرة من المكلفين المؤمنين لا تصبح معتبرة شرعاً ولا يترتب عليها الثواب إلا بالنية الصادقة، بحيث جعلها من القواعد الفقهية الكبرى. وبما ان المؤمن ينوي صيام اليوم الثاني فعلاً، وإن هذه النيِّة حقيقية ولا يشوبها اي شك، لذلك فإن ما يتبعها من عمل، وهوالصيام في هذه الحالة، سيكون بلا شك قد تضمن الإعتبار الشرعي وأداء الفريضة هذه بالشكل الذي تترتب عليه الإثابة التي يرجوها الصائم من عمله هذا، وذلك بغض النظر عن الوقت المنوط بتأدية هذا الواجب.

كما ويمكن اخذ مسألة القدرة على تنفيذ هذا الواجب بنظر الإعتبار استناداً إلى النص الديني " لا يكلف الله نفساً إلا وِسعها". وفسح المجال لكل انسان مؤمن ان يؤدي هذه الفريضة بنية صادقة، وبالقدر الذي يستطيع عليه، دون ان يدخل في روعه عامل الخوف من عدم الإستطاعة، ااو الشعور بالذنب في حال عدم قدرته على الإستمرار على تأدية هذا الواجب، حسب القواعد العامة المعمول بها الآن. وتحديد عامل القدرة على اداء التكليف هنا يجب ان ينطلق من الثوابت الصحية العامة التي يستطيع كل إنسان ان يكتشفها في قواه دون الحاجة إلى اخصائيين في هذا المجال. فعلى سبيل المثال تلعب السوائل، وخاصة الماء دوراً فعالاً في استمرار جسم الإنسان على الحياة الإعتيادية. وإذا ما تعرض الجسم إلى قلة في السوائل، وبالأخص اثناء تأدية اعمال مرهقة تؤدي إلى فقدان الجسم للسوائل، او في اوقات ارتفاع درجات الحرارة، فإن العلوم الطبية تؤكد على ظهور اعراض سلبية على جسم الإنسان واعمال اجهزته يستطيع الشخص الشعور بها مباشرة. لذلك وتحقيقاً لمبدأ تنفيذ التكليف حسب القدرة يجب والحالة هذه عدم ترك الأمور تنحى هذا النحو الضار بجسم الإنسان، في حالة تنفيذ هذا الواجب الديني، دون اخذ قدرة الجسم عليه بنظر الإعتبار. واعتقد ان مبدأ " صوموا تصحوا" سيتحقق اكثر من خلال دراسة العلاقة بين قدرة الجسم واداء التكليف، خاصة اذا ما اضفنا إلى هذا الموضوع تناول الطعام بكثرة مفرطة عند الإفطار، مع قلة الحركة او قبل النوم بوقت قليل.

كما ويمكننا والحالة هذه ربط مسألة القدرة هذه مع الهدف من الصيام. تشير كل المصادر الفقهية إلى ان الهدف من جعل الصيام فريضة واجبة التنفيذ من قِبَل المؤمن بدينه، خاصة في حالة الصيام الإسلامية، هو تربية النفس اولاً، ومن ثم الشعور بما يعانيه الإنسان الذي تفرض عليه ظروف حياته الإقتصادية والإجتماعية الحرمان من كثير من المقومات الضرورية للحياة بشكل يومي مستمر يضمن حياةً طبيعية كالأكل والشرب ثانياً. بالنسبة للحالة الاولى المتعلقة بتربية النفس، فإن كثيراً من الشعوب والأديان تمارس الصوم بحيث يستغني الصائم لفترة معينة من السنة عن بعض او كل الأشياء التي يقوم بها برغبة يمكن ان تكون قد تطورت إلى عادة ثابتة او قاعدة من قواعد حياته التي يصعب عليه الإستغناء عنها. ففي المسيحية مثلاً يصوم الإنسان المؤمن بوجوب تأدية هذه الفريضة لمدة اربعين يوماً وفي وقت معين من السنة وذلك من خلال إمتناعه عن تناول القهوة او السكريات او اللحوم وما شابه ذلك مما يتناوله الإنسان بشكل اعتيادي يومياً. وهناك ما يشبه مثل هذا الصيام في الاديان الاخرى. وإلى ذلك يرمي الصيام في الإسلام ايضاً، حيث يربي الصائم نفسه على الصبر واجبارها على الإستغناء عن كل ما تشتهيه من مأكولات او مشروبات. ولا شك بأن لمثل هذه التربية النفسية مردودات ايجابية على شخصية الفرد وطبيعة حياته. اما الهدف الثاني فيمكن تحقيقه في الصيام الإسلامي ايضاً، حيث يبلغ الصائم حالة تجعله يشعر بمدى تأثير الإمتناع عن الأكل والشرب على طبيعة حياته اليومية في فترة الصيام القصيرة هذه، فكيف والحالة التي يستمر فيها الحرمان عن تناول ما يكفي لجسم الإنسان من الأكل والشرب لفترات قد تستغرق العمر كله عند بعض الطبقات الفقيرة في المجتمع. في الصيام الإسلامي يمكن للصائم ان يحقق هذين الهدفين، تربية النفس، والشعور بشعور الفقراء، إذا ما مورس الصوم لفترة زمنية يرى الصائم فيها بأن جسمه بدأ يتجاوز المقدرة الجسدية والنفسية على الإستمرار، إلا انه يصر على الإستمرار بالإمتناع عن الأكل والشرب تجاوزاً على قدراته. إن مثل هذا الإستمرار الذي قد يؤدي إلى اعراض غير صحية قد تشتد استناداً إلى طبيعة الجسم والأجواء التي يمارس فيها الصائم تأدية هذه الفريضة. وبذلك ينتفي الإلتزام بتنفيذ مبدأ " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " او " لا تلقوا بايديكم إلى التهلكة "

لقد اثار هذا الموضوع وزير الأوقاف الجزائري بحيث دعاه إلى الإدلاء بالتصريح التالي المنشور على صفحات الإنترنت:

" وزير الأوقاف الجزائري يدعو إلى تقليص رمضان إلى 13 يوماً ..... أثار وزير الأوقاف الجزائري سعيد السعدي عاصفة من الجدل بعد ان دعا المسلمين للصيام الذكي وتقليص شهر رمضان خلال الصيف إلى 13 يوماً فقط. وقال السعدي عبر صفحته بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك امس ان 30 يوماً من الصيام في الصيف تساوي 420 ساعة ما يعني زهاء 52 يوماً من الصيام في فصل الشتاء. وأضاف: بدلاً من الصيام شهراً كاملاً يمكن للمسلمين الإعتماد على الوحدة الرمضانية التي توازي 8 ساعات. وبعد ان دعا السعدي إلى ما اسماه الصيام الذكي الذي يتبع التوقيت الزمني، اورد ان الصائم يجب ان يراقب 30 وحدة رمضانية تساوي صيام 13 يوماً في الصيف فقط، مستطرداً انه بهذه الطريقة يمكن للصائم ان يؤدي ما افترض عليه دون ان يخل بنظام حياته اليومية ".

ممارسة الصيام لها مردود صحي إذا ما تمت حسب القواعد الطبية ومراعاة الظروف التي يمر بها الإنسان. لهذا نرى ان محدودية الصيام دينياً تشمل القادرين عليه جسدياً فقط، امر يقع ضمن مبدأ " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ". أما إذا تم التجاوز على هذه المقدرة والمبالغة فيها على حساب الطاقة المتوفرة فعلاً، فذلك امر لا يمكن ان يقع ضمن الحسابات الدينية او الإنسانية.

قد يتبجح بعض فقهاء السلاطين ومن يترسم خطاهم من الحكام بمبدأ الإلتزام بتعاليم الصيام الذي يفرضونه رغم كل الظروف وفي كل مكان. ولا يمكننا تفسير موقفهم هذا إلا من خلال النظر لكيفية ممارستهم لهذه الفريضة مقارنة بعوام الناس. وهل للذي يقضي يومه صائماً في الغرف والصالونات المكيفة التي لا يرى فيها سكنتها برداً ولا زمهريرا، نفس الأجر والثواب الديني الذي يلقاه عامل البناء الصائم تحت وهج الشمس الحارقة، او العامل الذي يقضي نهاره في اجواء المعامل وتحت وطأة اعمالها المرهقة، او الفلاح الذي لا يفارق حقله طيلة النهار ؟ إن كان لهذا وذاك نفس الأجر استناداً إلى قاعدة " ثم اتموا الصيام إلى الليل " ، فما علينا إلا ان نبحث عن المعنى الحقيقي للعدالة المعنية بتوزيع هذا الأجر.

  كتب بتأريخ :  الأحد 28-06-2015     عدد القراء :  2250       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced