من على أحدى صفحات التواصل الاجتماعي الفيس بوك شاهدت مقطع فيدو قصير يظهر فيه بعض الشباب الغاضبين وهم يحطمون كراسي المدرجات في ملعب الشعب الدولي ، إثر انتهاء مباريات بكرة القدم بين فريقي الشرطة ونفط الوسط . ويبدو أن هؤلاء الشباب لم ترق لهم نتيجة المباراة التي انتهت بخسارة فريقهم المفضل . مشهد طبيعي جدا حدث ويحدث في كل دول العالم المتحضرة والمتخلفة على حد سواء ، لكن التعليقات الكثيرة التي كتبت على هذا المقطع تشير إلى انعدام الإحساس وقلة الذوق ، والحكم بمنطق العواطف والمشاعر لا بمنطق العقل والتحليل .
تعليقات بذيئة ، تصف الشعب العراقي بأنه شعب متخلف وهمجي ، ولا يحرص على المال العام ، وإنه لا ينفع معه إلا الطغاة والمستبدين ، ولم ينسى هؤلاء المعلقين أن يستحضروا من باطن الأرض رفات الطاغية صدام ، باعتباره الرجل ذو القبضة الحديدية الذي كان ماسكا لزمام الأمور ، ومانعا لأي تجاوز . هكذا وبكل بساطة أختزل هؤلاء الشعب العراقي بأكمله ووضعوه في خانة الهمجية والإنحطاط لان بعض الشباب قاموا بتحطيم كراسي الملعب !! .
بالنسبة لي أرى في أحداث الشغب البسيطة هذه ظاهرة صحيــة ، إذ أن الشباب قد كسروا حاجز الخوف من السلطة وبطش النظام ، وأخذوا يعبرون عن مشاعرهم بطريقة تبرز مدى الكبت والقهر والتعسف الذي كان مسيطرا عليهم . لقد حدثت مآسي كبرى أثناء مباريات كرة القدم ، ففي عام 1985 ، وفي نهائيات كأس الأندية الأوربية وقبل بدء المباريات بين فريقي ليفربول الانكليزي ويوفانتس الايطالي بدأ المشجعون بتبادل الشتائم فيما بينهم ، ثم اندفعت الحشود البشرية لتكسر السياج الفاصل بين مشجعي الفريقين ، وحصل هيجان وتدافع ما أدى إلى انهيار جزء كبير من الجدار الصلب لأحد جوانب الملعب ، ونتيجة لذلك لقي 39 شخصا حتفهم ، وأصيب 600 شخصا إصابات بالغة ... ولم يظهر أحد ليشتم الشعب الانكليزي ويصفه بأنه همجي ومتخلف وبحاجة إلى طاغية لكي يشكمه . كذلك الحال مع الشعب الايطالي .
هذا الأمر يحدث عندنا فقط ، فبمجرد حادثة شاذة يستحضر الآخرون من مخزون الشتائم والكلمات البذيئة المتكدسة في لا وعيهم ليلصقوها بالشعب العراقــي ، متناسين إنهم من أبناء هذا الشعب أيضا . إن ما حدث من شغب بسيط هو حالة صحية وطبيعية بالنسبة لشباب كانوا يرتعدون خوفا من مجرد رؤيتهم لعنصر الأمن ، ولا يجرؤن على رفع أصواتهم والتعبير عن مشاعرهم . ويبدو لي ان الأمور تسير وفقا لسياقاتها الطبيعية ، وان الإنسان العراقي في طريقه إلى التحرر من كل سلطة جائرة ، وان كان ذلك يسير ببطء شديد لا يثير الانتباه . لكن مثل هذه الأحداث تفصح عنه . بالتأكيد انا لا أدعو إلى أن يكون التعبير عن مشاعر الغضب بمثل هكذا طريقة ، وإنما أنبه إلى إنها أمر طبيعي يحدث في الغالب عند معظم الشعوب لا سيما عندما تسود روح الجماعة على الموقف ، كذلك يجب الأخذ بنظر الاعتبار تأريخ وثقافة المجتمع العراقي المتوارثة من عقود القهر والاستبداد . إن من يغضب لأجل خسارة فريقه ، فإنه حتما سيغضب لأجل شيء آخر أكبــر من ذلك ، ومن يقوم بتحطيم كراسي المعلب الصغيرة ، فانه سيحطم كراسي كبيرة ومن نوع آخر في يــوم مـا ، وهذا ما نريــده ونطمح إليه ، شيء من الغضب ! .