هل مات زمن التريُّث والانتظار؟!
بقلم : د. لاهاي عبد الحسين
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

الدولة تنظيم سياسي يشتمل على عدد من المؤسسات الخادمة للرعية. ينطبق هذا التعريف على الدولة في كل زمان ومكان. المهم ألا تكونَ هذه المؤسسات صماء بكماء في صلتها بالرعية. إذا حدث هذا فمن الطبيعي أنْ يطالب المواطنون بالبحث عن بدائل. قد يكون البديل حزب يدعو إلى تفكيك مؤسسات الدولة وليس تمتينها ودعمها والعمل لصنع غيرها. مفهوم الثورة مفتوح لكل الإحتمالات في الزمن المعاصر. ما المبرر الذي يدفع مواطناً إلى المساهمة في حماية مؤسسات فاشلة وغير منتجة، بل وغير متفاعلة أصلاً. مؤسسات صار فيها موظف الاستعلامات حاكماً وليس مجرد دليل. للدولة رداء يتمثل بأخلاقيات عمل محددة تقوم على قيم ومعايير اجتماعية متعارف عليها ويعبّر عنها من خلال التفاعل اليومي والمستدام مع هموم الناس وقضاياهم وليس فقط عقد اللقاءات من على بُعد هكذا من وراء الحجب في القاعات المغلقة والمحكومة بإجراءات أمنية مشددة. تسترشد أخلاقيات الدولة بقيم المساواة والعدالة فيما بين المواطنين والحيلولة دون أنْ يشعر طرف بأنّه محظي على حساب طرف آخر أو مقصي لصالح طرف آخر.

في ضوء ما حدث السبت الماضي يتضح أنّ هناك إرادة شعبية سياسية مصرِّة على إيصال صوتها. بغض النظر عمن عبأها ودعاها فإنّ لاستجابة الملايين معنى لا تفسره الأفكار المجردة والتصورات التأملية بل تفسره الحشود التي تجمعت لتتفق على المطالبة بتغيير مجلس المفوضية العليا للإنتخابات وتغيير قانون الإنتخابات ليفسح المجال لتمثيل أوسع وأكثر عدالة وليطيح بالوجوه التي تعايشت مع الفشل حتى لكأنه صار ربيبها وتوأمها. لم يكن مجرد تبنّي لا أدري لهذه الحشود المليونية لهذين المطلبين الرئيسيين في هذه المرحلة. فالفكرة لا تمثّل نشاطاً مستقلاً عن حياة الجماعة بحسب المسلمات الفكرية لعلم اجتماع المعرفة. لا أحد يملك اليوم هذه القدرة على الدفع والتعبئة خارج أنْ تكون هناك مبررات واقعية مادية تتسم بدوافع شخصية واجتماعية حاكمة تتجلى فيما يعانيه المواطنون من متاعب أمنية ونقص في الخدمات وشحة في فرص العمل وتجاوز على حقوق الناس بلغت حد التلاعب بأرزاق ورواتب فقراء العمال الأجانب من بنغلاديشيين وغيرهم بحجة عدم توفر التخصيصات المالية اللازمة.

لم يحدث أنْ إنكفأ نظام بمثل ما يحدث اليوم في العراق. الحكم لا يحصل بـ "الريموت كونترول"، بل يحصل بالصلة والتفاعل والتواصل الاجتماعي الذي يمثل ثوب الستر والعافية لأي نظام يحرص على بقائه حياً وحاضراً. برغم التشكيلة الواسعة للدولة إبتداءً من رئاسة الجمهورية ومجلس رئاسة الوزراء ومجلس النواب والهيئات العديدة الأخرى فإنّ حالة واسعة من الإغتراب تعمّ البلاد اليوم لتصنع إنفصاماً غير مسبوق بين الدولة والمجتمع. إنعدام الحيوية وإنتشار ظاهرة الأداء الطقوسي الذي يهتم بالشكل على حساب المضمون وشيوع الترهل والتستر على الفاسدين إنّما هي ظواهر تميز الأنظمة المحتظرة. أما أنْ يحتظر نظام لا زال في أول العمر فتلك مسألة تدعو إلى نظر. وتلك المفوضية المعنية بالأمر تعبر عن وجهة نظرها وتحلل وتوصّف ما حصل كما جاء على لسان النائب فائق الشيخ علي في المؤتمر الصحفي الذي عقده في اليوم التالي لتظاهرات "السبت الدامي" لتوضيح موقفه. يبدو أنّ التداخل والخلط وسوء الفهم لمواصفات الوظيفة السياسية والمسؤولية التي تترتب عليها بلغت حداً لا يُطاق. فقد تحولت المفوضية من مفوضية مستقلة حيادية تقدم خدمة فنية مجرّدة إلى مفوضية تخضع للمحاصصة الطائفية والحزبية التي يفترض أنّها جاءت لمعالجتها والحدّ من تنمرها. حدث هذا في غفلة عما تعرفه الغالبية العظمى من جمهور الناخبين ممن أوكلوا المهمة لممثليهم في مجلس النواب فإذا بالأمر يتحول إلى خدعة وتلاعب وضحك على الذقون. مفوضية من هذا النوع وما يشبهها يفترض ألا تكون أكثر من سكرتير "يُرى ولا يُسمع". أمثال هؤلاء يؤدون واجبات مهنية بمواصفات فنية تقنية عالية ويتسمون بسلوك لا ينقلهم إلى مستوى المنظّر والمفسر والمحلل. تماماً كما الخطيب ممن يلقي الخطبة نقلاً عنْ وليس له أنْ يزيد أو ينقص فيها. أليس من حق المواطن أنْ يتساءل والحالة هذه أين الدولة! هل يعقل أنْ يدعى إلى تظاهرة مليونية وبمواعيد محددة مقدماً ولا نجد من يقول أصواتكم مسموعة! تلتقي رئيسة الوزراء البريطانية كل اسبوع بالبرلمان البريطاني لتقدم مشروعاتها وتواجه المعارضة البرلمانية الشرسة بدفاع لا يقل شراسة حتى تنجح بتمرير برنامج حكومتها. وكذلك تفعل المستشارة الألمانية التي لا تجد وقتاً لتضع أقراطاً في أذنيها أو أسورة ذهبية في معصميها تقدر أسعارها بآلاف الدولارات وتعود الى شقتها آخر النهار مثل أي مواطن ألماني آخر. ويخرج الرئيس الروماني ليعبر عن تضامنه مع المتظاهرين ويقرّ بوجود آفات للفساد لا بدّ من معالجتها مؤكداً بذلك على مبدأ مهم من مبادئ النظام الديموقراطي وهو أنّ الدولة لا تتضامن ضد المواطن، بل قد تختلف في ما بينها على مستوى المؤسسات والهيئات خدمة للهدف النهائي الذي يتمثل بتحقيق خير المجتمع والدولة بكل مكوناتها والحراك الشعبي بطبيعته هو المحرك الرئيس للعملية السياسية الديموقراطية السليمة. أما نحن هنا في بلاد الرافدين فلا نكاد نسمع صوتاً للمتصارعين المتشاتمين بصوت عالي فيما بينهم في مناسبات أخرى كثيرة. مسؤولون يعينون ناطقين رسميين برواتب وامتيازات عمل مبهرة بضمنها مكاتب واسعة وسكرتارية وتسهيلات فنية إنّما هؤلاء من نوع الناطقين الذين لا يكادون ينطقون بشيئ. وإذا حدث وحضروا تجمعاً أو احتفالاً وأضطروا للصعود إلى المنصة فإنّهم يستهلون حديثهم بلفت نظر جمهور الحاضرين إلى أنّهم لا يريدون الخوض في الكثير جداً من القضايا المهمة خشية تداول الفكرة وتأويلها ونسبتها إليهم وهذا ما لا يحبون فعله. أما المتحدثون عن "الفتنة" و"الغوغاء" فيستعجلون التوصيف. عرّف المسعودي صاحب "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، الغوغاء بأنّهم أولئك الذين "إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا". لا ينطبق هذا التعريف على متظاهري السبت ولا من سبقه من الأيام والجمع من حيث أنّ هؤلاء المتظاهرين معروفين ومنظمين أيدلوجياً ومناطقياً وطبقياً. الحياة السياسية والاجتماعية لا تسير وفق صفحات منفصلة ومتعاقبة. اليوم اليوم وليس غداً تدعم إنتصارات الجيش والشرطة والحشد الشعبي ومقاتلوا العشائر وكل المشاركين في معارك تحرير الأرض من خلال سياسات تعديلية إصلاحية قبل أنْ تصبح ثورية راديكالية يصعب التكهن بنتائجها. ثمّ إنّ العمل في مؤسسات فاشلة لم يعد ييني مجداً لأحد فلماذا التمسك بالكرسي الذي لم يجلب إلا مزيداً من الخيبات والإنتقادات الجارحة وسيول من السب والشتم التي لا سبيل إلى تفاديها في ظل عالم اليوم المتواصل جداً. هذه حالات لا يعاني منها المتظاهرون ممن لا يتمسكون بشئ عنوة ولا يشغلون بالهم بأكثر من حضور ومشاركة شعبية عامة ليعودوا أدراجهم من حيث أتوا دون أنْ يضعوا شيئاً ما في جيوبهم أو خزاناتهم الخاوية أصلاً.

قد لا تملك الحشود المليونية الأحصاءات اللازمة أو المفهومات والنظريات ذات الصلة ولكنهم يصنعون كل هذا بمحض نزولهم إلى الشارع وإسماع أصواتهم. السياسة والعمل بالسياسة ليس حصراً على المشتغلين في مؤسسات عمل معينة ممن يتوسمون مناصب أو يشغلون وظائف بعينها. بل للسياسة وجه آخر يعبر عنه صوت المواطن والجهة والطرف الذي يشعر بأنّ عليه أنْ يقوم بشيئ وما على المنتدب لوظيفة إلا أنْ يستمع جيداً لأنّ هؤلاء قوة والقوة قد لا تختار أيسر الطرق وأكثرها احتراماً إذا ما بلغ السيل الزبى. لقد مات زمن التريث والإنتظار وأزف زمن جديد لم يعد مسموحاً له أنْ يعود إلى الوراء.

  كتب بتأريخ :  الأحد 19-02-2017     عدد القراء :  2232       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced