امال العقل الثوري بين الديمقراطية والفوضى والوحشية ..
بقلم : جاسم المطير
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لا ادري هل ان المدعو وحشي بن حرب قاتل الحمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد هو شخصية حقيقية ام لا ..؟

لكن فيلم (الرسالة) الذي اخرجه الفنان مصطفى العقاد جعله حقيقة موجودة بالعقل السياسي الاسلامي المعاصر. هذا الوحش ،اسما وفعلا، اعلن اسلامه بعد جرائمه الوحشية و حظي برعاية خاصة من محمد بن عبد الله ، بل ان النبي محمد طمأنه ان الله عفا عنه وانه سينال الجنة بعد ان انزلت اية العفو العام عن ذنوبه وهو نفسه لم يكن مصدقا..!

معنى هذا القول ان الوحشية الدينية (الفردية) ظهرت في الاسلام مع ظهور وحشي بن حرب ، قالع كبد الشخصية الشجاعة المرسومة بالتاريخ (الحمزة بن عبد المطلب) ثم تجسدت صورتها (جماعياً) في معركة الطف حين قتل الشهيد الحسين بن علي بن ابي طالب وافراد عائلته الافذاذ بطريقة في منتهى البشاعة .

صار مصطلح الوحشية في العصر العربي الحديث مقرونا و منوطا بجماعة الإخوان المسلمين وجبهة النصرة وجيش المسلمين وجيش محمد والجوافش والدواعش وغيرهم من الجماعات التكفيرية . صارت هناك في العراق وفي غيره من البلدان العربية تنظيمات اسلامية جامحة ،منفعلة ، متوحشة، متدربة على استخدام السلاح لانتزاع اكباد الناس المسالمين من مختلف الاديان والمذاهب في سبايكر وطرابلس الغرب وسيناء واليمن والجزائر وتونس وجمهورية مالي وغيرها.. انهم احفاد وحشي بن حرب يصطادون ضحاياهم الابرياء من اجل الوصول الى ابواب جنة السماء .

ترى هل ان مصطلح الوحشية دخل الى اللغة العربية بنسب رمزي الى قاتل الحمزة (وحشي بن حرب) وهو مصطلح ذو معنى خارق تحول الى أيديولوجيا سفاكة هي الاكثر بشاعة في التاريخ الإنساني..؟ لا أدري ، لكن اقول: ربما.

هنا لا يمكن نسيان حقيقة اخرى هي انه حتى العقل الواعي الواسع العميق يمكن ان يكون مدمرا ايضا ، كما هو الحال في العقل العلمي – التكنولوجي .. هو عقل مدمر ، خاصة في نموذج السلاح الحربي المتنوع، الذري والكيمياوي. كان قصف هيروشيما بالقنبلة النووية نموذجا بشعا ضحية لهذا النوع من العقل العلمي .

هذا الكلام يعني ان هناك علاقة مباشرة بين (العقل) و(البناء) وعلاقة من نوع آخر بين (العقل) و(التدمير) .. هي علاقات متنوعة مرت على البشرية بمجموعها في مراحل ما قبل التاريخ وما بعده وصولا الى العصر الحالي.

كان هناك وما زال ارتباط بين العقل والتطرف السياسي، بين العقل والعنف ، كأداتين للسيطرة الاجتماعية، لازمها بنطاق واسع (العقل الديني) الذي خلق مجموعات شعبية قتالية واسعة في عمليات التدمير تهوّلَ نموذجها الاول في اقاصيص وحروب الفتوحات الاسلامية و الحروب الصليبية وغيرها من العمليات الحربية، حين كان التاريخ الانساني ضعيفا بما يملك من قوانين وقواعد حياتية وتطبيقات في السلوك الاجتماعي. العنف الديني والمذهبي والقومي في بلاد العرب والمسلمين وفي القارة الاوربية وصل الى حدود واشكال افعال (الوحشية) وهي مرحلة من مراحل البشرية قبل المشاعية البدائية وقبل اكتشاف الانسان للزراعة .

السؤال الكبير ،هنا ، بمناسبة الذكرى التاسعة والخمسين لقيام ثورة 14 تموز هو: هل كان عقل الثورة والثوار عقلا سياسيا اصلاحيا ام عقلا تدميريا..؟

دارت وتدور احاديث كثيرة بهذه المناسبة وتكتب افكار عديدة عن السلبي والايجابي حولها. قسم من مؤيدي الثورة يعتبرونها قصيدة الحرية والديمقراطية بمطلعها الاول وهم على حق. بينما تهاجمها الاخلاقية المعادية للحرية والديمقراطية وهم على خطأ من دون ان يتفوقوا على رؤياهم القاصرة . انهم يجردون الثورة من ظروفها بلا وعي ولا تأمل ولا مجرب.

الامر الصحيح يتطلب المزيد من البحث والتدقيق من جميع عناصر الثورة القدماء او ممن واكبوها وكانوا شهودا عليها لتلبية رغبات الاجيال القادمة عن مسيرة الثورة وعن مصيرها واخطائها وعن دور قوى النكاية بها والتكالب عليها ، التي هي في الجوهر نكاية بالشعب العراقي الثائر وتكالبا على جوهر الثورة نفسها . ترى هل تحتاج ثورة 14 تموز العراقية والثوار والمجتمع الى تحليل سيكولوجي فرويدي لوصف الوظائف العقلية للإنسان في لحظات الثورة الشعبية وكيف يمكن ان تتأثر كثيرا بالاضطرابات السياسية وبالتغييرات الفجائية وبالصراعات العنفية في الدولة والمجتمع . تماما مثل دروس ثورة 14 تموز الفرنسية عام 1789 حيث اصيب الانسان باندفاعات عصبية - عقلية لكنها لم تجبر احدا من المؤرخين على تغيير نظرية الثورة الفرنسية ورمزيتها ونتائجها .

هنا يتفرع سؤال آخر: هل كان المناخ العقلي الذي اوجدته الثورة يوم 14 تموز 1958 مناخا اعتياديا او مضطربا ..؟

منذ اليوم الاول للثورة وربما منذ ساعتها الاولى نتج صراع شديد بين الوعي واللاوعي، بين رؤية اصلاحية وبين اثارة عاطفية همجية ، بين عقل بناء وعقل تدميري ، بين مجموعة عسكرية مسلحة واعية يقودها عبد الكريم قاسم ومجموعة عسكرية أخرى ليست واعية يقودها عبد السلام عارف، بعد ان اطلقت غريزة (الوحشية) لنفسها حق قتل العائلة المالكة لمجرد الاشباع الغريزي لبعض ضباط افراد، غير واعين، قاموا بهذا الفعل الوحشي بمعنى ان الروح الثورية الديمقراطية لم تعلو على (العقل الوحشي) لانتزاع كبد النظام الملكي في يوم 14 تموز حين ابرع بعض الضباط في استخدام العقل المتوحش ضد العائلة المالكة المستسلمة في قصر النهاية . عومل المستسلمون بتوتر متوحش. ربما بتوجيه او بتحريض من العنصر القيادي الثاني للثورة، المتدين جدا والمدافع عن الاسلام والمسلمين في العراق عبد السلام عارف . انتهى احتلال القصر وانهاء النظام السياسي الملكي - السعيدي بطريقة درامية اصبحت تقليدا في مراحل لاحقة.. مثلما كانت تقليدا سابقا منذ الخلافة الاسلامية الراشدة في العصر القديم قبل 14 قرنا حتى عصر جماعة الاخوان المسلمين في مصر الذين سنوا شريعة ان الاسلام اجاز قتل الملوك والرؤساء والزعماء عند مواجهة الخصوم .

السؤال ، هنا: هل أثّر هذا الفعل على واقع الثورة من حالة الاستقرار المطلوب الى حالة الاضطراب في لحظة وقوعها مما أثّر بالتالي على جميع مراحل مستقبلها..؟

لا شك ان هذا الفعل – المقتل احدث ( صدمة) داخل العراق وخارجه . ظلت الصدمة موجودة في اعماق الانسان العراقي سواء من مؤيدي النظام الملكي القديم او النظام الجمهوري الجديد مما جعلها عائقا امام المجتمع العراقي لاسترداد عافيته بعد ذلك.

جاء شكل من اشكال التحريض على الوحشية والتوحش على ثورة 14 تموز بالتحريض ، أولاً، على أحدى قواها الفاعلة (الحزب الشيوعي) ، اللائذ منذ بيان تأسيسه قبل 83 عاما ، بالديمقراطية والمدنية والروح الحضارية في غالب سياسته اليومية، بما فيها بعض سياسة المجازفة أو الخاطئة. هذا الشكل من التحريض استند الى صبغة دينية معينة انطلق من صلب المرجعية الشيعية أي بما سمي فتوى المرجع محسن الحكيم مما جعل البعثيين في ما بعد معتمدين على هذه الفتوى في اصدار بيان رقم 13 المتسم بالوحشية . لا بد من التذكير ، هنا، بوجود موقفين جريئين عادلين آخرين مناقضين لتكفير الشيوعيين من مرجعيتين شيعيتين رفضتا الانسياق بموقف مماثل للمرجع محسن الحكيم . كان شاه ايران قد طلب من المرجع السيد ابو الحسن الاصفهاني في كربلاء عام 44 اصدار فتوى بتكفير حزب تودة الشيوعي الايراني، لكنه رفض لان تكفير الناس حرام عند الله والاسلام. كذلك رفض الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المرجع الشيعي في النجف تكفير الشيوعيين العراقيين عام 53 فقد وجد ان ليس من حق احد تكفير احد آخر.

بعد سنوات اقل من خمس على عمر ثورة تموز كان انقلاب 8 شباط 63 صدمة كبرى في التكفير والعدوانية فاقت جميع الصدمات و التوقعات بوحشيتها ، لكن لا احد من حكام العراق المسلمين اللاحقين حاول استعادة ثقة الشعب بالدولة العراقية بعد هذه الصدمة.

هاتان الصدمتان ( صدمة القصر الملكي وصدمة 8 شباط) اوجدتا عملية انفصام تبادلية بين الفرد والمجتمع، بين الناس والسلطة مما جعل انعداما تاما للثقة في علاقة المواطن بالدولة، خاصة بعد ان تحول (القاتل البعثي) الى (ضحية) يفتش عن اسلوب جديد يتحول بها الى قاتل جديد.

بهاتين الصدمتين اندمجت ثورة 14 تموز بالمعاناة القاسية والتكفير والعدوان عليها ، لتحويل مبادئها الى معارك سياسية بين قوتين: الاولى قوة واصلت العنف ضد الثورة بأشكال متعددة بعيد قيامها بما فيها عنف المحاولة عام 59 لاغتيال زعيمها. اما القوة الثانية فهي قوة شعبية افترضت مواصلة العمل الثوري منذ لحظة قيامها و حتى بعد سقوطها وقتل قادتها في مبنى الاذاعة يوم 9 شباط 63 واعدام اشجع مؤيديها في قصر النهاية ومراكز العذاب في مقرات الحرس القومي .

لا اريد الحديث التفصيلي عن ممارسات التوحش السياسي في التاريخ الانساني بالمجتمعات، كلها، لكنني اقصر حديثي اليوم بمناسبة الذكرى التاسعة والخمسين لثورة 14 تموز المولودة في محيط لم يخلو من وجود احفاد وحشي بن حرب في داخلها وخارجها صيّرها ضحية التوحش العراقي.

في الفترة التي اعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية تصور العالم ان تاريخ التوحش الرأسمالي – الفاشي قد انتهى بفوز القوى الديمقراطية على القوة الوحشية الفاشية والنازية، التي نظمها وقادها الرأسماليون الالمان والايطاليون باسم هتلر وموسوليني اللذين دخلا الى مزبلة التاريخ عام 1945 . لكن حرب فيتنام كشفت وحشية الامبريالية الامريكية .

في بلاد العرب كانت عودة (الوحشية) مسرعة في مصر حال قيام ثورة يوليو 1952 بقيادة مجموعة من الضباط العسكريين على رأسهم جمال عبد الناصر، الحالم ان يكون رمزا للقومية العربية.

نهضت الوحشية الجديدة في صفوف جماعة الاخوان المسلمين بقصد وهدف انتزاع كبد الثورة المصرية. صارت الوحشية طريقا اسهل لنيل بطاقة الدخول العربي – الاسلامي الى الجنة.

رفع الاخوان المسلمون في مصر شعار:( لا اله الا الله.. محمد رسول الله) الى جانب رفعهم البندقية والرشاشة والحزام الناسف والمفرقعة لقتل عبد الناصر وجماعته كوسيلة لنيل رضا وحشي بن حرب اولا ، متوهمين انهم سينالون رضا النبي محمد ثانيا . كانوا يريدون الدخول الى الجنة عن طريق التوحش فتدربوا على نفس الطباع والاساليب الوحشية المتوفرة في عقل جدهم وحشي بن حرب، الذي تدرب على قتل الحمزة بن عبد المطلب ، ليقتلوا جمال عبد الناصر واصحابه الضباط الاخرين وتصفية اجساد الشيوعيين المصريين.

نفس الشيء حدث في العراق فكان تحرك الوحشيين من قادة حزب البعث مقتدين بجدهم وحشي بن حرب لانتزاع كبد الحزب الشيوعي العراقي في 8 شباط 1963 حيث منحوا حركتهم الانقلابية الوحشية صفة اسلامية بتسميتها (ثورة 14 رمضان) بديلا لثورة 14 تموز الديمقراطية.

استمرت وحشية 14 رمضان بأشكال مختلفة وبأساليب متنوعة بهدف انتقال الوحشية من (حزب حاكم) قومي النزعة الى إلى (دولة محكومة) قومية النزعة، أي الانتقال من غرائز التوحش الفردي الى مؤسسات التوحش الجمعي، المبنية على تجارب نازية عصرية اسسها ناظم كزار وصدام حسين وفاضل البراك و طه الجزراوي و برزان ابراهيم وأمثالهم. كانوا يطبقون نظرية وحشي بن حرب في انتزاع اكباد الناس خلال اوائل قيام (ثورة 17 تموز) التي غطت اهدافها الوحشية ببعض الشعارات الوطنية لتكون بديلا اخر للقضاء نهائيا على مبادئ ثورة 14 تموز الديمقراطية بانتزاع اكباد مناضلين شيوعيين افراد في اوائل السبعينات من امثال ستار خضير عام 1969 وعبد الامير سعيد 1969 و محمد الخضري عام 1970 وشاكر محمود عام 1972 ومحمد جواد طعمة ومحمد حسن مبارك وصفاء الحافظ وصباح الدرة وعايدة ياسين عام 1980 كذلك تم اعدام 20 شيوعيا في قصر النهاية من قياديي تنظيم القيادة المركزية المنشق عن الحزب الشيوعي تمهيدا لانتزاع كبد الحزب الشيوعي كله .

كل هذه الافعال الاجرائية الاجرامية وآلاف غيرها في كردستان، أيضاً، كانت نتيجة واضحة لتحول قيادة حزب البعث من حليف للحزب الشيوعي قبيل وبعيد ثورة 14 تموز الى نوع من انواع الوحشية القومية نفذتها قيادة حزب البعث حسب نظرية وحشي بن حرب في انتزاع اكباد الناس المناضلين العراقيين بما فيهم مناضلين مسلمين من حزب الدعوة .

دخلت الوحشية الى صفوف حزب البعث وتعززت بقيادة صدام حسين المتوحش منذ طفولته ويفاعته . لم يتورع حتى من ممارسة الوحشية داخل حزبه عام 1979 حين اعدم حوالي 50 من قادة حزبه من مجموعات عدنان الحمداني ومحمد عايش وعبد الخالق السامرائي.

اراد قادة حزب البعث ان يجعلوا الوحشية والتوحش طيلة 8 سنوات من الحرب العراقية – الايرانية اداة عامة تتحكم بشعبين من الشعوب المنتجة للنفط ، في العراق وايران، حيث قدم كل شعب مليونا من الضحايا القتلى والجرحى والمعوقين.. كذا الحال في عمليات حلبجة والانفال . انتقلت الوحشية البعثية الى نوع آخر من التوحش بمعاملة عرب ومسلمين عراقيين (وحشيين) من اتباع وحش بن حرب لعرب مسلمين (مسالمين) اثناء احتلال الكويت بالرغم من أن قادة الدولة الكويتية زاولوا طيلة الحرب العراقية – الايرانية بشغف تام دعم قادة البعث ماليا ومعنويا وبالسلاح ايضا.

التوحش والوحشية انتقلا الى صفوف الحركة الكردية الديمقراطية ايضا حيث صارا لفترة من الفترات التسعينية اساسا مؤججا من قبل سلطة صدام حسين في العلاقة بين اربيل والسليمانية، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الكردستاني، سقط قتلى من الطرفين وانتزعت أكبادهم ، أيضاً.

اثناء الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 ظهرت طريقة وحشية جديدة ايضا كانت مصحوبة باتجاهين رئيسين في السياسة العراقية بديلين قاصمين لمبادئ ثورة 14 تموز، التي كانت حلما ناهضا من جديد يوم التاسع من نيسان 2003 في عيون الكثير من ابناء الشعب العراقي بعودة الاتجاه نحو الديمقراطية ومبادئ ثورة تموز:

• الاتجاه الاول سيّدَ (الفوضى) في ادارة البلاد وفي العلاقات السياسية بين مختلف القوى وفي المجتمع كله.

• الاتجاه الثاني ظهور الوحشية الاسلامية مجدداً حيث اوجدته ومارسته قوى تنظيم القاعدة برئاسة ابو مصعب الزرقاوي مسنودا من بعض الدول والحكومات العربية ذات العداء للمبادئ الديمقراطية.

كان المتوقع ابتداء من يوم 9 نيسان 2003 رحيل (التوحش) من العراق الى الابد بعد انهيار الدولة الوحشية الصدامية.

ادرك العراقيون او حلموا ان الوحشية ستهرب من العراق مثلما هرب البعث من الموقع القيادي الاول في النظام السياسي.

ما حدث بعد 9 نيسان كان نقيض الآمال والأحلام فقد تم تهريب الفوضى العمومية الى العراق إثر الاحتلال الامريكي، الذي رسم خط او خطوط الفوضى السياسية والاقتصادية والادارية والمالية حين استلم الحاكم المدني الامريكي بول بريمر دست الادارة الامريكية المطلقة، ممهدا السبيل خلال عام كامل من حكمه لتسليم سلطة الدولة العراقية المنهارة الى مجاميع الاسلام السياسي بحجة مشاركة جميع (مكونات) الشعب لتتبوأ حصتها في السلطة ، بينما كان المعنى الاساسي، هنا ، هو استعارة اصول (الطائفية) لبناء شبكة (المحاصصة) ذات الدلالات غير المنطقية في علوم السياسة، بل هي وسيلة من وسائل السيكولوجيا الاندهاشية لأنماء (الروح الذئبية) في اعماق الرأسمالية الاسلامية الناهضة في الدولة والمجتمع بنطاق واسع لم يشهده العراق من قبل، مما ادى ذلك النهوض الى بناء الجدران الاسمنتية في الشوارع والساحات العامة للفصل بين الطوائف المتقاتلة لكنه في الجوهر والواقع، وفر بناء الجدران بين القوى السياسية والادارية والإنسانية في المجتمع العراقي.

بغريزة الغابات الطائفية وبالرغبة المحاصصية الاوديبية انقسم المجتمع العراقي انقساما خطيرا لا شعوريا . صار لكل قوة سياسية ديوان وزاري هو حصة لحزب من احزاب (الاسلام السياسي) محروسة بميليشيا العقل الوحشي . اعتمد غالبية الحكام العراقيين الجدد من (الاسلام السياسي) على فكرة نهب المال العام وعلى المساهمة الفعالة في رسم الخطوط الاقتصادية لتنشئة وتطوير وتوطيد الرأسمالية الاسلامية العراقية المتوحشة ، التي ابتكر الاحتلال الامريكي خارطة وجودها.

لم يعد بالإمكان التفكير بالعودة الى أي مبدا من مبادئ ثورة 14 تموز، التي كان يحلم بها العراقيون، انما عاد (الخوف) الى تجديد نفسه في كل بيت وسوق وشارع ابتداء من عام 2005 حين بشرت الوزيرة الامريكية كوندوليزا رايز جميع العراقيين بما سمته (الفوضى الخلاقة) على اعتبار ان الفوضى تأتي بالحرية وان الديمقراطية هي نتاج (الفوضى) ، غير ان النتائج افاضت عكسيا فقد تحولت دولة المحاصصة الطائفية الى دولة بيروقراطية مغلقة انعدم فيها التنظيم العقلي وصارت الفوضى اهم قواعد الادارة الجديدة لجميع مؤسساتها ودوائرها.

بسرعة تحول الرأسمال الاسلامي الجديد الى قوة متوحشة تسعى الى حيازة السيطرة السياسية عن طريق اتحاد (المال) و (السلاح) بتصورات دينية لكي تسيطر على (الحكومة) و(البرلمان) و (القضاء) وجعل الانسان العراقي مواطنا بعقل ساكن خلافا لمبادئ ثورة تموز التي جعلت الانسان العراقي في العموم مواطنا مبدعا بعقل متحرك.

تحولت (الفوضى الخلاقة) خلال 14 سنة الى (ازمة كبرى) خلقت كل الظروف المتصلة بالعودة الى مخيال وفن وتأويل كل ما أحاط بالدور المميز في عقل ( وحشي بن حرب) القائل : اقتل وانزع اكباد الناس لضمان الدخول بعد التوبة الى الجنة.

بذلك انشطرت كل التقسيمات السياسية المتأسلمة الى التوحش الطائفي من دون انتباه الدولة والبرلمان والقضاء الى التشقق الحاصل في نسيج المجتمع ومن دون الانتباه الى الانكسارات المرئية واللامرئية في مجمل السياسة الاقتصادية والمالية المعرقلة لأي تقدم اجتماعي.

تفاقمت الازمات الاجتماعية والسياسية خلال 14 سنة مضت ،حتى وجدت خلالها ميليشيات التوحش ان مرتجاها الاول والاخير هو اعادة العراق والعراقيين الى مجرى (جمهورية الخوف) التي امتدت 35 عاما قبل عام 2003 لأن الخوف آلية جمعية عمت وتعم غالبية السكان لمنعهم من التمتع بالحرية وجعلهم مجرد مستهلكين اشياء متجددة كل يوم في عالم السوق الرأسمالية، بينما كل قضايا الناس ظلت و تظل محاطة بالخوف من انتزاع كبد المواطن العراقي او كبد طفله او حبيبته.

عاد التأوه من جديد الى المواطن العراقي تحت ظلال حكومة الاسلام السياسي العظمى حتى تصادمت خطوط الطول بخطوط العرض وتفسخ طقس الشتاء والربيع في البلاد العراقية كلها ممهدا مجيء العاشر من حزيران في صيف عام 2014 حيث سيطر الطاعون الوحشي بقفزات سريعة للمتوحشين السلفيين بإعلان دولة الخلافة الاسلامية (داعش) في مدينة الموصل وتغيير الزمان العراقي كله ببلوغ اعلى قمم الجرائم والقتل والاغتصاب واذلال الانسان بعد اختراق المدينة ونشر الرعب الفاشي خلال 3 سنوات دموية ليس فيها أي نظام او قانون غير القتل الوحشي ونزع اكباد الناس، اصبح فيه حال المواطن من شروق شمس الصباح حتى غروبها اما القتل او الاغتصاب او الاختطاف او النزوح او هدم الدور على رؤوس ساكنيها تحت ظل اعلام الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) المكتوب فيها باللون الابيض على القماش الاسود ( لا إله الا الله محمد رسول الله).

صحيح ان انهاء وجود تنظيم الدولة الاسلامية الوحشية داعش بالموصل يوم 10 تموز 2017 بعد ثلاث سنين من عدوانيته البشعة هو انتصار عسكري حققته القوات العسكرية العراقية، لكن هذا الانتصار لا يكفي لاختفاء ديناميكية القاتل – الضحية التي صارت ديناميكية يومية في عدد من محافظات العراق التي عززتها فعاليات الارهابيين من تنظيمات القاعدة وداعش وامثالهما ممن يمارس العنف الوحشي باسم الدين الاسلامي بطرق واساليب هي الاقصى في الغلو والتعصب وهي الاقصى في الكراهية وهي الاقصى في العدوانية .

في الواقع السياسي والاجتماعي فأن الخطاب الثقافي والمعرفة الثقافية وحدهما ليسا كافيين لتعزيز العقل الديمقراطي الضروري المطلوب على المستوى الزماني المستقبلي الابعد.

العقل الذي بإمكانه ان يفرض اولى الضرورات في مكافحة الارهاب المحلي والدولي هو كشف وتفنيد الجذر الاساسي للنمط العنفي الوحشي الذي مارسته داعش والقاعدة في العراق وسوريا ومصر وغيرها على وفق معتقد ديني منحرف ومتطرف يستمد اصوله من اصول الغلو والتطرف الذي ظهر وتعمق على مر الزمن الطويل منذ ظهور الاسلام حتى اليوم حيث بني على قواعد عقائدية وممارسات في المجتمع الاسلامي وربما تظهر مماثلاته في مدن او دول اسلامية اخرى مبتعدة عن مدنية المجتمع والدولة.

59 سنة مضت على ميلاد ثورة 14 تموز اثبتت شيئا واحدا هو ان الشيوعيين العراقيين وجميع الديمقراطيين لم ينخرطوا في سياسات الوحشية والتوحش السائدة في العراق منذ (ثورة 14 رمضان) عام 1963 حتى اللحظة الراهنة . كان الشيوعيون وما زالوا من اوائل الكاشفين لأصولها المناضلين الحقيقيين من اجل الخلاص منها .

ظل الشيوعيون والقاسميون والديمقراطيون في مستوى الاتساق مع الحرية والانسانية يحب بعضهم بعضا ويحبون شعبهم .

لا بد من القول اخيرا ان ثورة 14 تموز هي ثورة تاريخية شاملة بمعنى انها ثورة اجتماعية – اقتصادية – ادبية – فكرية يظل تأثيرها غالبا بمبادئها عبر المستقبل ،ايضا.. انها فكرة اقتحمت سياق التجربة في عالم السياسة العراقية ستظل نموذجا ساطعا من اجل حق الانسان العراقي انهزمت امامه كل انواع التمردات الوحشية في 8 شباط 1963 وفي 17 تموز 1968 وفي 10 حزيران 2014.

الثقة الاساسية لدى طلائع الشعب العراقي ان مبادئ ثورة 14 تموز ستعيد نفسها ، ستعيد احساسها وافعالها بالارتباط اليقظ الشجاع بمستقبل الشعب العراقي ولو بعد حين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 14 تموز 2017

  كتب بتأريخ :  الإثنين 17-07-2017     عدد القراء :  1794       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced