تظاهرات تشرين ...
بقلم : د. لاهاي عبد الحسين
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

تخوض ثلاث جماعات رئيسة تمثل عموم المجتمع العراقي منذ ما يقرب من أربعة أشهر صراعاً سياسياً يزداد حدة للمطالبة بحقوق وطنية عامة ومشروعة ولكنها مصادرة وهي كما يلي:

النظام السياسي بكل ما ينطوي عليه من أحزاب وكتل وجماعات وتحالفات معلنة وغير معلنة؛ المتظاهرون وهم أكثرية واسعة من الشباب إلى جانب الأنصار والمساندين من مختلف الأعمار والخلفيات الوطنية والاجتماعية؛ وأكثرية اجتماعية تلتزم الصمت والنأي عن الاشتراك المباشر في ساحات التظاهر. تشترك هذه الأخيرة بثبات وقوة بدلالة اتخاذها موقفاً من التظاهرات بين داعم من جهة، ومنتقد ومعارض لها من جهة أخرى مع ترجيح كفة الدعم والتعاطف من حيث الكم والنوع مكونة شبكة الأمان لمتظاهري تشرين والظهير الحامي لهم.

تتضح صحة القول إنّ هذه الجماعات تخوض صراعاً سياسياً لا طبقياً من خلال تبين الخصائص العامة لجمهورها. لا تضم هذه الجماعات أشخاصاً ذوي مواصفات اقتصادية محددة ومعروفة كالمحرومين من الملكية وغير المحرومين منها، أو الذين يملكون المال مقابل من لا يملكون منه شيئاً. تمثل كل الإنتماءات الطبقية في هذه الجماعات سواء على مستوى المتظاهرين أو على مستوى القوى السياسية والاجتماعية، والجماعة الاجتماعية، على وجه العموم. تجد فيهم من لا تعوزه الفرصة أو المال وما يجلبه من استقرار وأمان إلى جانب المعوزين فعلاً وحقاً. وتجد فيهم المتعلمين وغير المتعلمين والنساء والرجال بخلفيات مهنية واجتماعية واقتصادية شتى.

من جانب آخر، يلاحظ أنّه من وجهة نظر تقاطعية فإنّ هذه الجماعات لا تمارس نشاطاتها على نحو منعزل بين بعضها البعض بل تتداخل فيما بينها وبقوة في أحايين كثيرة. يحظى المتظاهرون على سبيل المثال بدعم كثيرين ممن لا يخرجون للمشاركة لعدة أسباب لعل في مقدمتها الظروف الصحية والعمر وأحياناً بعد المسافات بين المناطق وصولاً لساحات التظاهر، إلخ. في الوقت الذي حاول فيه ممثلو السلطة وخدمها اختراق التظاهرات فقد فوجئوا برفض صريح ومعلن من جانب المتظاهرين بسبب انعدام الثقة واتساع الشقة بينهما. هذا على العكس فيما يحدث بين المتظاهرين وجماعات العامة على مستوى المجتمع. وهذا ما أدى إلى تقوية التظاهرات وتعزيز مددها فيما عزل النظام والجماعات المكونة له. بيد أنّ جنوح البعض من المتظاهرين إلى التأثير على الحياة العامة من خلال منع الدوام بالمدارس والجامعات قسراً وتحريضاً وقطع الطرق وحرق الإطارات (التايرات) والمباني سرعان ما ساهم بسحب دعم عديد المتعاطفين معهم. وكان نتيجة ذلك أنْ أصيب السوق بركود ملحوظ وأتسم عمل المصارف ومراكز المال بالقلق والأضطراب وشاعت أجواء من عدم الأمان والإرتياح واقتربت دورة الحياة الإعتيادية من التوقف عن وقعها الروتيني والمنتظم. فقد كان لمحاولة وقف مجرى الحياة العامة تأثير سلبي تضرر منه المواطن المتعاطف والمحب وليس رؤوس النظام وممثليه ممن يمارسون نشاطاتهم ويعيشون حياتهم بمعزل عن بقية الجماعات سواء بالمنطقة الخضراء أو خارجها وحتى خارج العراق.

يلاحظ أنّ الجماعات الرئيسة الثلاث تتصف بخصائص عامة مشتركة تبرر اعتبارها جماعات مستقلة نسبياً ولكنّها تختلف فيما بينها بقدر تعلق الأمر بمصالحها الرئيسة. على سبيل المثال، لا تتفق الأطراف التي يتكون منها النظام السياسي على شيء في تفاصيل كثيرة تمس وحدة البلاد والعباد وحماية العراق من التدخلات الخارجية ولكنّها تتفق على التمسك بالسلطة والمناصب التي تضمن من خلالها بسط هيمنتها على المجتمع والقوى الفاعلة فيه. وعليه، فإنّه عندما تضطر أي من الجماعات الفرعية الداخلة فيه إلى قبول فكرة الإصلاح بضبابيتها وعموميتها يشترط أنْ تحصل من داخله ومن خلاله وبحسب تصوراته. ومع أنّه نظام تعاني أذرعه وأدواته من ضعف المؤهلات الفنية اللازمة ليقود إدارة الدولة بكفاءة ودرجة من الإقناع والمنطقية بيد أنّه ماهر جداً بالإستحواذ على السلطة والتمسك بها. يتصف المتظاهرون بذات الميل إلى الإنقسام والاختلاف وإنْ كان بدرجة أقل مما يجعل من فكرة "العقل الجمعي"، موضع تساؤل حاد. فقد صار واضحاً أنّ المتظاهرين لا يجمعون على شيء حتى وإنْ كان بالحد الأدنى المتوقع والمطلوب. ينادي المتظاهرون بوطن مستقل يشعرون فيه بآدميتهم من خلال المطالبة بحقوقهم في الحياة الحرة الكريمة ولكنّهم يختلفون على الكثير من المطالب المحددة. فما الذي يعنيه شعار "نريد وطن ..."! ألا يفترض أنْ يفصل هذا الشعار العام والفضفاض على جمالية وقعه على المسامع والآذان ليقدم تصورات معينة عما يعنونه بالوطن! هناك الكثير من المشاكل التي تعاني منها مختلف مؤسسات العمل حيث يمارس الفساد المالي والإداري وتهدر حقوق الأفراد ويستحوذ على فرصهم في التقدم والنماء مما لم يتردد صداه بصورة مسموعة في التظاهرات. يعاني المواطن العراقي من نظام صحي يزيده سقماً ولا يوفر الفرصة للتعافي بقدر ما يوفر الفرصة لتحويل هذا القطاع الخدمي المهم إلى مصدر لتجميع الثروات كما يتضح من خلال انخفاض نوعية الخدمات في المستشفيات الحكومية وارتفاع الأسعار في المستشفيات الأهلية والعيادات الخاصة. وهذه الصيدليات التي تمارس جشعاً ملموساً على مستوى توفير الأدوية وبيعها دون أنْ تمارس النقابتان المعنيتان، نقابة الصيادلة ونقابة الأطباء أي سلطة رقابية وتنظيمية عليها ناهيك عما يمكن القول فيما يتعلق بالحرب القائمة بين أصحاب الصيدليات المدعومة من قبل بعض أعضاء مجالس المحافظات أو الأحزاب على الصيدليات الأخرى التي تفقر وتعزل قسراً. وهؤلاء الطلبة يتخرجون بشهادات لا تكاد تغني ولا تسمن من جوع بسبب انخفاض مستوى نوعية التعليم الذي حول الجامعة إلى مجرد مرحلة زمنية تكاد تكون مجردة للحصول على الشهادة كإجازة مرور ليس إلا. بل أنّ بعض خيم المعتصمين من الطلبة سرعان ما أستقدمت تدريسيين وحامت حولهم دون المطالبة بتطوير مستوى الأداء. ولعل سائل يسأل عن أسباب انتشار المدارس الأهلية المكلفة التي يستفيد من خدماتها أبناء الميسورين فيما تترك الغالبية العظمى من الفقراء وأبناء الكادحين إلى مدارس يتحين معلموها ومدرسوها الفرص للتهرب من الدوام أو الإكتفاء بتقديم مادة علمية نمطية لا جهد فيها ولا إبداع. أضف إلى ذلك قلة المباني المدرسية المؤهلة وافتقارها إلى مستلزمات العمل واكتظاظها بالطلبة وتخلف المناهج عن متابعة التقدم العلمي الذي تمّ احرازه في العالم مما لا يوفر فرصاً للعمل المؤثر والمثمر.

هناك حرب ضمنية تتلفع بأوسط الكلام بين كل هذه الجماعات الرئيسة الثلاث. فالكل يدعي أنّه مع الإصلاح والتطوير ومحاربة الفساد بل ويثني على المتظاهرين الذين حركوا المياه الراكدة بحجر مجلجل والكل يعبر عن الرغبة في عراق مصون ومفعم بالحركة والنشاط والإنتاجية والعمل ولكن لا أحد يقوى على التصريح بتسمية رؤوس الفساد من كل الأطراف. تؤدي كل هذه المظاهر والأعراض إلى حالة من الشلل والضمور الذي لا يسمح إلا بالحدود الدنيا من الفعالية والنشاط تبعاً لتلبية الحاجات الضرورية جداً والتريث لما يفيض على ذلك. المشكلة أنّ هناك بعداً أخلاقياً معنوياً يميز كل جماعة من الجماعات المذكورة. يتصف الصنف الأول منها الذي يعنى بالنظام السياسي بأخلاقيات المحافظة على المصالح الفردية والحزبية والطرفية اعتماداً على المرجعيات السياسية ومصادر التمويل. وهذه أخلاقيات تجسد أقل قدر من العاطفة الإنسانية وأكبر قدر من التوحش طالما ارتبطت بالمصالح والماديات الجامدة الأمر الذي يجد التعبير عن نفسه بصيغة أعمال العنف التي شهدتها أماكن التظاهرات في أكثر من محافظة وبمستويات مروعة في التعمد لإيقاع الأذى والإساءة. يتصف الصنف الثاني ذي الصلة بالمتظاهرين بعواطف جياشة وأحلام كبيرة وثقة بالذات والمستقبل دون الإهتمام بما يفرضه الواقع من حواجز ومقيدات يتعلق بعضها بمصالح عموم الناس ومصادر عيشتهم. يحافظ الصنف الأخير الذي يتمثل في المجتمع على قدر من الإتزان ونوع من البرود الذي يسبق العاصفة تجاه احتمالات المستقبل. عموماً، حققت التظاهرات أهدافاً عامة مهمة لعل من أهمها إبراز الطبيعة الحية للمجتمع العراقي الذي أثبت ويثبت كل يوم أنّه عصي على الترويض والتنميط وأنّه ليس مجتمعاً يسهل استغفاله وبالتالي تحييده. إنّه مجتمع تطلعي اختلاطي منفتح وتواق للحياة وأنّه مقاوم لكل محاولات الكسر والعزل والتقسيم.

سيكون من الداعم لمتظاهري تشرين وأرواح الضحايا أنْ يعاد النظر بطرق التعبير وممارسة الضغط على القوى المتحكمة بالبلاد. لم يحدث أنْ تخلى مجتمع عن الدراسة كوسيلة من وسائل الضغط. هذه مدينة يوهان الصينية التي أبتليت بأنتشار فيروس كورونا القاتل تعلن إغلاق المدارس ولكنّها تستأنف الدراسة عن طريق وسائل التواصل الألكترونية لكي لا يتضرر الطالب بسبب اضطراره إلى عدم الدوام خلال هذه الفترة الطارئة. وعندما أراد السود في الولايات المتحدة إيصال صوتهم احتجاجاً على سياسة التمييز العنصري التي مورست بوحشية ضدهم انطلاقاً من ولاية ألاباما الجنوبية ذات الأكثرية السوداء (70%) قرروا مقاطعة وسائل النقل العام من خلال الإعتماد على سياراتهم الخاصة أو المشي لمسافات طويلة مما ألحق خسائر مالية مؤثرة بشركات النقل واضطر هذه الشركات إلى رفع القيود على السود في الباصات العامة. لم يتغيب هؤلاء المواطنين عن الدوام ولم ينقطعوا عن العمل ولم يفترشوا الساحات العامة ولكنّهم اتخذوا خطوات جماعية تضامنية أحرجت السلطة العنصرية البيضاء. سيتضح أنّ استخدام المعادلة السكانية بدون تنظيم فعال إنما هو استخدام فاشل وغير ذي فعالية مما يتطلب إعادة النظر بطرق التحرك لنيل المطالب والحقوق المشروعة التي سالت في سبيلها الدماء الزكية لما يقدر بـ 700 شهيد وشهيدة وأكثر من 25 ألف مصاب، إصابات بعضهم شديدة. ثمن لم يدفع بهذا الإسراف، في كثير من حركات الاحتجاج والتظاهر المعروفة حول العالم فيما يعطي النظام السياسي القائم آذاناً صماء لما يحدث من مآسٍ إنسانية وأخلاقية لا تخفى على أحد.

  كتب بتأريخ :  السبت 08-02-2020     عدد القراء :  1716       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced