«خطف أوروبا» لرمبراندت: هل ارتُكبت الجريمة بتواطؤ الضحية؟
نشر بواسطة: mod1
الأربعاء 17-09-2014
 
   
ابراهيم العريس

كانت أوروبا، كما تقول الأسطورة، ابنة تيليفاسا «الذي يلمع من بعيد» أو آرجيوبي «ذو الوجه الأبيض». وكانت ابنة أو شقيقة فينيكس، الأرجواني، أو أيضا الفينيقي. وتضيف الأسطورة انه ذات حين كانت أوروبا تقطف الزهور، مع صديقات لها، عند شاطئ البحر قرب صور أو صيدا، خرج زيوس فجأة من وسط مياه البحر وقد اتخذ لنفسه هذه المرة شكل ثور، ثم حملها على ظهره خاطفاً اياها غير مبال بصراخها، ونقلها على ذلك النحو الى جزيرة كريت، حيث تزوجها وأنجب منها ثلاثة أبناء هم: مينوس وساربيدون ورادامانت. وهو في أثناء ذلك قدم لها ثلاث هدايا هي: سهم يصل دائماً الى هدفه، كلب لا يترك مجالاً لأية طريدة تفلت منه، وعملاق صنع من البرونز مهمته حراسة الجزيرة تالوس، التي لا يمكن الوصول اليها إلا من نقطة واحدة.

> ونعرف بالطبع ان هذه الأسطورة المتداولة والتي تدرس حتى في المدارس الابتدائية في بعض البلدان، ومنها لبنان الذي يبدو معنياً بها أكثر من غيره من البلدان، لطالما فتنت الأدباء والشعراء والرسامين. وكان أوفيد واحداً من أوائل الذين فتنوا بها وعبّروا عن ذلك الافتتان في أشعارهم. لكن اللافت دائماً هو أن معظم اللوحات والرسوم التي انتشرت في القديم لتمثل خطف «الثور» زيوس أوروبا، كانت تصور هذه الأخيرة وهي على ظهر الثور، مستقيمة الظهر بحيث تبدو كسيدة في موكبها أكثر مما تبدو ضحية لواحدة من أشهر عمليات الخطف في التاريخ القديم. ومن الواضح في هذا السياق ان الرسامين إنما صوروا أوروبا دائماً كما يجب أن تكون: آلهة مؤسسة، لا ضحية لنزوة سيد كبير.

> والحال ان الرسامين الأكثر معاصرة بالنسبة إلينا، لم يبتعدوا من تلك النظرة المعهودة الى أوروبا. ولم يكونوا قليلي العدد، على أية حال، رسامو الأزمان الحديثة الذين سحروا بحكاية أوروبا وخطف زيوس لها، وصوروها، ومن بين أشهرهم، بالطبع، بيكاسو الذي عبر عن الحادثة بشكل موارب في لوحته «دورا والمينوتور» (1936) التي استكملها بلوحة أخرى له هي «المرأة والسكين» التي عكس فيها الأدوار، كما يقول الباحثان كريستيان دي بارتيلا وآلان روبا في كتابهما «تحولات أوروبا»، فصوّر المرأة وهي تطعن الحيوان بسكينها. وماتيس بدوره صور خطف أوروبا في لوحة رسمها العام 1929 واشتغل عليها، كما قال هو نفسه، ثلاث سنوات، ليطلع بمشهد يتناقض تماماً مع كل ما رسمه الآخرون: في لوحته هذه تطالعنا أوروبا جالسة بهدوء عارية على ظهر الثور الذي لا يقل عنها هدوءاً واستكانة. وفي مقابل لوحة ماتيس هذه يأتي الألماني ماكس بيكمان ليصور المشهد في العام 1933 بشكل فجائعي تبدو فيه أوروبا صارخة مرغمة على الخضوع والثور يزأر واثقاً من نفسه.

> مهما يكن من أمر هنا، فإن رسامي العصور الأكثر قدماً لم يكونوا، على أية حال، أقل اهتماماً بأسطورة أوروبا، من زملائهم الحديثين. إذ ها هو تيتيان يرسم المشهد في واحدة من أجمل لوحاته، وفيه صوّر أوروبا جالسة على ظهر الثور تعبر عن موقف أقل ما يمكن ان يقال فيه انه ملتبس، فيما ملائكة (على شكل كيوبيد إله الحب) ترافقها في سفرها. ومن المعروف تاريخياً أن لوحة «خطف أوروبا» لتيتيان (1562) تعتبر أول لوحة أضفت على المشهد طابعاً درامياً، بل لا يخلو من فجائعية. لكنها ليست اللوحة الأشهر في تلك الأزمان بالطبع. ذلك ان هذه المكانة محفوظة دائماً للرسام الهولندي الكبير رمبراندت.

> فرمبراندت بدوره، فتن بأسطورة أوروبا. وتقول سيرة حياته وأعماله إنه لكي يحقق المشهد في لوحة تعتبر اليوم من أشهر أعماله (وكذلك من أهم مقتنيات متحف غيتي في لوس انجيليس في الولايات المتحدة الأميركية) قرأ الكثير من النصوص والأشعار عن الحكاية. ولا سيما ما كتبه أوفيد، الذي استقى منه الرسام تفاصيل الحدث في شكل مباشر، وإن كان كثر من مؤرخي الفن يرون أيضاً أن الشاعر الفرنسي رونسار كان مصدراً أساسياً من مصادر اشتغال رمبراندت على لوحته. ذلك ان لوحة الرسام تكاد تكون، في روحيتها العامة، ترجمة لمقطع جاء في الكتاب الثالث لـ «أناشيد» رونسار الصادر في العام 1555، حيث يقول المقطع: «كان لأوروبا شعر أشقر ولون بشرتها كان يبدو شبيهاً بالزهور وقد تفتحت/ كانت عيناها خضراوين وكانت بقعتان من لون أحمر داكن تتوجان شفتيها الورديتين/ وكان ثوبها يحمل مرافئ لا تعدّ ولا تُحصى، أنهاراً كثيرة وجزراً لا حصر لعددها/ ومن ثنايا ذلك الثوب كانت تخرج الأسوار السميكة التي تحيط بمليون مدينة ومدينة».

> وعلى أية حال هنا لا بد من الإشارة الى أن رمبراندت حين وجد ذات يوم متعته في رسم هذه الأسطورة، وفي إسداء هذه التحية الى الفاتنة التي استقى منها أهل القارة في الأزمان الساحقة اسم قارتهم علماً أن الكلمة تعني في الاغريقية القديمة «ذات العينين الكبيرتين»، آثر أن يجعل للمشهد خصوصية مبتكرة: فالمشهد هو بالطبع، مشهد الثور وهو يصل الى ضفة النهر حيث أوروبا تلهو مع رفيقاتها، ليخطفها ويجتاز بها البحار، لكن الديكور الذي جعله الرسام في خلفية ذلك المشهد كان ديكوراً معاصراً له لا يمت الى عالم فينيقيا القديمة بصلة. والحال أن هذا الأسلوب كان طاغياً في الرسم في شمال أوروبا في تلك الأزمان. ونحن إذا ما نظرنا، مثلاً، الى مشاهد الأساطير الاغريقية وقد صورها فنان كبير، لا يقل أهمية عن رمبراندت، وهو بروغل الكبير، سنلاحظ كيف انه جعل المشاهد التي يُفترض انها حدثت في اليونان القديمة، تدور في مدن هولندية. ولم يكن ذلك، نابعاً، بالطبع، من افتقار الرسامين الى مخيلة تنقلهم، بصرياً، الى الأماكن البعيدة ليصوروا المشهد في اطاره التاريخي، بل كان نابعاً من رغبة لديهم في اعادة تفسير الأسطورة وعصرنتها، بحيث يجد مشاهد اللوحة نفسه أمام اطار مألوف لمشهد يعرف عنه الكثير ذهنياً وحان الوقت ليتعرف إليه بصرياً.

> والى هذا النمط من مفاهيم اعادة تموضع المشهد، تنتمي هذه اللوحة التي كان رمبراندت لا يزال في السادسة والعشرين من عمره حين رسمها... على هذا النحو قسم رمبراندت فضاء لوحته قسمين: ففي الخلفية لدينا صورة لمدينة ومرفأ على البحر يشبهان الى حد كبير مدن المرافئ في ذلك الحين. أما في الجانب الأيسر من مقدمة اللوحة فلدينا رفيقات أوروبا وهن ينتحبن على ما يحدث لها، مرتديات ثياباً تنتمي الى الثياب الأوروبية - ولا سيما الهولندية - في زمن رمبراندت، لا في الزمن الفينيقي. أما أيمن المقدمة فيشغلها بالطبع مشهد أوروبا وهي على ظهر الثور. ولئن كان الثور واثقاً مما فعل ويسير في طريقه نحو البحر من دون تردد أو من دون أن يضطر الى بذل أي جهد، فإن موقف أوروبا يبدو هنا شديد الالتباس: صحيح انها تنظر نحو رفيقاتها وربما أيضاً نحو وطنها الذي تجبر هكذا على مغادرته، بشيء من الحسرة والحزن. لكن حركة يديها المتمسكتين بالثور تحمل كل الالتباس: لأنها تبدو هنا - والى حد ما - متواطئة مع خاطفها متمسكة به، بأكثر مما تبدو خاشية للسقوط عن ظهره والغرق... إذ إنها هنا لا تزال قرب الشاطئ ولا خطر عليها إن هي وقعت.

> واضح أن رمبراندت هارفزون فان رين (1606 - 1669) وضع أوروبا في هذه اللوحة أمام قدرها ومصيرها وصوّر، ليس فقط عدم قدرتها في الافلات منهما، بل ربما أيضاً عدم رغبتها في ذلك. ولوحة «خطف أوروبا» لرمبراندت هي، على أية حال، واحدة من مشاهد تاريخية وأسطورية عدة صورها، خلال تلك الفترة من حياته، رسام هجس دائماً بمشاهد التاريخ - الديني والأسطوري والدنيوي أيضا - ورسمها في لوحات صنعت له مجده، بمقدار ما صنعته لوحاته المعاصرة والواقعية، ثم بخاصة عشرات البورتريهات التي صور فيها نفسه، فكان مجلياً ورائداً أيضاً في تصوير الذات.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced