وقفة عند علاقة المكان بالإبداع..
ما بين العام 1881-1888 عاش العبقري المتمرد فريدريك نيتشـه في عزلة قرب منطقة البحيرات في سلفابلانرزي وبالتحديد قرب بحيرة سيليس التي تقع اليوم في سويسرا.. هناك رأى صخرة هائلة أشبه بهرم متهدم..ولحظتها جدحت في ذهنه فكرة كتابه الخالد (هكذا تكلم زارادشت)..الذي أعدّه البعض إنجيلاُ للحداثة الأوربية وأشهر كتبها في القرن العشرين على الاطلاق..ولا يزال، بينما حينما نشر نيتشه كتابه في ذلك الوقت،لم يستطع أن يبيع منه إلا نسخاً معدودة..ووزع الكثير من نسخه الثلثمائه على أصدقائه، الذين تقبلوها استحياءً ومجاملة..ومعظم النسخ الباقية أتلفت في المخازن.
الصخرة اليوم أشبه بمزار لسواح تلك المناطق حيث وضعت لافته كبيرة عليها تشير إلى انها الصخرة التي استوحى منها نيتشه فكرته عن زارادشت وعن العود الأبدي الذي أنشغل بها في ما بعد كل من غوستاف يونغ ومرسيا إلياد وغيرهم....وهي الصخرة التي كان يقصدها في مطلع كتابه (هكذا تكلم زارادشت) حيث يقول: (لما بلغ زارا الثلاثين من عمره، هجر وطنه وبحيرته وسار إلى الجبل حيث أقام عشر سنوات يتمتع بعزلته وتفكيره إلى أن تبدلت سريرته، فنهض يوماً من رقاده مع انبثاق الفجر وانتصب امام الشمس يناجيها..)..
سحر المكان الذي اعتزل فيه نيتشه وجماله الأخاذ يبعث على السكينة والتأمل الفلسفي والوجودي..ويساعد على فهم شاعرية لغة ذلك الكتاب الخالد وهيمنة الطبيعة على استعاراته الفنية واللغوية المذهلة، وتلك الروحانية العجيبة في فكر نيتشه المضاد لللاهوت السماوي.
صخرة نيتشه دفعتني للتفكير في علاقة الجبال بالرسالات الروحانية الكبرى وبالتعاليم الشاملة ...فموسى صعد إلى جبل الطور أو (وادي طوى) كما جاء في القرآن، والذي يسمى اليوم بجبل موسى في سيناء ليأتي بعد عزلته بالوصايا العشر.. والنبي محمد يعتكف في غار حراء ليهبط عليه الوحي...وحتى الرهبان الذين فروا من بطش السلطة الرومانية كانوا يلوذون الى الجبال ليبنوا هناك أديرتهم...بل إن بوذا هو من منطقة جبال الهمالايا السامقة..أتُرى للجبال علاقة بالتأملات الروحية..؟..ربما..!!..لكني متأكد بأن للمكان سحره وجاذبيته وتأثيره الخفي والظاهر على الإبداع في لحظته..لحظة الكتابة في درجة صفر.. متسعيراً عنوان المفكر رولان بارت الشهير.
الصور:
الأولى هي صخرة نيتشه التي عندها ولدت فكرة (هكذا تكلم زارادشت).
الصورة الثانية هي لنيتشه في السنة التي بدأ فيها كتابة (هكذا تكلم زارادشت).
الصورة الثالثةهي للبيت الذي سكن نيتشه لسنوات عديدة في إحدى غرفه والذي يقع في منطقة (سيلس -ماريا).
الصورة الرابعة هي للقرية والبحيرة التي قربها في وقتنا .