الحضارة وتعّددية الثقافات.. في ظل التأثير والتأثر
نشر بواسطة: iwladmins
الأحد 14-01-2018
 
   
د. نجم عبدالله كاظم

ثلاثة مصطلحات بالعربية مقابل اثنين بالإنكليزية تحضر معاً لتلتقي في الدلالات غالباً، وقد تفترق فيما بين بعضها والبعض الآخر، والعربية هي: حضارة، ومدنية، وثقافة، والإنكليزية هي: Civilization و Culture، وإذا كانت الثقافة هي الأفكار النظرية والعقلية وما قد يلحق بها من تاريخ وفكر وأخلاق، والمدنية هي العلوم التجريبية التطبيقية، فإن تعريف الحضارة يكشف التقاءها مع الكثير من ذلك، حين تشمل العلوم النظرية العقلية والتجريبية التطبيقية والممارسات الروحية.

وتوقفاً عند مصطلحَي (ثقافة) و(حضارة) تحديداً، نعتقد أنهما عربياً وإنكليزياً كثيراً ما يتداخلان، وغالباً ما يُطلقان على أمر واحد، وقد يُطلقان على أمرين، نجد بهما (الثقافة) جزءاً من (الحضارة). فهناك من يفرّق بينهما، فيعتبر الثقافة صورة النشاط الروحي والفكري، والحضارة صورة النشاط المادي. وهناك من يجعل الحضارة كلمة جامعة وشاملة للنشاط المادي والثقافي معاً، فيعرّفها بأنها ما تَوصّل إليه مجتمع من المجتمعات فى الفنون والآداب والعلوم والعمران والديانات والأخلاقيات. وقد يعبّر آخرون عنها، بما لا يُبعدها عن ذلك، فيرى أنها جميع النشاطات الإنسانيّة، من دنيويّة ودينيّة وروحيّة وماديّة وعقليّة. وهي في كل هذه الرؤى الشاملة تقوم على أربعة عناصر أساسيّة، هي: الاقتصاد أولاً، والنُظم السياسيّة ثانياً، والتقاليد الخُلقيّة ثالثاً، والعلوم والفنون رابعاً وقد ينقسم العنصر الأخير إلى عنصرين. وفعّل البعض الآخر هذه العناصر مع ربطها بالزمان والمكان، فرآها في حالة المجتمع الإنساني حين يدخل في حالة منظمة من التطور الثقافي، والاجتماعي، والعلمي، والمدنيّ، وغيرها من مجالات تطور الحياة المختلفة، وكل ذلك في مكان معين، وفي فترة زمنيّة معيّنة، بتعبير آخر هي جملة مظاهر الرُّقِى العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في مجتمع أو مجتمعات متشابهة.

وإذا ما ذهبنا، من ذلك كله، مع التفرّيق ما بين الحضارة، والثقافة، ونحن نفعل ذلك، فإن الثقافة تبقى أحد مكوّنات الحضارة. ولهذا قيل إن ثقافة أي شعب هي ركن أساس من أركان حضارته، والثقافات في كل العصور هي التي تعكس ملامح الوجوه الحضارية المتعددة بل هي تُسهم بصياغتها. بقي أن نقول، تعلّقاً بهذه الفهوم العديدة، إذا كانت الحضارة قديماً تعكس ثقافة كل شعب وخصوصيتَه، وبالتالي امتلاكها لوجه واحد إلى حد كبير، فإنها ما عادت كذلك، فصارت ذات وحوه متعددة تبعاً للمكوّن الثقافي فيها، حين صار هذا المكوّن متعدداً أو تعددياً، في ظل تلاقي الثقافات وفي النتيجة تعددية أشكالها لدى كل شعب من الشعوب. وما عاد من الممكن لشعب أن يصنع حضارة، بدون التلاقح مع الآخرين ثقافياً، أعني بدون حضور آخرين وثقافات آخرين.. وكل ذلك إنما يتحقق لا من هذا التلاقي في حد ذاته بل مما يصاحبه بالضرورة، نعني التأثير والتأثر الذي يعني بدوره، وتحديداً حين يكون عاماً وعلى مستوى الأمم والشعوب، مثاقفة، وهي الظاهرة أو العملية التي تطورت وتعددت تسمياتها عبر الزمن من حوار حضارات وصراع حضارات وغير ذلك. من هنا تأتي أهمية التأثير والتأثر في الثقافة بجميع أوجهها، وسنتوقف قليلاً عند هذه العملية أو الظاهرة ولكن في الأدب تحديداً، كونها فيه ستنطبق إلى حد كبير على الكثير من حقولها أو أوجهها الأخرى. ونحن هنا قد نثير النقاش حول الظاهرة أكثر مما نشرحها.

ربط مقارنو الأدب لاسيما الفرنسيين الدراسة المقارِنة بتواريخ الآداب وبالصلات التاريخية والأدبية بين الآداب القومية مشدّدين في ذلك على شرط تحقّق الصلات أو التلاقي ووقوع التأثير والتأثر فيما بينها. وكون التأثير والتأثر أحد عوامل تداخل الآداب والثقافات فإنه يعمل، بدرجة أو بأخرى، في عملية صيرورة الحضارات، كون الثقافة أحد مكونات الحضارة، كما قلنا، الأمر الذي، إضافة إلى تعددية الحضارات نفسها، يجعل من كل حضارة بحد ذاتها متعددة الثقافات، كما يجعل من الصعوبة بمكان أن نجد حضارةَ أمةٍ نقية، إذا صح التعبير. من هنا تأتي أهمية التأثير والتأثر الثقافي وضمنه الأدبي بالطبع في تكوّننا نحن البشر وتحضّرنا، وتبعاً لذلك تأتي أهمية دراسة هذه الظاهرة، وهو ما يقوم به الأدب المقارن، خصوصاً وفق المدرسة الفرنسية.

ولكن هنا من السهولة للمتتبع أن يرصد خلطاً وسوء فهمٍ لهذه الظاهرة في الأدب والإبداع عموماً وللقول بهما في النقد، وهو الخلط أو سوء الفهم الذي يمكن تصنيفه كظاهرة في وجهين: هو في الوجه الأول انعكاس لما نسميها حساسية المبدع إزاء القول بتأثره بغيره، التي قد تصل إلى الرد عليه بانفعال وعصبية أحياناً، وربما بإثارة صخب. أما الوجه الثاني فهو الفهم الخاطئ، ولا نبالغ إذا ما قلنا الساذج أحياناً، لما يعنيه التأثير والتأثر، والجهل الذي يبدو أحياناً كبيراً بالأدب المقارن بشكل عام، وهو ما قاد نقاداً وأدباء إلى أن يفهموا القول بتأثر أديب بآخر على أنه سرقة، وقاد آخرين إلى أن يروا فعلاً التأثر الواقع في نصوص أو مؤلفات كاتب ما على أنه سرقة، وعليه فإن تلك النصوص والمؤلفات تفقد، في رأيهم الخاطئ، أصالتها أو جودتها. وقاد هذا الفهم فريقاً ثالثاً إلى الربط بين أي تشابهين في عملين أو في أعمال لأديبين على أنه اقتباس أو ربما سرقة، في وقت قد لا يكون فيه حتى تأثّراً.

ونعود إلى ظاهرة التأثير والتأثر، ولكن بمعزل عن الفهم الخاطئ هذه المرة، لنقول إن أي أدب قومي، كما هو شأن أي قومية وأي مجتمع بل أي فرد، لا يمكن أن يعيش وينمو ويتطور بمعزل عن الآداب القومية الأخرى. إن أمر التأثير والتأثر واقع لا محال على مستوى الآداب القومية عموماً، ومنها الأدب العربي الحديث، وعلى مستوى الأدباء والأعمال. كما ليس من كاتب في أي أدب قومي، وضمن أي فن أدبي بمنجى من ذلك، بل هو أمر لا مفر منه للوصول والتطور. وهذا هو أحد مستويات التلاقح الثقافي ما بين الأمم والشعوب وآدابها وثقافتها. وهكذا نجد، إضافة إلى تعدد الحضارات، أن حضارة كل أمة ذات ثقافات متعددة، أو على الأقل ذات ثقافة بأصول متعددة وفي النتيجة تكون بوجوه متعددة.

المدى

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced