غيابه ليس ككل غياب
نشر بواسطة: mod1
الجمعة 26-01-2018
 
   
سعاد الجزائري

(الغياب)، مفردة يتراوح تأثيرها بين الشوق الشفيف والألم الأسود، ولا نشعر بوقعها إلا عندما تصبح أبدية في فعلها ووقعها، عندما تتأكد إن الذي كان معك بكل لحظات حياتك قد فارقك ورحل ولن يعود إليك ثانية..

تركني أخي ثائر، ثم أختي إكرام، ثم والدتي ووالدي، وكلهم رحلوا عن بعد، حيث كنت في أقصى الدنيا، وهم في أقصاها الثاني، هزّني رحيلهم، لكن عدم تواجدي المستمر معهم لأكثر من 25 عاماً، لم يترك بي هذا الوجع الذي يستيقظ فيك كل لحظة عندما تجد، بين دقائق وثواني يومك، كتاباً وقد طويت صفحته لأنه لم يُكمل قراءاته، أو عندما تصحو صباحاً فتجد فنجان قهوته مازال ساخناً ينتظره، أو تقلب أوراقك وتقرأ رسالة كتب فيها عبارة : (أنتِ أغنيتي)، بحضور تلك الآثار، يصعب النسيان..

مرة، بعد رحيله بسنة ونصف، أردت إغلاق باب غرفة المكتب التي لا نغلقها عادة، فوجدت بيجامته الزرقاء والمخططة بالأبيض والأصفر) معلقة أمامي خلف الباب، يومها صرخت بأعلى صوتي، لم يكن معي أحد، لذلك سقطت صرختي الفزعة على الأرض فسمعت صداها، هذا المشهد أعاده لي للحظات، بقيت لوقت غير قصير، أنظر لهذا الشيء الذي ينتمي إليه، وأنا أرتجف، لأن فزعي كان اليقين الذي أكد لي إنه لن يعود بعد.

قررت أختي أن يجمعوا أغراضه تدريجياً ويخفوها، وتبرعوا بالبعض منها لمحلات جمع التبرعات الخيرية، لكني أخفيت عنهم الكثير، لانها لا تنتمي له فقط، بل تنتمي لفترة في حياتي، كانت الأسعد حتى الآن، أشياؤه التي تمثل حضوره المادي والإنساني..

لم يكن أنيقاً بملبسه فقط، بل بكل شيء، بطريقته في تحضير كأسه اليومي، وفنجان قهوته الصباحية، ليتأنق بعدها استعدادا للكتابة، التي لم تكن بالنسبة له طقسا يوميا مقدسا، وإنما هو موعد عشقي يتسامى معه، وسكن وجدانه، فينفرد مع كلماته، ويؤدي صلاته الفكرية بخشوع كامل، رغم أن أفكاره بدأت تنزوي بداخله، لاختلافه مع الكثير من القضايا السياسية التي تحيطه، والتي نحّت به بعيداً عن الوجدان، فاعتزل الحياة العامة، ولا يلتقي إلا مع عدد محدود جداً من الأصدقاء، أولهم فخري كريم، صديقه الأقرب.

غيابه ليس ككل غياب، لأننا في الثلاث سنوات الأخيرة لم نفترق أبداً، حتى عندما كنت أعمل في مؤسسة المدى أثناء إطلاق فضائيتها، كان يأتي معي، ويبقى حتى موعد عودتنا للبيت، لذلك بقيت وما زلت أشعر بضياع وعدم استقرار في أي مكان أكون فيه، في لندن حيث بيتي، أو في العراق متنقلة بين بيوت أقارب وأصدقاء، أو في سفري المتواصل بحثاً عن مكان لا أشعر فيه بوحدتي، يتحقق ذلك آنياً ثم تستيقظ الوحدة كمارد نهض من قمقمه..

الوحدة، لا يعرفها إلا من شعر بها وهو بين جمهرة من الناس، أو عندما تفقد بوصلة اتجاهاتك، فتبقى تدور حول نفسك. قد تلهيك بعض الأحداث، أو القضايا، لكن الإحساس بالوحدة يبقى الأكثر حضوراً وانتشاراً في صحراء الغياب الأخير..

مثلما غيابه ليس ككل غياب، كذلك حضوره الهادىء والراقي، ليس ككل حضور آخر..

ورغم إنه قليل الكلام، لكنه يقول الكثير بصمته وبحسه النقي..

في عالمه الجديد سيحب، كما هو دائماً، وسيتوله عشقا، لأنه لن يكون غير ذلك..

وفي عالمي الجديد سأحب، كما أنا دائماً، وسأتولّه عشقاً، ولهذا تلتقي روحانا في مكان ما..

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced