لم تعد الرثاثة في العراق مجرد تراجع في الذوق، ولا انحداراً عفوياً في الذائقة، بل غدت واجهةً سياسيةً لطغمةٍ لا تريد لهذا المجتمع أن ينهض أو يفكِّر. إنها بنيةٌ ثقافيةٌ أُنتجت ووُظِّفت بعنايةٍ لتخدير الوعي، وتفكيك الحسّ النقدي، وتجريد الناس من أدوات الفهم والاحتجاج.
لم تعد الرثاثة مجرد انعكاسٍ لانحدار الذوق العام، بل تحوّلت إلى أداةٍ استراتيجيةٍ في يد الطغمة، تُغلِّف الفساد والتخلف بغلافٍ ناعمٍ لا يثير مواجهةً مباشرة. فهي تُروّض الذوق العام على التسطيح والبلادة، وتُضعف القدرة على التمييز بين الممكن والمفروض، وتُقلِّل من الميل للاعتراض أو مساءلة الواقع. بهذا المعنى، تسهم الرثاثة في تشكيل وعيٍ مطيعٍ، يتكيّف مع الرداءة بوصفها قدراً، ومع الانهيار كأنه نتيجةٌ حتميةٌ لا يُساءل أحد عنها.
تتسرّب هذه البنية إلى تفاصيل الحياة اليومية: في البرامج التي تحتفي بالتفاهة، في خطاب المشعوذ الذي يروِّج للغيبيات بدل الحقوق، وفي استعراضات الانحطاط، وفي نماذج "النجاح" القائمة على الابتذال. إنها رثاثةٌ ممنهجةٌ، تُدار من الأعلى وتُزرع في الأسفل، لتُفرغ المجال العام من كل ما هو تنويري أو نقدي. في مناخٍ يُقمع فيه التفكير، وتُهمَّش فيه النخب، وتُغذّى فيه الأمية، تصبح الرداءة هي القاعدة، لا الاستثناء.
ولهذا، فإن الطغمة لا تكتفي بالفساد، بل ترعى الرداءة كضمانٍ لاستمرار سطوتها: رداءة في الذوق، في الخطاب، وفي مستوى الوعي العام. في بلدٍ تتفاقم فيه الفجوة الطبقية، لا يكفي إفقار الناس مادياً، بل يُضاف إليه تجريف الوعي، وتطبيع الانحدار بوصفه الواقع الوحيد الممكن.
فمن إعلامٍ سطحيٍّ وتعليمٍ مفرغٍ من التفكير، إلى "بروباغندا" مزوّقة تُخفي الخراب، وتستبدل المعرفة بالخرافة، وتروّج للجهل كقيمةٍ وهوية. وكلما اتسعت أحزمة الفقر وارتفعت نسب الأمية، بات الجهل وسيلةً للحكم، لا مجرد نتيجةٍ له.
الرثاثة هنا ليست مجرد ذوقٍ رديء، بل أداةٌ لإعادة إنتاج التخلف.هي ما يدفع المواطن المهمَّش إلى اللهاث وراء أوهام الخلاص عبر برامج فارغة، أو إلى التماهي مع وعودٍ غيبية، بدل المطالبة بحقه في السكن والصحة والتعليم.
في قلب هذا المشهد، تتمدَّد ثقافةٌ استهلاكيةٌ جوفاء، لا تصنع معنى، بل تغذّي الإحساس بالنقص.
يُروَّج فيها لنمطِ عيشٍ مفصولٍ عن الواقع، وتُقاس القيمة بما يُشترى، لا بما يُنتَج أو يُفكَّر فيه.
وإلى جانب ذلك، يُكرَّس نمطُ تفكيرٍ سطحي، تُغذّيه احتفالاتٌ فارغة، ومهرجاناتٌ شكليةٌ تُقام في مدنٍ محرومةٍ من أبسط مقوّمات الحياة.
وما يزيد الفجوة الطبقية فجاجةً، هذا البذخُ المستفزُّ الذي تمارسه الطغمة الحاكمة بلا خجل: سفراتٌ رسمية، مواكب صاخبة، قصور وولائم، بينما يُجبر الفقراء على التنازل عن حقّ أبنائهم في التعليم، وعن دواء مرضاهم. إنه بذخٌ لا يُعبّر عن ثراء، بل عن قسوةٍ رمزية، تُذكّر الفقراء يومياً بموقعهم خارج المعادلة.
ومع كلّ ذلك، لا تُطفئ الرثاثة الحاجةَ العميقة إلى الكرامة والمعرفة. فكلُّ طبقةٍ مسحوقة، وإن بدا صمتها طويلاً، تحمل داخلها أسئلتها المؤجَّلة، وأشواقها لما هو أصدق وأعمق. ومواجهة هذا الخراب لا تبدأ بالشعارات، بل باستعادة الوعي النقدي، وربط المعرفة بالحياة اليومية، والنضال من أجل العدالة والكرامة. فلا نهضةَ بلا معنى، ولا تغييرَ بلا وعي.
طريق الشعب