منذ عقود والعراق يعاني من مشكلات بيئية خطيرة، بضمنها التغيرات المناخية وتداعياتها المتفاقمة، التي صارت تهدد حاضره ومستقبله، عاماً بعد عام، مقرونة بتصاعد موجات الحر الشديد، وقلة الأمطار، وشحة المياه، وإتساع رقعة الجفاف والتصحر، وتراجع الغطاء النباتي، وتزايد العواصف الغبارية، وتفاقم تلوث التربة والمياه والهواء، بشتى الملوثات،وأخطرها الإشعاع والغازات السامة والمعادن الثقيلة، مما جعل البيئة العراقية ،بكافة عناصرها، تواجه تحديات كبيرة.
ومع تفاقم المشكلات البيئية والصحية المترابطة وثيق الإرتباط،والتي نشرنا عنها كثيراً وحذرنا من مغبة تجاهلها، تعاظمت الحاجة إلى تحرك حكومي جاد لحماية المواطنين والمجتمع العراقي من تبعاتها الخطيرة.
وقد عول المواطنون كثيراً على حكومات ما بعد 2003 لتقوم بواجبها في هذا المضمار،إلا ان فترة العقدين المنصرمين أثبتت أنها (الحكومات المتعاقبة) لم تختلف كثيراً بمواقفها من المشكلات البيئية والصحية عن مواقف النظام البعثي المقبور في الإهمال والتجاهل والتهرب من المسؤولية.
فالنظام البعثي المقبور كان يحارب، وحتى يصفي جسدياً، كل من يتحدث عن المشاكل البيئية والصحية.وحكومات ما بعد سقوطه لم تضع، حتى الساخنة منها، ضمن أولوياتها، لا بل إعتبرت من يطالب بمعالجتها " بطران". ووفق هذا المنطق تجاهلت وأهملت أخطر تداعياتها، ومنعت وهددت بمعاقبة كل من ينشر الإحصائيات الرسمية عنها..وإستكملت منطقها بألغاء وزارة البيئة، كوزارة مستقلة، ودمجتها مع وزارة الصحة. ثم تراجعت لمتطلبات محاصصاتية.ولم يعد لوزارة العلوم والتكنولوجيا وجود.وأما البحث العلمي الرصين، في هذا المضمار، والعراق بأمس الحاجة إليه، فقد أصبح تحت رحمة مزوري الشهادات، وغير المهنيين وغير الكفوئين وغير الحريصين والولائيين لغير العراق- من " بركات" المنظومة السلطوية للمحاصصة الطائفية والإثنية وتقاسم المغانم بين الأحزاب المتنفذة،.
ورغم مرور 22 عاماً، وإنفاقها أكثر من 1450 مليار دولار من أموال الشعب، معظمها ذهب الى جيوب حيتان الفساد، وفيما تقدم الملايين كمساعدات لدول أخرى، أفرغت خزينة العراق وجعلته يستجدي المساعدات المالية البخسة (2 و 3 ملايين دولار) من الدول الأوربية والمنظمات الدولية، لـ"تنفيذ" مشاريعه، التي لم ينفذ منها ما هو حقاً وفعلآ لصالح معالجة المشكلات البيئية والصحية.
وثبت ان حكومات (العراق الجديد) تتعمد وضع تخصيصات مالية، ضمن الميزانية السنوية، غير كافية، بل وبائسة، لمعالجة المشكلات البيئة، وفي مقدمتها اَثار التغيرات المناخية،ا الأمر الذي دفع بـ (مرصد العراق الأخضر) المختص بالبيئة، الى التهديد في 29/5/2023، بـ “اللجوء الى القضاء، والطعن بالموازنة، ما لم تتضمن تخصيصات مالية خاصة بمكافحة التغير المناخي في العراق،الذي نتج عنه انحسار اعداد كبيرة من الأراضي التي كانت صالحة للزراعة، الى جانب نفوق اَلاف الحيوانات، وزيادة العواصف الترابية، وارتفاع معدلات الاصابة بالأمراض السرطانية والاوبئة. وساهم في انقراض العديد من المهن المرتبطة بالمياه، وهجرة المواطنين من الأرياف نحو المدن".
وأكد المرصد "مخالفة الحكومة لبرنامجها الذي نص على معالجة القضايا البيئية التي لها تأثير مباشر على صحة الناس”. وإن “غياب التخصيصات المالية للجانب البيئي يدل على أن قضايا التصحر والجفاف غير مهمة لدى الجهات الحكومية".
وصاحب الإهمال السافر جهل مؤسساتي سلطوي في تقدير ما للتأثيرات المناخية من عواقب وخيمة، ليس على صحة الإنسان فحسب، وإنما على واقعه الإقتصادي والمجتمعي، حيث تقود مضاعفة حجم الآثار السلبية إلى اهدار طاقات بشرية وإقتصادية في حال لم تتم معالجتها-كما حذر الكاتب أحمد عباس في عام 2012 (1).
وإقتراناً بهذا الواقع لم يلمس المواطن العراقي إهتمام الحكومات المتعاقبة جدياً بالحلول والمعالجات، وأقر رئيس الجمهورية د.عبد اللطيف رشيد بان الحكومة " ما تزال تبحث عن حلول فعالة ومستدامة".وهو ما يعني مواصلة الضحك على ذقون البسطاء والسذج..
فلو أرادت الحكومة حقاً وفعلآ التوصل للحلول المطلوبة،فالحلول الشافية موجودة في: وثيقة "المساهمات المحددة وطنياً للعراق بشأن التغيرات المناخية"،التي أقرها مجلس الوزراء في 17/10 /2021 ، وجاء في ملخصها التنفيذي: "هي مساهمة وطنية طوعية ورؤيا تمثل سياسة العراق العليا في التعامل مع مشكلة تغير المناخ وطنياً ودولياً"، وان " العراق يقدم هذه الخطة الطموحة التي تم فيها إعتماد كافة الخطط والإستراتيجيات الوطنية ذات العلاقة بتغير المناخ لتكون متوافقة مع الإحتياجات والتوجهات الوطنية التنموية لكافة القطاعات لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وطنيا ودولياً في إجراء تحولات نوعية وجذرية تدريجية وحسب الإمكانيات الوطنية المتاحة في حال تم تحقيق الأمن والسلام وتوفير الموارد الإقتصادية لضمان تحقيق العيش الكريم لشعب العراق"..ونصت الوثيقة على ان العراق يطمح الى تنفيذ مساهماته المحددة وطنياً للفترة الزمنية من 2021 ولغاية 2030 (2). وكان يفترض ان تجدد المساهمات المحددة وطنياً كل خمس سنوات.
وقدمت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) حلولاً ومعالجات واقعية بشأن التغيرات المناخية، ولعل أبرزها "ستراتيجيات التخفيف و التكيف مع التغير المناخي"، التي رسمت خارطة طريق لمواجهة أسبابه وتحدياته، وبذات الوقت التكيف مع ما يمكن التكيف معه، دولياً وإقليمياً ووطنياً.. لا نعتقد بان الجهات العراقية المعنية قد درست تلك الإستراتيجيات، ورسمت في ضوئها ستراتيجية وطنية عملية تنقذ العراق، وأثبتت بأنها عازمة حقاً وفعلآ على تنفيذ ما أعلنته..
كما وان الحلول والمعالجات تضمنها "مشروع إنعاش بلاد الرافدين لمواجهة آثار التغيّر المُناخي في العراق" ، الذي قدمه رئيس الجمهورية د.برهم صالح وتبناه مجلس الوزرا. وجاء فيه: "يجب أن يصبح التصدي لتغير المناخ أولوية وطنية للعراق، ولا مجال للتقاعس، اذ يُعدُ العراق من أكثر البلدان عرضة لمخاطر تأثير تغير المناخ"(3).
وتضمنتها توصيات "مؤتمر المناخ الأول للعراق"، الذي عقد في البصرة في اَذار 2023،وإفتتحه رئيس مجلس الوزراء السوداني..
وتضمنتها قبل ذلك مقترحات العديد من العلماء والأكاديميين والخبراء، التي قدموها للحكومة، ولم تأخذ بها، وماطلت بشأنها. وبقيّت حبراً على ورق..
لقد ثبت بما لا يقبل الشك إهمال الحكومات المتعاقبة، ومجلس النواب، ولجنة الصحة والبيئة النيابية ، اأخطر المشكلات البيئية والصحية الساخنة، ولم تهتم بأي مقترح أو مشروع قدم لها من شأنه ان يساعد على التخفيف من وطأة تلك المشكلات وتداعياتها.
وأقرت وثيقة للسلطة بأن الدولة العراقية، خاصة بعد عام 2003 " أصدرت العديد من التشريعات الهادفة لحماية البيئة ،الا ان ظروف البلد الأمنية لم تساعد في تنفيذها بشكل تام، وتوجد حاجة لتشريعات أخرى وتحديث الموجود منها لتتماشى مع متطلبات مواجهة التغيرات المناخية.".. ولم يحصل ذلك لحد الآن.. فلماذا ؟!!
لقد شخص الخبراء بملف البيئة في العراق، منذ عدة سنوات، إهمالا حكومياً صارخاً تجاه مؤشرات التغير المناخي الواضحة، ونبهوا الى إفتقار العراق لمقومات مواجهة تداعياته، ويعود ذلك لعوامل ذاتية وموضوعية، يمكن التغلب عليها لو توفرت الإرادة السياسية. بيد ان الموقف الحكومي ظل طابعه الغالب التجاهل والإهمال، والمماطلة والتسويف، وحتى الكذب الصلف لتبرير التقصير والإهمال واللاأبالية والفشل، مع غياب المتابعة والمحاسبة ..
حيال ما تابعناه من تقاعس وتقصير وفشل ذريع، ، لم نبالغ أو نتجنى عندما شككنا قبل عدة سنوات بتنفيذ ما أعلنته الحكومات المتعاقبة،وهي التي لم تنفذ ما سبقتها من أستراتيجيات وخطط وطنية بيئية مهمة. وكتبنا عندئذ أنها ستركنها على الرف، وستبقى حبراً على ورق، وتبقى المشاكل بلا حلول، والضحية المواطنين الذين تهدد صحتهم وحياتهم المشكلات المذكورة ، بينما يقبض المسؤولون المتنفذون الملايين من أموال الشعب شهرياً دون وجه حق ..هكذا هو الحال في عراق اليوم !.. ولن يتغير الحال ما لم تتغير المنظومة السلطوية جذرياً .
الهوامش:
1- "طريق الشعب"،1/6/2023
2-وزارة البيئة-جمهورية العراق، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP)،" المساهمات المحددة وطنياً للعراق بشأن التغير المناخي"(NDC)، 2021.
3-رئاسة جمهورية العراق،"مشروع إنعاش بلاد الرافدين لمواجهة آثار التغيّر المُناخي في العراق"،17/10/2021.