كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها أشخاص نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السبب واضح وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها في غير سيرته الذاتية، وهذه التفاصيل أبعدُ من محض حياته العاطفية أو علاقاته مع الجنس الآخر أو مغامراته أو طيشه أو عنفوانه أو حتى جنونه.
آخرُ كتابٍ في السيرة الذاتية قرأته كان للفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت مل الذي ينسبُ إليه إبتداعُ مفاهيم الليبرالية والحرية والنظم الديمقراطية، كما عضّد مفهوم المنفعة الذي إبتدعه جيريمي بنثام. هذه كلها ثورات هائلة في التفكير البشري؛ لكنّ المثير في السيرة الذاتية هو الإسهاب في عرض تفاصيل مسيرته التعليمية، وتلك خصيصة يتشارك بها معه كلّ من كتبوا سيرهم الذاتية وهم أعلامٌ فلسفية أو علمية أو تقنية. ثمّة الكثيرُ من الخواص المشتركة بين هؤلاء، منها مثلاً: أنهم ذاتيو التعليم Self-Educated، والكثير منهم لم ينالوا تعليماً مدرسياً تقليدياً على الشاكلة التي نعرف، كما أنّهم نشأوا في بيئات أسرية تعلي شأن الإنضباط والصرامة والجدية المفرطة والحساسية تجاه الزمن إلى الحدّ الذي جعل هؤلاء في أعمارهم المتقدّمة يرون أنّهم لم يعيشوا أطوار طفولتهم الأولى بطريقة طبيعية. هل ندموا على تلك الطفولة؟ ربما. يجب أن لا ننسى أنّ كلّ شيء بثمن، وليس من منحة مجانية في هذه الحياة. هل كانوا سيصبحون سعداء لو عاشوا في كنف عائلات أقلّ إنضباطاً؟ ربما. نحن في النهاية نميل لتقدير الحياة التي لم نعشها أكثر من تلك التي عشناها، وتلك حكاية أخرى غير حكايتنا هذه.
تخبرُنا السير الذاتية لتلك الأسماء الذائعة أنّها تشاركت هوساً غير طبيعي في التفكّر بالأسئلة الوجودية الاولى، وأنّها سعت إلى بلوغ إجابات لها عن طريق التفكّر الذاتي وليس كحزمة معرفية جاهزة مثلما تفعل المدارس والجامعات. أولى تلك الأسئلة هي أسئلة البدايات: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأ الوعي؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه الأسئلة تستمرّ مع الحياة، ويعمل المرء المتفكّر حثيثاً لتعديلها تبعاً للمستحدثات المعرفية التي تحصل في حياته؛ لكنّه لن يقبل أبداً بالمعرفة الجاهزة. إنّه كمن يسعى للتنقيب في الأعماق سعياً لبلوغ نمط تفكير واضعي النظريات أو مبتدعي الفرضيات أو راسمي المقاربات التطوّرية.
في الفلسفة مثلاً يشرع المرء من هؤلاء منذ بواكير طفولته يتساءل: كيف لي أن أتيقّن من أنّ ما أراه أمامي واحسّه بأعضاء حسّي هو ذاته ما يراه ويحسّه سواي من الذين يختبرون ذات الظروف التي أخضع لها؟ هذا التفكّر بشأن معضلة اليقين الوجودي هو بوّابة الولوج إلى التفكّر الفلسفي الحقيقي، ومن البديهي أنّ من يقرأ المصنّفات الفلسفية ابتداءً من أفلاطون وأرسطو وسائر الفلاسفة وهو مهجوس بهذا النمط من الأسئلة هو كائن يختلف جوهرياً عمّن يبتغي المعرفة المجرّدة. إنّه فرق جوهري بلا شك.
خذ معضلة الوعي. هي الأخرى معضلة شديدة التعقيد لا تنفع معها مقاربة القراءة غير المهجوسة بدافعية الأسئلة الأولى. تبدأ معضلة الوعي بالإختمار في العقل الشغوف عندما يتساءل: من أين ينشأ الوعي؟ من الدماغ. وما هو الدماغ؟ أليس كتلة عضوية تتكوّن من الكاربون والفسفور وووو؟ ما الذي يدعو تشكيلا عضويا من ذرّات مشخّصة إلى إمتلاك خاصية الوعي؟ عندما سيقرأ من يفكّرُ بمثل هذه الأسئلة لاحقاً في كتابات فلاسفة العقل والباحثين في العلوم العصبية ستكون قراءته مدفوعة ومحفّزة بشغف أسئلة الطفولة الأولى وليست محض واجب أكاديمي أو قراءة عابرة أو إستزادة للخزين المعرفي.
ليست الأسئلة الأولى قرينة بالضرورة بالطفولة؛ بل هي في الغالب خصيصة عقلية ونفسية تتقدّم وتتطوّر مع إرتقاء صاحبها معرفة وخبرة، كما أنّها لا تقتصر على أسئلة البدايات كما يحصل مع الطفولة. مسألة الدولار الأمريكي مثلاً تصلح مثالاً ممتازاً. هل تساءلت يوماً: لماذا صار الدولار الأمريكي عملة عالمية؟ وقبل هذا يمكن التساؤل: من أين يُخْلقُ الدولار؟ الجواب الذي سننتهي إليه: الدولار يُخلقُ من الهواء!!، بمعنى أنّه يُخلقُ من العدم ولا شيء يضمنه مثلما كان الذهب في السنوات التي سبقت إتفاقية بريتون وودز التي جعلت الدولار الأمريكي عملة عالمية النطاق بما يجعل امريكا ذات سطوة إقتصادية ومالية عظمى. أؤكّدُ أنّ من يشرع في دراسة الإقتصاد بادئاً بأسئلة من هذا النوع سيتحصّلُ على معرفة بآليات عمل الإقتصاد العالمي أفضل بكثير ممّن يكتفي بقراءة الكلاسيكيات الإقتصادية العالمية. من يكتفي بهذه الكلاسيكيات ستجابهه معضلات سيعجز عن تفسيرها أو تسويغها بالرجوع إلى خزين قراءاته.
معظمُ البشر لا يريدون إقلاق عقولهم بشيطان الأسئلة الجوهرية أو المسكوت عنها سواءٌ كان هذا في مطلع حياتهم أو في أطوارها اللاحقة. هم يريدون معرفة على قدر ما يخدمهم ويوفّرُ لهم عملاً يعتاشون منه ويجعلهم يقضون بقية حياتهم في سكينة الهدوء ومنطقة الراحة Comfort Zone. ليس على هؤلاء مثلبة؛ فهم يعيشون بالكيفية التي يرتاحون لها. في مقابلهم هناك من لا يستطيع العيش سوى بإدامة التفكّر الحثيث في أسئلة تلحّ عليه بشأن موضوعات جوهرية وجودية أو مستجدّة. إنّها مسألة تكوين ذهني وطرازات نفسية تختلف كثيراً بين البشر.
أفكّرُ أحياناً لو أنّ بشراً من طراز جون ستيوارت مل وُجِدوا في عصرنا هذا حيث التفجّر المعلوماتي والبيانات الكبيرة ووسائل المعرفة متاحة مجاناً لمن يشاء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ هل كان شغفهم سيتعاظم بطريقة لانهائية أم كان سيخفت لأنّ ما يصبح سهل المنال يفقدُ خاصية الجذب السحرية الكامنة في كلّ أمر نادر وغير متاح بالمجان. لستُ أعرف على وجه الدقّة جواباً لهذا السؤال؛ لكنّ أمراً واحداً أجدني متيقّنة غاية اليقين منه: الأسئلة الجوهرية تقود إلى معرفة جوهرية متى ما تابعها سائلُها ولم يكتفِ بالوقوع في فخّ المعرفة (أو الإجابات) الجاهزة.