ينهض الجمال في العراق من بين الأنقاض، رغم ما يُنهب من تحت أقدام ناسه وما يُهدر من ثرواتهم. ليس لأن طغمة الحكم أنجزت معجزة، بل لأن العراقيين، برغم القهر والخذلان، ما زالوا يعرفون كيف يخلقون المعنى وسط الخراب. وقد حقق العراق في أسبوع واحد ثلاثية فخر، تذكّرنا بأن هذا الوطن لا يزال رغم الخراب قادراً على الإبداع، لأن شعبه لم يفقد حسّه الحياتي ولا شغفه بالتعبير.
في الأدب، خطفت الاديبتان فليحة حسن وأقداس عبد الله نوري اثنتين من جوائز "ناجي نعمان" الأدبية. فازت فليحة بجائزة الأعمال الشعرية الكاملة، فيما نالت أقداس جائزة الإبداع، وذلك
في منافسة شارك فيها أكثر من 4300 أديب وأديبة من 92 بلدا.
ولم يكن الحضور العراقي مجرّد مشاركة، بل جاء تأكيدا للمكانة اللائقة التي تحتلها الكلمة العراقية.
وفي السينما، جاء الإنجاز مدوّياً: فيلم "كعكة الرئيس" للمخرج حسن هادي والمنتج المبدع حيدر إبراهيم، يفوز بجائزتين في مهرجان كان السينمائي العريق، إحداهما "الكاميرا الذهبية" لأفضل فيلم أول، والأخرى "جائزة الجمهور". الفيلم جرئ في طرحه، ساخر في لغته، عراقي في نبضه، كشف تهافت السلطة عبر صورة ذكية لا تهادن ولا تجمّل.
أما في الرياضة، فقد اعتلت البطلة البارالمبية نجلاء عماد صدارة التصنيف العالمي لتنس الطاولة للسيدات (فئة 6)، لتصبح أول عراقية تلامس هذا الشرف. فبعد رحلة كفاح بدأت من الظل، تكتب نجلاء اسم العراق على منصات العالم الذهبية، وتثبت أن الإرادة العراقية لا تُقهر، مهما اشتد الخراب من حولها.
فإلى فليحة حسن، التي يمنح شعرها اللغة نَفَساً حيّاً يلامس الوجدان، ويعبر بالقصيدة نحو ما هو إنساني ومضيء.
وإلى أقداس عبد الله نوري، التي تكتب كما تُضاء الشموع في العتمة، تحمل الكلمة كقنديل، وتُمسك بجمر المعنى لتصنع من الكتابة مساحة للدهشة والصدق.
وإلى نجلاء عماد، التي لم تنتظر تصفيق أحد، بل ذهبت وحدها إلى القمة، ومذ كانت على الهامش كتبت بالعرق والإصرار اسم العراق في أعلى تصنيف عالمي. فهي ليست فقط بطلة في الرياضة، بل في المعنى، لأنها أثبتت أن الجسد حين يعجز، تنهض الروح بالنيابة عنه وتنتصر.
وإلى حسن هادي، وحيدر إبراهيم، وكل صُنّاع فيلم "كعكة الرئيس"، الذين التقطوا مرآة الوطن من بين الركام، وصاغوا منها صورةً فنيةً لاذعة، لا تُجامل، بل تُفكّر وتُحرّض. حملوا الكاميرا كمن يحمل ضميراً، وجعلوا من السينما لساناً للناس لا زخرفاً للسلطة.
لكم جميعاً التحية. لقد صغتم بصدقكم ومواهبكم وصبركم عراقاً آخر، جديراً بالفخر.
ليست هذه الانتصارات زينة إعلامية، وانما هي رسائل دافئة مفادها إن العراق ليس ما أرادوا له أن يكون، ليس تلك الطغمة التي دنّسته، ولا تلك الرداءة التي صُدّرت للعالم كأنها صورته الوحيدة. فبرغم منظومة الحكم التي تنهب الأحلام، وتشيع ثقافة التفاهة والتخلف، ما زال في هذا البلد مَن يكتبون ويبدعون ويغنّون للحياة.
العراق، الذي عملوا على خنقه بالقهر، لا يزال قادراً على التنفّس من خلال قصيدة، أو فيلم، أو بطولة رياضية. هو العراق الذي لا يُطفئه الظلام، طالما أن فيه مَن يؤمن بالنور، ويصنعه، ولو من رماد.
من هنا، لا يُعوَّل على السلطة، بل على الشعب. لا على التوازنات الحزبية والمحاصصة الطائفية، بل على الوعي.
فمن رحم القهر، تنهض وجوه العراق الأخرى: صُنّاع الجمال الذين يقاومون العفن بالابداع، واليأس بالمنجز، والخذلان بالكرامة، والفساد بالنزاهة.
المصدر: طريق الشعب