المتابع لخطابات المنابر الدينية الإسلامية في السنين الأخيرة والتي تتبنى الصراع الطائفي المقيت شكلا ومضموناً، يجد اليوم، وبكل سهولة، مدى ابتعاد هذه المنابر عن المناظرات الفقهية المستندة الى نصوص هذا المذهب او ذاك، وانغماسها حتى الأعماق السحيقة بأطروحات أقرب ما تكون الى الأسطورة وحتى الى الخرافة المراد منها إثبات معجزات أشخاص لهم رمزية خاصة في مذهبهم ولا علاقة لهم بالإعجاز المطلوب من الرُسل لإثبات دعواتهم السماوية التي تؤيدها السماء بخصوصية لا يتمتع بها الآخرون من الناس.
لقد وضع خطباء المنابر على هؤلاء الأشخاص هالات من القوى الخارقة التي فسروها بشكل مباشر وغير مباشر على ارتباط مذهبهم بالسماء التي تعطي لمذهبهم خصوصية تميزه عن المذاهب الاخرى التي طالما توصف بالضالة او المنحرفة، حيث يرتبط الحديث احياناً بفتاوى محاربتها بكل الوسائل المتاحة.
لقد تحول هذا الصراع المقيت الى وضع شخصيات ذو منزلة اجتماعية لدى هذا المذهب او ذاك موضعاً يراد منه التحدي لشخصيات المذهب الآخر في قوة الإعجاز وندرة المعارف التي يطمح ان يسجل من خلالها هذا الفريق على خصمه من الفريق الآخر افضلية مذهبه وبالتالي التمسك به دون غيره.
ففي الوقت الذي يستطيع فيه رمز هذا الفريق من إسكات فيضان النيل مثلاً برسالة منه تُلقى في نهر النيل اثناء فيضانه، يتفاخر الفريق الآخر باكتشاف الأقمار الفضائية صورة لرمز من رموزه مؤكداً على ان التحليلات المختبرية اثبتت تطابق الصورة مع ملامح هذا الرمز بنسبة ثمانين بالمئة بالتمام والكمال.
وكثيراً ما يتم اللجوء الى لازمة " جاء في الروايات " التي تروي عن صنع الرمز لفيل طار به الى الهدف الذي يريد، مقابل ما قام به رمز الفريق الآخر من إقناع الأسد الذي أربك هل المدينة المنورة بالرجوع الى عرينه بكلمات قالها له فاستجاب لها مطيعا دون تردد.
لم تظل مثل هذه الأكاذيب مقتصرة على " معجزات " بعض شخوص هذا المذهب او ذاك، بل تجاوزتها الى التلاعب بالقيم الاجتماعية التي جعلت البعض يقف مُحيراً امام اعتقاده الديني الذي اكتسبه اكتساباً عائلياً واجتماعياً ولا قرار له فيه، وبين ما يعيشه كإنسان بلغ مرحلة النمو العقلي القادر على القرار. فحينما يلجأ بعض هؤلاء الخطباء الى كسب الشباب الى مذهبهم عبر مداعبة مشاعرهم الجنسية من خلال شرح نصوص دينية تعتبر مقدسة يُراد اقناع الشاب من خلالها بضرورة الالتزام بمبادئ المذهب لكي ينال ما تنص عليه الآية القرآنية التي تقول: أهل الجنة في شغل فاكهون (ياسين 55)، بان هذا الشغل هو الاستمرار في الممارسة الجنسية مع الحوريات بحيث تعود الحورية باكراً في كل مرة.
إن ذلك يبعث في الإنسان السوي الذي يعيش مقومات حياة القرن الحادي والعشرين ويسعى الى الالتزام بدين ينسجم مع مستواه الفكري وتوجهه الأخلاقي، مشاعر الخجل من هذا الدين الذي يطرحه هؤلاء الخطباء كإغراء جنسي.
وبالمقابل من ذلك يبرز الجانب الآخر ليضع مستواه الأخلاقي موضعاً يجاري به خصمه ليسمح للشاب الممارسة الجنسية مع الطفلة الرضيعة كما جاء في الفتاوى المتعلقة بذلك حتى من المذهبين المتخاصمين، وكأنهما لم يشتركا في الأركان الأساسية لدينهما والمتعلقة بالتوحيد والصلاة والصوم والزكاة والحج.
الأكاذيب التي ينشرها بعض خطباء المنابر الإسلامية أصبحت بكثرة لا يمكن تحديدها بعلم الحساب وما يوفره من ارقام أصبحت لا تستوعب هذه الأكاذيب التي أصبحت العامل الاساسي في تجهيل المجتمع وجره الى غياهب الظلام والتخلف التي أبعدته عن الركب الحضاري والتوجه العلمي لمواجهة مشاكل الحياة والتغلب على مصاعبها عبر التعامل مع الحداثة وانجازاتها. فلم تنجو حتى النباتات والحيوانات من هذه الأكاذيب التي وُضعت على لسانها لتتحدث عن ايمانها وولاءها لهذا المذهب او ذاك، بل ومشيدة بخصوصيته التي لا يحظى بها غير المنتمين لمذهب هذا الحيوان او ذاك النبات.
ان غباء وجهل هؤلاء الخطباء يجعلهم يعتقدون بأنهم بهذه الأكاذيب يكسبون الآخرين الى مذهبهم، مراهنين طبعاً على الجهل بالعلوم وقلة المعارف التي تسود الغالبية من الجالسين تحت منابر هؤلاء الخطباء والذين يرددون صيحات التعجب حينما يسمعون بإيمان الباذنجانً او عصيان العصفور مثلاً. إلا ان حبل الكذب قصير، كما يقال، إذ ان مثل هذه الخرافات والأكاذيب لا يمكن لها ان تصمد امام مقومات الحياة اليومية التي يطال تأثيرها المباشر وغير المباشر حتى الجهلاء من الناس، وبذلك فإم مثل هؤلاء الخطباء انما يسيئون الى مذهبهم ودينهم من حيث لا يعلمون، اما إذا علموا بذلك فالمصيبة أعظم.
تجهيل المجتمع بهذا الأسلوب الغوغائي والسير به نحو التخلف والظلام من خلال اطروحات تأخذ طابع الإيمان الديني، تجعل كل ذي لب يستفسر عن ماهية السكوت المُطبق لتلك المواقع التي وضعت نفسها موضع الحامي للدين وثوابته والمدافع عن القيم التي يعتبرونها من مقومات الدين الذي يمثلونه ويضعون أنفسهم موضع مراجعه. فإن كان الأمر كما يدعون، فالمفروض ان يبادروا الى إيقاف مثل هذه الأكاذيب التي تسير بعقول مقلديهم وتابعيهم نحو الهاوية الاجتماعية والخُلقية ناهيك عن التبعات السياسية التي يستغلها هؤلاء الخطباء للولوج في الساحة السياسية التي تشكل الضمانة لجعل الدين مؤسساتياً وليس عقائدياً.
قد يبرر البعض سكوت المرجعية الدينية عن التصدي لهذه الأكاذيب كونها أعلنت عدة مرات عن رأيها في ذلك، خاصة فيما يتعلق بالوضع السياسي الذي يمر به العراق، حتى انها قالت: لقد بُح صوتها. وهذا ما لم يستطع فهمه كل ذي عقل سليم، إذ كيف يمكن لمرجع ان لا يُطاع من اول امر يفتي به حتى يضطر الى تكرار مثل هذا الأمر ولم يُطاع له حتى وإن بُح صوته. هناك مثل عراقي يقول: الإمام الما يشور يسموه أبو الخَرك.