في الذكرى التسعين لانطلاقة الصحافة الشيوعية انتماء صميمي للوطن وكادحيه!
بقلم : احسان جواد كاظم
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

كانت أولى إرهاصات الصحافة الشيوعية قد بدأت مع تشكل الحلقات الماركسية في البلاد والتي كانت أبرز تجسدها في صدور أول صحيفة ماركسية علنية " الصحيفة " بدايات القرن الماضي، بمضمونها المتميز في الجو الثقافي والصحفي العراقي في 28 كانون الأول. 1924 لصاحبها حسين الرحال وحرر فيها مصطفى علي احد وزراء العدل بعد ثورة 14 تموز 1958 وعوني بكر  صدقي…تناولت المفهوم المادي للتاريخ، و قضايا تحرير المرأة، وفلسفة ماركس لأول مرة.

تاريخ الصحافة الشيوعية هو سفر الصحافة السريّة, بسبب معاداة سلطات الحكم الملكي وسلطات الاحتلال البريطاني للحركات الثورية. ومع التوزيع الواسع لأولى بيانات التأييد لإضرابات عمال الدوكيارد في ميناء البصرة والسكك الحديد وعمال شركة نفط العراق وعمال معامل الثلج لنيل حقوقهم التي كتبها الرفيق فهد ، دقت السلطات جرس الإنذار.

وكان دمج الخلايا الشيوعية في مختلف مناطق البلاد لاحقاً وإعلان  تأسيس" لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار " في 31 آذار 1934 التي قرر اجتماع لجنتها المركزية إلى اتخاذ اسم " الحزب الشيوعي العراقي " ، خطوة تاريخية في العمل السياسي في العراق الذي كان يفتقر إلى شكل تنظيمي ثوري حقيقي. ثم إصدار جريدة مركزية له باسم " كفاح الشعب ". وهي أول صحيفة طبعت ووزعت سرا في تاريخ الحركة الثورية في العراق وكان على صدرها رمز الشيوعيين المطرقة والمنجل وشعار ماركس يا عمال العالم اتحدوا.

تنبهت السلطات الملكية وقوات الاحتلال إلى الخطر الداهم من انتشار الفكر الشيوعي فأصدرت قانون مكافحة الأفكار الهدامة، السيء الصيت، والتي تعني به بالتحديد الأفكار الشيوعية، وسنت قوانين رقابة قاسية، لقمع أي صوت وطني يسعى إلى " الوطن الحر والشعب السعيد "، وهذا في حقيقة الأمر، فرض على الصحافة الشيوعية النضال  بموازاة العمل التنظيمي الحزبي، وكان قد سبقها تقديم ناشطين شيوعيين إلى المحاكم ومنهم الرفيق الخالد فهد، بتهمة نشر الأفكار الشيوعية الهدامة.

أن حالة السريّة التي فرضت على الصحافة الشيوعية، رغم ما يعنيه ذلك من خنق لها، الا انها، من جانب آخر كانت لها حرية أكبر في مناقشة قضايا البلاد ومواطنيها بشكل جذري وفضح سياسات السلطات العميلة وممارسات المحتل الانكليزي، وهو الأمر الذي لا تجرأ الصحافة الوطنية المرخصة رسمياً من الخوض فيها، دون الخشية من الرقابة والعقوبات الصارمة في قوانين الصحافة المكممة للأفواه، تحت طائلة الإغلاق وسحب امتيازها، بشكل مستمر.

بقيت الصحافة الشيوعية تحت وطأة المنع والتغييب والمطاردة والأحكام العرفية، لكنها نجحت أن تكون قادح لنار الثورة على استبداد الحكومات العميلة والانحياز للشعب، وكانت فاعلاً مؤثراً في انتفاضات شعبنا.

ولو اعتبرنا البيانات والمنشورات الورقية التي كانت توزع على نطاق واسع، شكل أولي للصحافة، فهي قامت بدور تحريضي توعوي مهم في توصيل موقف الحزب في قضية سياسية ملحة واطلاع أبناء الشعب به.

لا شك بأن قمع حرية الفكر وتكميم الأفواه قد طال جميع القوى الوطنية ولكن وطأته كانت أكبر على الشيوعيين، فقد زج جمهرة من كوادره ومفكريه، الكثير منهم ناشطين فاعلين في المجال الثقافي والفكري، في مراكز اعتقال بالغة القسوة مثل معتقل نقرة السلمان الصحراوي المنعزل عن العالم، وسجن الكوت وديالى والسجن المركزي في بغداد… لكنهم رغم ذلك حولوها إلى جامعات فكر وثقافة وفن متميز، تخرجت منها كوكبة فريدة من المثقفين الذين طبعوا الجو الثقافي العراقي لاحقاً بالطابع التقدمي والثوري. ومن الجدير بالذكر أن نشرة " كفاح السجين الثوري "  كانت تحرر من قبلهم وتوزع بين السجناء وتُهرب إلى خارج السجن عن طريق عوائل السجناء في زياراتهم.

وقد استثمر الحزب فترات الانفتاح السياسي النسبي، وخاصة بعد انتصار الحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية، والحصول على إجازة " عصبة مكافحة الصهيونية " المؤلفة من شيوعيين عرب ويهود إلى إصدار جريدة " العصبة " العلنية المرخصة، للنضال ضد الصهيونية باعتبارها جريدتها المركزية في 7 نيسان 1946، تسنى لها اصدار 51 عددا ثم جرى تعطيلها في 6 حزيران أي بعد مرور شهرين فقط على صدورها، لكونها عالجت قضايا غير مريحة للسلطة، و عدائها الصريح للاستيطان الصهيوني في فلسطين، مما شكل احراجاً للسلطات الحاكمة امام المحتل المتواطئ مع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

لاشك بأن فترة النضال السري قد صقلت الملكات الصحفية للشيوعيين بالالتزام بصياغة الأفكار والمواقف  بحرفية عالية وتكثيف الفكرة بسبب ضيق مساحة المنشور السري وصياغتها بأسلوب سهل يمكن الوصول إلى مستوى وعي الكادحين بالخصوص. وتوضيح أهداف نضال الحزب ليكون مفهوما لاوسع الشرائح الاجتماعية، وقد نجح الحزب بذلك حيث شهد توسع قاعدته الجماهيرية وانخراط شعبي واسع في النشاطات الاحتجاجية المطلبية.

كان عنفوان الصحافة الشيوعية قد تحقق بعد ثورة 14 تموز المجيدة التي رفعت القيود السابقة على الصحافة التي عاشت ازدهاراً واسعاً… حيث صدرت صحف ومجلات في كل مناحي الحياة، وكان عرساً ديمقراطياً حقيقياً للفكر والكلمة الحرة. وتصدرت صحيفة " اتحاد الشعب " الشيوعية واجهة الصحافة الوطنية كصانعة رأي ومنظم للحركة الشعبية، ومدافعة دؤوبة عن الثورة وتكريس انجازاتها.

ولكن " ما يخلو زور من واوي " كما يقول المثل العراقي. فقد عمدت حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، بسبب الخشية على وحدانيته في الحكم، بعد تنامي نفوذ الحزب الشيوعي شعبياً وبروزه كموجه للجماهير، سبباً للتضييق على الشيوعيين، تكلل بسحب الامتياز الشرعي لصحيفة " اتحاد الشعب " الشيوعية وإعطائها داود الصائغ.

رغم دعم الحزب المستمر للسلطة الوطنية والنظام الجمهوري الوليد، واستعداد أعضائه ومحبيه للدفاع عنها امام المؤامرات الداخلية والخارجية… وهذا ما أكدته الأحداث اللاحقة عند اغتيال الثورة في انقلاب 8 شباط الفاشي.

وبذلك أصبح الزعيم عبد الكريم قاسم معادياً لأخلص حلفاءه ومتسامحاً مع ألد أعدائه !!!

فكان انقلاب قوى الردة الذي فرمل حقبة كانت يمكن أن تكون فرصة تاريخية للنهوض بالبلاد إلى آفاق النمو والتطور.

حتى بعد اسقاط سلطة الحرس القومي فيما سمي بحركة 18 تشرين الثاني 1963، واصل أعداء الشيوعية بطشهم لكل ما هو شيوعي، بما فيها الصحافة طبعاً.

قد تكون الصحافة الشيوعية قد عانت من الوهن بعد القمع الفاشي للبعثيين وتصفية كوكبة متميزة من كوادرها و زج رموز منها في سجون الحكم العارفي،  الا انها بدأت تداوي جروحها.

بعد انقلاب 17 تموز 1968 وعودة البعثيين للحكم، شرعوا في انفتاح نسبي على القوى الوطنية، وبدأ السعي لتشكيل جبهة وطنية بعد سلسلة من الإجراءات والقرارات الاقتصادية والاجتماعية الايجابية، كانت جزءاً من البرنامج السياسي للحزب الشيوعي ومنها تأميم النفط العراقي وبناء الاقتصاد الوطني، فتحت عام 1973 افقاً للمفاوضات، كان أحد نتائجها السماح بإصدار صحيفة " الفكر الجديد " الشيوعية الأسبوعية التي مهدت الطريق لصدور الجريدة المركزية للحزب الشيوعي العراقي " طريق الشعب " التي رسمت ملامح صحافة ثورية، ذات توجهات شعبية متميزة، فاعلة، قريبة من نبض الجماهير، تلقفتها اياديهم كل صباح حتى أصبحت أعدادها تنفذ من المكتبات قبل ظهر كل يوم، وتجاوزت فيها مبيعات صحف حزب البعث الحاكم وحكومته المدعمة من خزينة الدولة. مما أوغر على " طريق الشعب " وأخواتها " الفكر الجديد - بيري نوي " ومجلة " الثقافة الجديدة " الحقد في قلوب البعثيين.

وبدأت المضايقات باعتراضات الرقابة الحكومية على مواقف أو أجزاء من مقالات او على مقالات كاملة. وقد تكرر صدور طريق الشعب بفراغات دليل المنع… وكان للعمود الصحفي الذي يسطره طيب الذكر شمران الياسري بلهجته الفلاحية السلسة بعنوان " بصراحة أبو كاطع " أثراً موجعاً على البعثيين بانتقاداته اللاذعة.

وأتذكر الحملة الأمنية الواسعة على بائعي طريق الشعب واعتقالهم في مديرية الامن العامة في بغداد ودوائر الأمن في المحافظات بعد الشروع بتجربة حزبية جديدة لزيادة مبيعات طريق الشعب من خلال إشراك المنظمات الحزبية لأعضائها وأصدقائهم في البيع المباشر في الأسواق والشوارع.

وإذا كان هناك قانون صحافة ايام العهد الملكي تنتهكه السلطات عندما ترغب، فإن قانون الصحافة الذي عمل به ما يسمى ب " مجلس قيادة الثورة " كان مصاغاً بما يناسب فكر البعث القومي المحدود والتطبيل لسياساته.

بعد فشل تجربة " الجبهة الوطنية "بسبب توجهات حزب البعث الدكتاتورية وتوزع العراقيين في بلدان اللجوء او جبهات الكفاح على ربى كردستان العراق, تشكلت صحافة عراقية ثورية معارضة، من خلال صحافة الأنصار الشيوعيين و" اذاعة الشعب العراقي " ودوريات المنظمات المهنية الشبابية والطلابية والنسائية ونقابات العمال الديمقراطية، التي قد يكون تأثيرها محدوداً على جماهيرنا في الداخل، بفعل القمع الفاشي الذي كان مسلطاً على شعبنا الا انها كانت تجربة فريدة لتدريب الكوادر وتنمية الملكات الصحفية والفكرية والفنية لدى الكثير من الأنصار  الشيوعيين، حتى بدأنا نشهد إمكانيات ثقافية وفنية رفيعة لدى الكثير منهم.

ولا ينبغي أن يغيب عن الذكر الدور الذي قامت به نشرة " رسالة العراق " التي كانت تصدر  في الخارج في المتابعة السياسية لقضايا الداخل العراقي وممارسات النظام القمعية لمواطنينا وحربه الكارثية مع إيران، وتوضيح المواقف وطرح الآراء.

وقد قامت الإصدارات الدورية لبعض المنظمات المهنية، الرديفة للحزب في بلدان اللجوء او الدراسة بجهد صحفي وفكري مشهود لتحشيد  الطلبة وأبناء الجالية باتجاه حرية الوطن، وتعريف المجاميع الطلابية من البلدان العربية بحقائق ما يجري وكسب تضامنهم مع شعبنا..

وبحكم تواجدي كطالب في بولندا في تلك الفترة، علمت بأن مجلة " الانتفاضة " الشهرية التي كانت تصدرها " جمعية الطلبة العراقيين في بولندا الشعبية" والتي كانت تتضمن مقالات سياسية وثقافية ومواقف الجمعية المستمدة من مواقف الحزب المناهضة للنظام، كان أحد الزملاء يرسلها بريدياً إلى سفارة النظام في وارشو.

ينتقد البعض حتى من محبي الشيوعيين الحال الذي وصلت إليه الصحافة الشيوعية العراقية اليوم، حيث فقدت الكثير من ألقها الشعبي وأصبحت نخبوية !!!

لا ينبغي أن يغيب عن البال أن انعكاسات التغيرات السياسية والاجتماعية السلبية خلال العقود الأخيرة أثرت على مجالات الحياة كافة، بما فيها الحقل الثقافي والصحفي، بعد تغييب الفكر العلمي التنويري ومحاصرته من قبل طغم الاستبداد والظلام، هي أحد أسباب هذه الظاهرة… اضافة الى التغيرات البنيوية في مجتمعاتنا التي طالت قناعات فئات مثقفة وفنية خرجت بالأغلب من معطف الحزب الشيوعي العراقي.

الصحافة الشيوعية التي تخلت عن القوالب الستالينية للنقاء الأيديولوجي التي كانت تحكم الخطاب السياسي منذ وقت بعيد، وانتشار التعددية الفكرية حتى في إطار الماركسية وظهور مدارس فكرية مختلفة برؤى وطروحات لمفكرين حداثيين لتجديد الماركسية بما يلائم عصر الأتمتة والنانو والذكاء الاصطناعي, دفع الحزب إلى تطوير خطابه السياسي وطريقة تفكيره بما يتناسب مع روح العصر.

بيد أن التزام الصحافة الشيوعية العراقية بالثوابت الوطنية والتمسك الصارم بمفرداتها، والتي قد يعتبرها البعض مبالغة وتطرف او ضعف في التكتيك هو، في حقيقة الأمر ، جزء أصيل في الشخصية الشيوعية العراقية، دون اشتراط، بالضرورة، للانتماء الحزبي.

تواصل الصحافة الشيوعية ريادتها، شكلاً ومضموناً، في الواقع الثقافي العراقي بما تطرحه من برامج وأفكار وتوجهات وطنية تبقى متقدمة على الكثير من الواجهات الصحفية والثقافية لأحزاب وقوى وفضائيات حزبية، بمضمون تقدمي والتزام صميمي بقضايا الشعب والوطن، وهي ماضية في سبيلها رغم كل العوائق.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 04-08-2025     عدد القراء :  36       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced