لابد للمراقب الحصيف لمجريات الاحداث الساخنة أن يعي أن الازمات التي يمر بها عالمنا تغطي مساحات متباينة من الخريطة الجيوبولتيكية – (الجغرافية السياسية لاقاليم العالم بضمنها اقليمنا الشرق اوسطي - الخليجي والشمال افريقي كلها) تحمل متغيرات بعضها معروف او متيقن منه وآخر من الصعب التنبؤ به لاسباب تنبع من المحيطين الداخلي لدول المنطقة وأخرى نابعة من دول خارجية تقودها قوى كبرى على رأسها الولايات المتحدة الامريكية، الصين، روسيا ودول الاتحاد الاوروبي وغيرها، دول لها مصالح ومناطق نفوذ ترغب بالحفاظ عليها بل وتنميتها كلما أمكن ذلك. تتضمن مجالات حيوية على الصعيد الستراتيجي بمفهومه الشامل مع التركيز على الابعاد الاقتصادية– السياسية والامنية. من هنا لابد لنا ونحن جزء مهم من جيوبولتيك العالم أن يعي نخبه القيادية السياسية والثقافية طبيعة القادم من الايام والاشهر بل والسنوات التي ستؤثر على المسارات السياسات والستراتيجيات المتوقعة التي ستواجه المنطقة إنطلاقا من واقع جيوبولتيك الهيمنة الستراتيجية الامريكية - الاسرائيلية التي تحمل بعض المخاطر النابعة من التأثيرات السلبية او ربما الخطيرة على حاضر ومستقبل المنطقة التي وخلال الاعوام القليلة الماضية تعرضت لإحداث وتداعيات السابع من أوكتوبر 2023 حيث أخذت الواقع الجيوبولتيكي - السياسي يقدم لنا صورا متعددة متنوعة من المتغيرات والتغيرات الاقليمية التي إن لم تعالج ستترك آثارا للواقع السياسي الجيوبولتيكي في منطقتنا الحيوية على الصعد الجيوسياسية بمفهومها الشامل (جيوسياسيا - أمنيا - اقتصاديا - ثقافيا ألخ). من هنا نرى أن أحداث منطقة الشرق الاوسط والخليج العربي تقع في عين العاصفة إن صح التعبير نظرا لضرورة تقدير أهمية التركيز على متغيرات وتداعيات سياسة القوة Power Politics خاصة في إطارعلاقتها بطبيعة مزايا ومميزات المحيط الجغرافي من جهة وبما يمتلكه من موقع مركزي يقع على تقاطع حدود القارات آسيا، افريقيا واوروبا بل وحتى الامتدادات الجغرافية - السياسية عبرالمحيطين الاطلسي والهادئ. سياق يرتبط بمنهج التاريخ الدبلوماسي الذي يتطلب نضوجا وبلورة لمهارات التفاوض المهني حفاظا على مصالح دولنا واقاليمنا. لذا في هذا المقال سأتطرق لمآلات القضية الفلسطينية وتداعياتها بشكل مركز من جهة ما يعرف مفهوم الشرق الاوسط الجديد وفقا للمنظور الامريكي - الاسرائيلي هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن حرب ال12 يوما بين اسرائيل وايران والتي لازالت تمر بمرحلة انتقالية لا تخلو من القلق على مستقبل المنطقة:
اولا: مفهوم الشرق الاوسط الجديد من المنظور الصهيوني - الاسرائيلي ومدى تأثيره الاساسي على السلم والامن في منطقتنا العربية -الشرق اوسطية. إن مفهوم الشرق الاوسط الجديد الذي ينادي به بنيامين نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس - 1995 ليس المصدر الاول وإنما نبع من برنارد لويس المفكر الامريكي المناصر للحركة الصهيونية في مقال نشر في مجلة الفورن أفيرز في ايلول 1992 حمل عنوان (إعادة التفكير في الشرق الاوسط) خلالها تبلورت ونضجت رؤية اليمين الامريكي للمحافظين الجدد مع بداية الالفية الثالثة. خلالها ايضا تم طرح مفهوم ما يعرف بالفوضى الخلاقةمن قبل وزيرة خارجية ادارة جورج بوش الابن. الهدف دائما يتمثل ليس فقط بحماية مصالح كل من الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل بل وبتنميتها إلى درجة تترجم الافكار والنظريات إلى واقع ملموس يخدم مصالح كلاهما (امريكا واسرائيل من خلال جسر التحالف الستراتيجي القوي). من هنا دعى نتنياهو لتغيير ما يعرف بوجة الشرق الاوسط. لماذا؟ الجواب الواضح هو لإن اسرائيل وفقا لسياق ايدولوجي - ديني تسعى لإقامة ما يعرف اسرائيل الكبرى (أي ارضك يا اسرائيل من النيل إلى الفرات). لذا في تقديري المتواضع أن ما ينادي به الغرب حاليا (فرنسا، المانيا وبريطانيا، الولايات المتحدة الامريكية) إلى جانب الدول العربية وغيرها من دول العالم من ضرورة حل الدولتين مسألة مهمة جدا ولكنها في حكم المرفوضة من قبل اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية لذا فمنهج التغيير الذي اتبعته اسرائيل لا ينم سواءً من قبل اليمين الاسرائيلي او حتى ما يعرف بقوى اليسار وغيرها التي تعتقد ان مشروع اسرائيل الكبرى لازال قابلا للحياة بل وللهيمنة على المنطقة من خلال تبني استراتيجية الحروب التي مافتئت تشنها اسرائيل من جهة كما وتقوم بإثارة الفتن التي تجد مجالا خصبا لها في أثارة النعرات العنصرية - الطائفية والدينية كما يتضح باستمرار في ما يجري من تبني لبعض النداءات المنفردة الاستثنائية لبعض قيادات الاقليات خاصة من الدروز او غيرهم ربما في مرحلة قادمة من خلال تشجيع الولايات المتحدة الامريكية لإنضواء الاقليات المذهبية - العرقية والطائفية تحت جناح النظام السوري من جهة أخرى ولكن بشرط أن لا تخرج هذه الاقليات عن محيط الامن الستراتيجي الاقليمي لكل من سوريا واسرائيل معا وفقا لاتفاقية جديدة مستقبلية لفض الاشتباك بين النظام السوري واسرائيل بموجبها تنسحب اسرائيل من المنطقة الراهنة عقب خطوط المنطقة العازلة التي شملت اجزاءً استراتيجية من جبل الشيخ الحيوي لكل من سوريا، لبنان وأسرائيل (الكيان الصهيوني). الخطر الاكبر لدور اسرائيل الجيوبولتيكي تمثل بأمتداد عسكري قوي ونافذ في مناطق الاصداع الجيوبولتيكية لتخوم بلاد الشام والعراق ومنها مثلا المنطقة الجنوبية من سوريا والتي إن بقيت أمرا واقعا Status Que ستؤثر سلبا على أمن المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا ولعل في ظل هذا الواقع الاقليمي سارعت الحكومة العراقية لتعزيز قوة أمنها الوطني ولعل الامر يسري على كل دول التخوم مع دولة الكيان الصهيوني. كما أن غياب السيطرة الواضحة جزئيا او نسبيا على منطقة دير الزور من قبل النظام السوري قد تشكل مجالا حيويا للتمدد الاسرائيلي ايضا والذي يشكل خطورة آمنية على العراق.
إذ مثلا بغض النظر عن توقيع اتفاقية تسمح بإندماج قوات سورية الديمقراطية في إطار سوريا موحدة أندلعت اشتباكات متقطعة مؤخرا في يوم الجمعة 26 من تموز 2025 على ضفتي نهر الفرات شرق دير الزور تحديدا في مناطق الريف الشرقي مثل بلدة القورية ومحيطها. صحيح انها اشتباكات متقطعة وليست واسعة النطاق إلا أن التوترات المتبادلة بين الطرفين وإغلاق بعض المعابر النهرية في محاولة للحد من التهريب والحركة بين الضفتين تؤثر سلبا على المحيط التجاوري الآمن. احد الاسباب لهذه التطورات لها بعد اقتصادي كما تشير بعض الانباء الاعلامية كون قسد استحوذت على موارد طبيعية (النفط) لمحافظة دير الزور. لاشك أن المفاوضات القادمة في العاصمة الفرنسية ستكون باكورة جهد دبلوماسي بين قسد والنظام السوري المركزي بهدف تحقيق ما يعرف بالاندماج الكامل في ظل سوريا الموحدة. أي أندماج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا، ورفض التقسيم الجغرافي - الاقليمي بما يغطي نقاط ومواقع حيوية مثل المعابر وحقول النفط والغاز واخيرا تأكيد وحدة الاراضي السورية بعيدا عن أي حالة لما يعرف بالتقسيم الجيوسياسي. لعل الدور الفرنسي والامريكي لازالا فاعلين وهدفهما حماية الامن الاقليمي الذي يحفظ مصالح جميع الاطراف والحيلولة دون أندلاع الشديد مجددا.
ننتقل لموضوع آخر مكمل لشحنة التوترات وعدم الاستقرار في المنطقة في بعده الجيوسياسي ترتيبا على مجريات وتداعيات الصراع الاسرائيلي - الايراني. لعل الفكرة السائدة اسرائيليا - صهيونيا مفادها ان اسرائيل تقع في محيط عربي - اسلامي معاد لها لابد من مواجهته بنشاط عسكري تقني استخباري هدفه تدمير ابرز او على قمة تصنيف الاعداء النظام الاسلامي الايراني، وهنا ترى اسرائيل ان تدمير القوة النووية الايرانية سواءً أكانت لاغراض سلمية او عسكرية وإن تكن الاخيرة تشكل خطرا داهما وجوديا Existenial Threat مسألة لا تحتمل التأجيل او المساوفة. علما بإنه كانت لإيران سابقة علائق وثيقة ايام الشاه الايراني محمد رضا بهلوي بل وعلاقة يمكن وصفها بالبراغماتية للطرفين الاسرائيلي والايراني نطلق من واقعة عرفت بأيران غيت زمن الرئيس الايراني هاشمي رافسنجاني ورونالد ريغان في دورته الثانية حيث باعت امريكا ايران اسلحة بوساطة اسرائيلية على الرغم من قرار حظر بيع الاسلحة إلى طهران حيث صنفت الاخيرة بإنها عدوة لأمريكا - خلال الحرب العراقية - الايرانية- في مقابل استخدام واشنطن اموال الصفقة وارباحها في تمويل سري لقوة معارضة تعرف بالكونترا التي حاربت الحكومة اليسارية وحزب ساندنيستا الحاكم في نيكارغوا. برغم ذلك فالعالم الجيوبولتيكي يتغير لاسباب مختلفة سياسيا - آمنيا - اقتصاديا وبالاحرى براغماتيا ايضا وفقا لطبيعة المصالح المتنافسة اقليميا ودوليا. موضوع القوة النووية الايرانية معقد وله جذور راسخة عبر الزمن ولست بوارد تفصيله لكن الحرب الاخيرة التي دامت 12 يوما حول مسـالة تخصيب اليورانيوم إلى درجات تعتبرها الادارة الامريكية بل وحتى الوكالة الدولية للطاقة النووية مثيرة للقلق كما في تقريرها الاخير الذي مهد للضربة الاسرائيلية المدمرة المباشرة لايران والتي تضمنت ضربة اسرائيلية قاتلة للنخب النووية والعسكرية المتخصصة اسهم بأخفاق الجولة السادسة للمفاوضات الامريكية - الايرانية المقررة في عمان. بل وسمح ايضا بتقديم طبق من ذهب للولايات المتحدة بضرب اكثر قوة للمنشأت النووية الايرانية في نتتانز وفوردو. بقي أن نعرف أن الطرفين الامريكي والايراني بل وحتى الطرف الخاص بالوكالة الدولية للطاقة النووية سيواصلون في المستقبل المنظور مباحثاتهم حول تقليص مساحات المسار النووي الايراني من خلال التأكيد على أن ايران ستستمر بمساعيها النووية السلمية وربما بطرق اخرى غير التخصيب التي لم تسلكها ايران وهي سبل مهمة ايضا لتوفير رادع نووي محدود ولكنه حيوي. من جهتها ادارة ترامب حريصة على عقد صفقة كبرى مع دول الخليج العربي وايران وغيرها من دول العالم تعزيزا لقوة امريكا الاقتصادية - الجيوسياسية بعيدا عن اللجوء لحروب مدمرة. السؤال الاخير هل سيتمكن ترامب من اداء مثل هذا الدور بصورة تحد من مطامح نتنياهو المقلقة والمدمرة لكل جهود الحفاظ على المصالح الامريكية في المنطقة أم انها ستستمع لصوت العقل بإن المصلحة الامريكية لترجمة شعار امريكا عظمى مرة اخرى سيسود بغض النظر عن دور اسرائيلي كل هدفه تغيير وجه الشرق الاوسط وفقا لفكر مدمر متطرف يقوده نتنياهو وآخرين من مختلف التيارات المتطرفة.