سرّ القراءة الأولى
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

أمّا السرّ فهو السحر والدهشة؛ وأمّا القراءة فهي لروايات الطفولة البعيدة وحتى أعتاب البلوغ. لنقُلْ حتى منتصف عشرينات العمر. أمّا التفاصيل في العنوان فإليك الحكاية.

اعتدتُ كلّ سنة ومنذ ما يقاربُ العشرين عاماً على إعادة قراءة روايات محدّدة. في العادة أختارُ ثلاث روايات: واحدة من المطوّلات الروائية الكلاسيكية، وكثيراً ما تكون رواية من الأدب الروسي (تولستوي ودوستويفسكي في أغلب الأحايين). الرواية الثانية هي نوفيلّا أو ما يقربُ منها طولاً؛ أمّا الثالثة فهي رواية كتبتها روائية. الشرط الأوحد في هذه القراءات أن تكون منشورة قبل نصف قرن أو أكثر، وليس شرطاً محتّماً أن تكون القراءة إعادة لقراءة سابقة؛ فقد يحصل في أحيان قليلة أن أقرأ عملاً قديماً لم أقرأه من قبلُ. المرء ليس (طرزان) قراءة قرأ كل شيء وختم كلّ الروايات؛ لكنّي أؤكّدُ أن تكون القراءة إعادة في غالب الأحيان.

هي ليست نزوة نوستالجية بقدر ما هي تجربة في الفحص النفسي والمساءلة الإستكشافية لدور الزمن في فهمنا وذائقتنا لِما نقرأ من روايات. لذا عندما يحصل تخالف متباين في وجهات النظر بين رؤيتك لرواية ما مع رؤية آخرين أرى من المناسب أن يكون السؤال الأوّلي حاضراً قبل كلّ المجادلات النظرية: متى قرأت الرواية؟ في يفاعتك أم في شبابك (بطوريْه المبكّر والمتأخّر) أم في سنواتك المتقدّمة؟

القراءة الأولى للرواية ونحنُ يافعون بعدُ تبدو كطيف حُلْمي جعلك مسرنماً مشدوهاً ومتحلّلاً من قبضة الزمان والمكان والبيئة. كثيرة هي الأمثلة. لا يمكن أن نتناسى ما فعلته روايةٌ على شاكلة (البؤساء) أو (الجريمة والعقاب) أو (الشيخ والبحر) في أرواحنا. أوقن أنّ كثيرين منّا قرأوا (الشيخ والبحر) في جلسة ممتدّة واحدة من الصباح إلى المساء وقد تناسوا أمر الغداء وشاي العصر وحتى برامج التلفاز المسائية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. لن نستطيع بالطبع قراءة المطوّلات الروسية في جلسة واحدة؛ لكنْ من المؤكّد أنّ تجربة السرنمة الروائية يمكن أن تتكرّر معها لأيّام طويلة قد تستغرق العطلة الصيفية كلها على سبيل المثال. إنّها لذّة فردوسية من العسير أن نجد لها نظائر في سنوات العمر اللاحقة وبخاصة بعد نصف قرن وأكثر من تجربة القراءة المبكّرة الأولى.

ما يحصل في تلك القراءة الأولى هو أنّنا نقرأ مدفوعين بزخم طاقة التخييل الخالصة المقترنة بالدهشة والإنبهار. التخييل قوة أساسية من قوى البشر الطبيعية، وهي وسيلة ستراتيجية لنا في إحتمال العيش والتفوّق على محدوديات الحياة التي نخضع لأحكامها الصارمة. عندما تقترن طاقة التخييل بالدهشة تحصل السرنمة: ذلك الشعور المحبّب بأنّك تعيش عالماً غير الذي تعرفه وطالت ألفتُك به، ولا تريد مغادرته. شيء أشبه بواحد من المكيّفات العقلية الطيبة بعكس أخرى تقود لنتائج مدمّرة للعقل والروح.

أمّا القراءات اللاحقة ففي العادة يحصل فيها تناقص لمنسوب الدهشة والتخييل مع تزايد مفعول العقل التحليلي الذي يبحث ويدقّق. سيكون أمراً شاقاً للغاية أن تتحقق تلك السرنمة اللذيذة السابقة في الأيّام الخوالي وأنت تدقّق في عبارة هنا ومقطع هناك وتحاول تفكيك متبنياته الفلسفية أو النفسية.

ربّما هناك فوارق نوعية بين العقل الروائي والعقل التحليلي. المثير أنّ الروائيين الكلاسيكيين الأوائل كانوا أساتذة مهرة في تحقيق الدهشة الروائية حتى لو قرأناهم في مراحل متقدّمة من أعمارنا؛ في حين صارت الجرعة التحليلية أكثر تركيزاً في الروايات الحديثة والمعاصرة.

لستُ أدركُ تماماً ما الذي أسعى إليه من تجربتي الشخصية في إعادة قراءة روايات قرأتها قبل نصف قرن. ربما هو مسعى لتحفيز بواعث لذّة القراءات الأولى، أو تذكّر حقيقة أنّ الإنغمار في الفضاء التحليلي الذي يغمر عالمنا يجب مواجهته بوسائل منها إستذكارُ قراءاتنا القديمة.

لا أظنّنا سننجح في استعادة لذّة القراءة الأولى بكلّ دهشتها وطاقتها السرنمية؛ لكن في الأقلّ يمكن أن نعيش تجربة حيّة في الإسترخاء وتفعيل طاقة التخييل الخالصة التي قد تكون خَبَتْ تحت ركام متطلبات العيش الثقيلة.

فلنجرّبْ كل سنة إعادة قراءة بعض ما قرأناه في بواكيرنا الأولى. جرّبْ قراءة (الشيخ والبحر) أو (الأخوة كارامازوف) أو (دون كيخوته) من غير تأشير لملاحظات أو إنشغالات جانبية. قراءة مسترسلة فحسب. جرّبْ تحييد عقلك التحليلي التماساً لتحريك طاقة التخييل الخالصة.

أظنّ أنّ التجربة تستحقّ المحاولة.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 04-08-2025     عدد القراء :  39       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced