شهدت الحرب العالمية الثانية عام 1941 هجوماً مباغتاً شنته البحرية اليابانية على الأسطول الأمريكي القابع في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي في المحيط الهادي، ولم تكن الولايات المتحدة طرفاً رسمياً في الحرب. على أثرها دخلت الحرب في اليوم التالي. وانتقاما من واقعة هاربر، اقترفت إدارة الرئيس ترومان أفظع جريمة حرب دولية، بقصفها مدينة هيروشيما بأول قنبلة ذرية يوم 6 اَب ومدينة ناغازاكي بثاني قنبلة ذرية يوم 9 اَب 1945، في وقت كان الجيش الياباني على وشك الاستسلام، وساعتها كانت مئات الآلاف من السكان متواجدين في البيوت والمؤسسات والمصانع والمدارس والجامعات والمستشفيات والمتاجر والمزارع والشوارع، فسببت أبشع مجازر الإبادة الجماعية، التي لم يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلا، حيث دمرتا المدينتين عن بكرة أبيهما، وحولتهما الى أكوام من اللهب والرماد، وأهلكتا أكثر من 220 ألف يابانياً، منهم 144 ألف في هيروشيما و 82 ألف في ناغازاكي، معظمهم من المدنيين، وشكل المصابون بأضرار الانفجارات ثلاثة أضعاف عدد القتلى، ومات منهم فيما بعد نحو 30 بالمائة، متأثرين بالجروح والحروق والتسمم الإشعاعي، والإصابة، لاحقاً، بالأمراض السرطانية، خاصة سرطان الدم والأورام الخبيثة، وعاش المجتمع الياباني أفظع كارثة صحية ونفسية وبيئية واجتماعية.
وتؤكد أحداث التأريخ ان تلك المحرقة البشعة التي اقترفتها أمريكا لم تكن لـ "أنهاء الحرب"- كما زعموا- وإنما كانت جريمة متعمدة، لتوجيه رسالة للسوفييت مفادها "أننا نستطيع ان نفعل بكم كما فعلناه بسكان اليابان"- كما يؤكد عالم الاجتماع الأمريكي البارز والباحث المشارك في "مركز أبحاث العولمة" أدوارد كيرتن، في كتابه " البحث عن الحقيقة في بلد الأكاذيب" الصادر عام 2020.
رغم مرور ثمانين عاماً، لم تنس الذاكرة الحية تلك الفظاعات، ولذا يستذكرها أنصار السلام وأعداء الحروب، مع الشعب الياباني، في كل عام، اَملين ان لا تتكرر أبداً. وفي نفس الوقت يجددون موقفهم المناوئ لصقور الحرب ولصناع أسلحتها الفتاكة يواصلون إنتاج وتطوير المزيد من الأسلحة النووية، ونشرها، بدلا من القضاء على ترسانتها، ولتجارها، الذين غير مبالين بتهديدها لمصير البشرية، في ظل مواصلة تصاعد التوتر الدولي الراهن، وتهديد العالم بخطر نشوب حرب عالمية ثالثة، واحتمال ان تستخدم خلالها الأسلحة النووية الحديثة، متجاهلين "معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية"(NPT)، التي أقرتها حكومات العالم في عام 1986، والتي تهدف إلى تحقيق نزع السلاح النووي، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وتعزيز الاستخدام السلمي للتكنولوجيا النووية. ولم يوقعوا على "معاهدة حظر الأسلحة النووية"، التي تبنتها الأمم المتحدة في تموز 2017 ودخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني 2021.
يؤكد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) أنه خلافاً لنصوص المعاهدات الدولية النافذة، تواصل الدول النووية عملياً تحديث ترسانتها، بدلا من نزعها، رغم الرغبة المعلنة للمجتمع الدولي في نزع هذا السلاح. وأشار في بيان له إلى ارتفاع عدد الرؤوس النووية وبطء وتيرة نزعها. وقال الباحث في المعهد شانون كايل إنه "رغم التصريحات الدولية المتكررة بشأن أولوية نزع السلاح النووي، فإن برامج التحديث الجارية في الدول التي تمتلك أسلحة نووية تدفع إلى الاعتقاد بأن أيا منها لن يتخلى عن ترسانته النووية في المستقبل القريب".
وقال المعهد في 15/6/2025، وفي تقريره السنوي حول ترسانات العالم، إن جميع الدول التسع المسلحة نوويا تقوم بتحديث وتطوير الأسلحة الموجودة، وإضافة أسلحة جديدة. وإن تفكيك الرؤوس النووية التي أحيلت إلى التقاعد من قبل الولايات المتحدة وروسيا منذ نهاية الحرب الباردة، أدى إلى انخفاض كبير، لكن هذا التأثير يتباطأ الآن، بينما يتسارع نشر أسلحة نووية جديدة. وأكد أن الدولتين تمتلكان حوالي 90 بالمئة من جميع الأسلحة النووية، وكلتيهما تنفذان برامج تحديث واسعة النطاق، يمكن أن تزيد من حجم وتنوع ترساناتهما النووية في المستقبل.
ووفقاً لـ(سبري) تمتلك الدول التسع – الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، حالياً، مخزونا إجماليا يبلغ 12 ألفا و241 رأسا نووياً، بينما كانت في عام 2024 تبلغ 12 ألفا و405 رأساً نووياً، ومن إجمالي المخزون العالمي هذا ثمة حوالي 9,585 رأسًا نووياً في المخزونات العسكرية للاستخدام المُحتمل. ويُقدّر أن 3,904 من هذه الرؤوس الحربية نُشرت مع الصواريخ والطائرات - بزيادة 60 رأسًا عن كانون الثاني 2023 -والباقي في مخازن مركزية. وقد وُضع حوالي 2,100 رأساً نووياً من الرؤوس الحربية المنشورة، في حالة تأهب تشغيلي قصوى على الصواريخ الباليستية. وكانت الغالبية العظمى لهذه الرؤوس الحربية مملوكة لروسيا وأمريكا.
ويبلغ إجمالي الرؤوس الحربية الجاهزة للانطلاق 3912 رأساً نووياً، منها: 1770 للولايات المتحدة و1718 لروسيا و280 لفرنسا و120 للمملكة المتحدة و24 للصين. من هنا جاء تنبيه المجلة العلمية المعروفة Nature، في17/7/2025 : " لا تغرنّك ادعاءات ابتعاد الحرب النووية ! ". ونشرت الشكل التالي الذي يوضح الوضع الراهن للأسلحة النووية في العالم:
وعلق الخبير الفيزيائي دانيال هولتز، أحد استشاريي "ساعة القيامة" Doomsday Clock؛ الفيصل الرمزي لمدى قرب البشرية من الفناء، والتي تقف الآن عند 89 ثانية قبل منتصف الليل، لتكون أقرب من أي وقت مضى، في الإشارة إلى نقطة اللاعودة بالنسبة لجنسنا البشري، يقول: "الرسالة التي نسمعها دائمًا هي أن صفحة الخطر النووي قد انطوت، وأنه خطر قديم يعود إلى الحرب الباردة، لكن عندما تتحدث مع الخبراء تصلك رسالة مغايرة تمامًا - الخطر النووي في الواقع مرتفع للغاية، وآخذ في الصعود". وأوضح بإن الردع النووي لم يعد مباراة بين طرفين فحسب. وثمة عوامل خطر أخرى؛ فالمعلومات الخاطئة والمضللة يمكن أن تؤثر على القادة والمصوتين في الدول المالكة للأسلحة النووية، والذكاء الاصطناعي يضفي حالة من عدم اليقين على اتخاذ القرار العسكري. والنتيجة عصر نووي خطر جديد.
حيال هذا أعلن دان سميث، مدير سيبري: "بينما يستمر انخفاض إجمالي الرؤوس الحربية النووية عالميًا مع التفكيك التدريجي لأسلحة حقبة الحرب الباردة، نشهد للأسف زيادة سنوية في عدد الرؤوس الحربية النووية العاملة". وأضاف: "يبدو أن هذا الاتجاه سيستمر، وربما يتسارع في السنوات القادمة، وهو أمر مثير للقلق البالغ".
وأشار (سيبري) في تقريره السنوي الأخير الى ان العديد من اتفاقيات نزع الأسلحة والحد منها عانت بشكل كبير مؤخرا. ففي 2019، انسحبت الولايات المتحدة خلال فترة الرئاسة الأولى لدونالد ترامب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى وبعد عام انسحبت من معاهدة السماوات المفتوحة الخاصة بتسيير رحلات مراقبة غير مسلحة دولية. ثم أعلنت روسيا انسحابها من السماوات المفتوحة. وفي عام 2022، وبعد حربها ضد أوكرانيا، انسحبت روسيا من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، وعلقت معاهدة رئيسية لنزع السلاح النووي مع الولايات المتحدة، هي معاهدة "نيو ستارت".
وفي ظل واشنطن وموسكو، تنشأ قوى نووية رائدة ثالثة، هي في خضم تحديث وتوسيع شامل لبرنامج أسلحتها النووية، وهي الصين، التي يقدر(سيبري) أن مخزونها يبلغ نحو 600 رأساً حربياً نووياً وهو أكثر مما تمتلكه فرنسا وبريطانيا معا. وتنمو الترسانة النووية الصينية على نحو أسرع من أي دولة أخرى، منذ عام 2023.
وبسبب إستمرار التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، خاصة بشأن الأسلحة النووية وإنتشارها، لا يقتصر انتشار السلاح النووي على الدول المالكة له، وإنما هناك 5 دول أوروبية، وهي بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا، لا تملك برنامجا نووياً، لكنها تنشر أسلحة نووية أمريكية على أراضيها في إطار اتفاقية "الناتو". وهناك 23 دولة أخرى موافقة على نشر الأسلحة النووية الأمريكية على أراضيها "كوسيلة لتعزيز أمنها القومي"، مثل ألبانيا وأستراليا وبلغاريا وكندا وكرواتيا والتشيك والدانمارك واليونان والمجر واليابان وإسبانيا وكوريا الجنوبية. وهناك فئة ثالثة من الدول التي تمتلك مفاعلات نووية للأغراض السلمية، لكنها يمكن تطويرها لتصبح قنابل ذرية فتاكة- بحسبBulletin of the Atomic Scientists.
وكشفت تقارير صحفية قبل أسبوعين أن الولايات المتحدة أعادت نشر أسلحة نووية في الأراضي البريطانية لأول مرة منذ عام 2008، في خطوة وصفها خبراء بأنها تأتي ضمن تعديل في استراتيجية حلف (الناتو) النووية في أوروبا، عقب الحرب في أوكرانيا. ورفضت وزارتا الدفاع الأميركية والبريطانية التعليق على الخبر، التزاما بسياساتهما التي تمنع الإفصاح عن مواقع الأسلحة النووية..
ولعلكم شاهدتم أو قرأتم قبل 4 أيام تصاعد حدة التوتر بشكل خطير بعد تصريحات نارية طائشة متبادلة بين نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف والرئيس الأميركي ترامب، والتي بلغت ذروتها بإعلان ترامب نشر غواصتين نوويتين بالقرب من روسيا، وهو قرار مستهتر، ويعيد إلى الأذهان أجواء أزمة كوبا النووية في الستينات.
ورداً على هذه الخطوة، وعلى التحركات الأميركية ولحلف (الناتو) الأخرى المزعزعة للاستقرار، التي شملت اختبار أنظمة صاروخية جديدة، وتجهيز بنى تحتية، وتحريك وحدات قتالية إلى مواقع استراتيجية، في الدنمارك والفلبين وأستراليا، واستخدام أسلحة مثل تايفون وهيمارس ودارك إيغل، ألغت روسيا قرار تعليق نشر الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى من طرف واحد، رغم خروج الولايات المتحدة من "معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى" (INF) في عام 2019، مُعلنة أن الاتحاد الروسي لم يعد يعتبر نفسه ملتزما بالقيود الذاتية التي سبق أن فرضها في هذا السياق. وحمل ميدفيديف مسؤولية هذا الإجراء على حلف شمال الأطلسي. وأضاف :"هذا واقع جديد سيتعين على جميع خصومنا ان يضعوه في الاعتبار. توقعوا المزيد من الخطوات "..
كل هذا تأجيج يحرض على نشوب حرب عالمية ثالثة وإحتمال إستخدام الترسانة النووية خلالها. لاسيما وقد أعلن ترامب قبل أيام قلائل ان " بلاده مستعدة للحرب النووية"!!
والغريب والعجيب، ان هؤلاء القادة وأمثالهم يعلمون جيداً إذا نشبت حرب نووية لن يخرج منها منتصر، وإنما ستُهدد البشرية بالفناء، مواصلين تهديداتهم المتهورة، بل والمستهترة، المتجاهلة للمخاطر المحدقة، ولم يكفوا عن إنفاق المزيد من المليارات على سباق التسلح، وتعزيز وتحديث ترسانتهم النووية، بالضد من إرادة شعوب العالم وطموحها المشروع بسلام مستدام وعالم خال من الأسلحة النووية..