حائرون.. خائفون.. يتساءلون
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

انّهم المثقّفون The Intellectuals، هؤلاء الذين أفرد لهم كلٌّ من ريمون آرون وسيمون دي بوفوار وبول جونسون -بين كثيرين آخرين- كتباً مخصوصة تناولت بعض شؤونهم وشجونهم وجنونهم ونجاحاتهم وخيباتهم وثوراتهم وخذلاناتهم وأهوائهم السياسية.

قيل وكُتبَ في تعريف المثقف الكثيرُ ممّا يبقى عرضة للتأويل والخلاف والمناكفة. لن ننسى المثقف العضوي الذي صار أيقونة الآيديولوجيا الثورية في ستينيات القرن الماضي. لن نختلف بشأن التعريف كثيراً ولن يهمّنا أن نتوافق عليه. ربما من المناسب أن يكون التعريف من باب الصناعة؛ فإذا كان الفيلسوف صانع المفاهيم فالمثقف هو صانع الأنساق الذي لديه القدرة على رؤية الإشتباكات المعقدة في كلّ المنظومات الفكرية التي نصنعها. هذا لن يلغي الحقيقة التي ترسّخت من أنّ المثقفين هم في معظمهم شغيلةٌ أدبيون، وأنّ الأدب بوابة طبيعية لكلّ ثقافة حقيقية. هنا من المستحسن أن نقرأ أطروحة اللورد سي. بي. سنو التي عرضها في كتابه (الثقافتان). السياسة كانت البوابة الثانية للمثقف وبخاصة في عالمنا العربي. يمكن إجمالُ الحالة في العبارة التالية: أنت ستكون مثقفاً حقيقياً لو كنت يساريّ الهوى، وتدمنُ كتابة الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية او المسرح، او منغمسا في الفنون الاخرى. أضاف لها البعض من باب السخرية الملطّفة: وتعجز عن تصليح صنبور الماء لو تعطّل!!. أكرّر القول: هذه المقايسة هي لبيئتنا العربية وفي خضمّ تفجّر البراكين الثورية في خمسينيات وستينيات وبعض سبعينيات القرن الماضي. ثمّ حصلت الإنعطافة الكبرى مع بواكير الثورة الرقمية والحواسيب الأولى البدائية. شرعت صورة المثقف التقليدية تنزاح قليلاً من أجواء الرومانسية الثورية نحو التفكير العلمي البراغماتي. أسباب كثيرة ساعدت في دعم هذه الإنعطافة، يمكنُ القراءة بشأنها في أدبيات عديدة.

ما دفعني للتفكير الجدّي في إعادة تعريف المثقف في عصرنا هذا هو مقاطع من منشورات فيسبوكية صغيرة أطيلُ النظر بها كثيراً، يكتب ناشروها عن تجاربهم المتعدّدة مع الذكاء الإصطناعي: واحدٌ يطلب كتابة مقالة بألف كلمة عن الإستشراق السويدي، وآخر يطلب حلّ تكامل معقّد في الرياضيات، وثالثٌ يطلبُ كتابة كتاب كامل بمائة صفحة عن تاريخ الرواية العراقية في القرن العشرين، ورابعٌ يطلب تأويلاً دقيقاً لما تعنيه عبارة (إله سبينوزا) التي أكثر آينشتاين من ذكرها في كتاباته. يتفق الجميع باندهاشهم من سرعة الإستجابة ودقّتها عمّا كانت عليه قبل سنة، ولا يخفون كآبتهم وانزعاجهم من أنّ المستقبل القريب سيساوي معرفياً بين الصلعاء وذات الشعر، وهم في هذا كأنّهم يكتبون مرثية لجهودهم التي يرونها ضاعت وما عادت ذات نفع.

العبارة خطيرة في دلالاتها المصرّح بها والمبثوثة في ثنايا الكلمات. لم نعُدْ نطلب من الذكاء الإصطناعي بحثاً عن إسم أو موقع أو موقعة أو واقعة تاريخية، ،،؛ بل صرنا نطلب موضوعات كاملة على شاكلة كتابة كتاب كامل في موضوع ذي عنوان محدّد. صرنا نبالغ في الدلال، ولم ينفكّ الذكاء الإصطناعي يعلي مناسيب دلالنا ويثني عليه ويغوينا على الاستزادة منه. أعجبتني نبرةُ الإعتراف والتسليم الكامل لفائقية الذكاء الإصطناعي من جانب مستخدميه بالرغم من المرارة الطافحة التي تشي بها عباراتهم. كل ما تحتاجه مدوّنات الذكاء الإصطناعي هو شيء من التحرير البسيط. جميلٌ أن نعترف بالحقيقة ولا نراوغ في شأن المرئي والمحسوس على الأرض. العناد لن يفيدنا بشيء. الذكاء الإصطناعي يتطوّرُ بوتيرة متسارعة نستطيع اختبارها لو كنّا نشاء المعرفة الحقيقية. يقالُ أنّ قدرات النسخة الأولى من برنامج المحادثة GPT-3 كان بقدرات طالب في الثانوية، والنسخة التالية GPT-4 كات بقدرات طالب كلية متقدّم؛ أمّا النسخة الخامسة GPT-5 التي أدخلت الخدمة قريباً فهي أعلى من مهارات وقدرات طالب دكتوراه متفوّق!!!. كلّ هذا التطوّر حصل خلال أقلّ من ثلاث سنوات. ليس الذكاء الإصطناعي محض بحث إحصائي في أكوام من البيانات والمعرفة؛ بل ثمّة شبكات عصبية إصطناعية لها القدرة على التعلّم بطريقة شديدة التسارع، وهي في هذا الشأن تمثّلُ محاكاة لما يحصل في الدماغ البشري مع فارق قدراتها الأعظم بفعل البيانات الضخمة المتاحة لها فضلاً عن القدرات الحوسبية الهائلة التي هي خارج قدرة أيّ دماغ بشري على التعامل معها. أرى أنّ حديثنا انحرف سريعاً من أطروحة المثقف نحو قدرات الذكاء الإصطناعي المتقدّم. ليس الأمر غريباً. كلّ صناعاتنا الثقافية ستتفاعل بطريقة مؤثرة مع مخرجات الذكاء الإصطناعي الذي لن يكون ثورة تقنية جديدة بل سيكون عصراً تنويرياً جديداً لأنّه سيرافقنا أينما كنّا.

تفكّرتُ كثيراً في موضوعة المثقف في عصرنا هذا، وها أنا أقترحُ التعريف الآتي له: "المثقف هو كلّ من لا ينكسرُ ويصيبه الخذلان إزاء أيّةِ ثورة تقنية جديدة؛ بل يمتلك القدرة والرغبة في تطوير أدواته ووسائله لتتناغم مع مخرجات هذه الثورة". سيبدو التعريف غريباً وعلى شيء من القطيعة مع التعريفات السابقة له، وكذلك يبدو أكثر إيغالاً في الجانب النفسي للمثقف.

يبدو لي المثقف في عصر ما قبل الذكاء الإصطناعي وكأنّه سمسارُ أفكار، طوّر خلال سنوات وعقود أنساقاً فكرية تعب عليها كثيراً ويريدُها ذخيرة له ليبقى اسماً فاعلاً في الخريطة الثقافية. كلّما أراد الكتابة فليس عليه سوى أن يمدّ يده إلى (كيس) معرفته المخزّنة ليعبّ منها ما يشاء، وليعيد تدوير القول مرّات كثيرة ولن يصدّه في هذا شيء بعد أن تمرّس طويلاً في صنعته. هو مثلُ سمسار عقارات. هل يقبلُ هذا السمسارُ ثائراً يعلنُ أنّ الارض صارت ملكية مشاعية؟ الأمر سيان مع شغيلة الفكر المثقّفين. يرون في الذكاء الإصطناعي ذلك اللص الغادر الماكر الذي طعنهم وأعلى شأن الكسالى الذين يسعون للنتائج النهائية من غير كدّ أو تعب. لهم الحق في هذا بالطبع. لكن ما العمل؟ هل من المفيد مثلاً أن يرى مالكو العربات - التي تجرّها الأحصنة في شوارع لندن أو فيينا أواخر القرن التاسع عشر - في السيارات مصنوعاً ميكانيكياً طعنهم في قلوبهم حتى أدماها؟ ماذا ينفع النحيب والشكوى من هذا المارد الميكانيكي العجيب أمام أحصنتهم الجميلة؟ الأفضل والأكثر جدوى أن نعيد تأهيل وسائلنا، وهذا ما حصل تماماً. لديّ قناعة أنّ أغلب مالكي العربات هم أوائل من تعلّم قيادة السيارة.

ماذا يفعل المثقف الحقيقي في عصر الذكاء الإصطناعي المبشّر بقدرات هائلة؟ أولاً من الأفضل أن يتخلّى عن فكرة أنّ الثقافة رزمة Package من المعرفة التي يعملُ حارساً مقدّساً على إحدى بوّاباتها. غطرسة احتكار المعرفة من الأفضل التخلّي عنها سريعاً، وكذلك من الأجدى أن نكون سعداء لا متجهّمين إزاء أيّة مشاعية حقيقية للمعرفة. من يحب المعرفة سيطاردها وسوف يستحقّ مشاعيتها المباحة؛ أما من لا يحبها فلن تحقق له المشاعية شيئاً حتى لو صيّرْت المعرفة قطع شيكولاته تدسّها دساً في فمه. من المستحسن أيضاً أن نفعّل التعليم الذاتي، وأن نغادر أنساقنا القديمة التي تقودنا إلى فخّين خطيريْن إثنين: وَهْمُ المعرفة، والغطرسة الناجمة عن هذا الوهم. يكفي أن تقرأ بعض الشيء لروّاد كبار في تاريخ الذكاء الإصطناعي لتعرف كم هي موهومة وضئيلة معرفتنا، وأنّنا كنّا نداري ذلك الوهم وتلك الضآلة بالمكوث في (جحر الأرنب) الخاص بنا لا نبارحه ولا نشمّ هواء خارجه.

أما الأكثر أهمية من كلّ هذا فهو تعلّم كيفية النظر إلى الظواهر الكبيرة، طبيعية كانت أم مجتمعية، في سياق النظم الدينامية المعقّدة. هذه لوحدها تحتاجُ تركيزاً خاصاً حتى ليمكن القولُ أنّ المثقف الحقيقي هو من يستطيع حدس تلك الروابط الخفية بين الظواهر المتباينة.

تعلّمْنا من الثورات التقنية السابقة أنّ أنماطاً من الحياة قد تختفي؛ لكنّ أنماطاً جديدة تظهر. لماذا الخوف إذن؟ لا خوفٌ على المثقفين ولا هم يحزنون. لو وطّنّا أنفسنا على رؤية الإمكانيات الجديدة في كلّ تقنية مستحدثة بدلاً من النحيب على فرص نحسبها ضائعة فستكون الحياة ميداناً للتجريب المدهش. هذا لو كنّا مثقفين حقيقيين لا ننظر إلى المعرفة كنظرة مرابٍ شايلوكي عنيد إلى دراهمه المحفوظة في كيس عتيق.

  كتب بتأريخ :  الأحد 17-08-2025     عدد القراء :  42       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced