في مشهد مهيب يملؤه الحزن والحنين، أحيا أبناء الجالية الإيزيدية ومعهم أصدقاء من مختلف أطياف المجتمع العراقي، في عدد من مدن المهجر، ومنها العاصمة الألمانية برلين، الذكرى الحادية عشرة للجرائم الوحشية التي ارتكبها تنظيم داعش الإرهابي بحق الإيزيديين في قضاء سنجار ومحيطه عام 2014 ، وصفها كثيرون بأنها جريمة إبادة جماعية لاتزال آثارها ممتدة في الواقع السياسي، الإنساني، والاجتماعي، ليس فقط في سنجار بل في عموم العراق، حيث يعيش آلاف النازحين في ظروف مأساوية، يستمر معها غياب الحلول الجذرية.
وتجمع المشاركون بدعوة من المركز الثقافي الأيزيدي, والجمعية الثقافية الأيزيدية ـ يوم 2 آب 2025 في وسط برلين أمام بوابة "براندنبوركر تور"، حاملين صور الضحايا ولافتات تُجدد المطالبة بتحقيق العدالة الدولية، حيث عبّروا عن ألمهم العميق لما تعرض له أهلهم من مجازر وعمليات خطف واغتصاب وتهجير قسري لا تزال تبعاتها تؤرق ذاكرة الناجين حتى اليوم.
وشهدت الفعالية طقوسًا رمزية مؤثرة، تمثلت في إشعال الشموع وقراءة كلمات تأبينية، مع بث تسجيلات توثق شهادات الناجين ومعاناة العائلات التي ما زالت تبحث عن أبنائها المفقودين. كما وقف الحاضرون دقيقة صمت تكريمًا لأرواح الضحايا.
في الثالث من آب/أغسطس عام 2014، اجتاح تنظيم "داعش" قضاء سنجار في محافظة نينوى، في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدها العراق الحديث. خلال ساعات قليلة، تحولت المنطقة إلى مسرحٍ للموت الجماعي، والاغتصاب، والاختطاف، والدمار. الإيزيديون كانوا الهدف الأول، لكن الألم طاول كل من عاش في شنكال، التي ما زالت، بعد أحد عشر عاماً، جرحاً مفتوحاً في الجسد العراق.
رغم مرور أكثر من عقد على الكارثة، فإن تداعياتها السياسية والإنسانية ما تزال حاضرة بقوة، في ظل غياب معالجة جذرية، واستمرار تجاهل المأساة في ملفات الدولة، وكأن الإبادة الجماعية يمكن تجاوزها بالصمت، دون أن يعقبها عدل.
لم تكن المجازر التي ارتكبها داعش مجرد أعمال عنف عشوائي، بل حملت طابعاً ممنهجاً استهدف الهوية الدينية والثقافية للإيزيديين. الآلاف من الرجال أُعدموا جماعياً، أكثر من 6,000 امرأة وطفل خُطفوا، استُعبدوا، وبيعوا في أسواق الرق، ودُمرت عشرات المزارات والمعابد. ورغم تصنيف الأمم المتحدة لتلك الجرائم كـ"إبادة جماعية"، فإن العدالة لم تأخذ مجراها الكامل حتى الآن. لا تزال الغالبية العظمى من مرتكبي تلك الفظائع طلقاء، ولم تُنشأ محكمة خاصة تُعنى بضحايا سنجار، كما لم تُعتمد بعد خطة وطنية لإنصاف الناجين وضمان عدم تكرار ما حدث.
مأساة النزوح مستمرة.. والواقع الأمني والسياسي هش
على الصعيد الإنساني، ما زال أكثر من 200 ألف نازح من سنجار يعيشون في المخيمات شمالي العراق، في ظروف قاسية وغير إنسانية. خيام ممزقة في صيف لاهب وشتاء قارس، وخدمات صحية وتعليمية شبه معدومة، ومئات الأطفال خارج المدارس منذ سنوات.
الناجون والنازحون من شنكال، مثل آلاف العائلات العراقية الأخرى التي شُرّدت من مناطقها بسبب الحرب على الإرهاب، يواجهون مستقبلاً غامضاً. فغياب الأمن المستقر في سنجار، والنزاع بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان حول إدارة القضاء، والصراع بين القوى المسلحة المحلية، كلها عوامل تعيق عودتهم الطوعية والآمنة.
رغم تحرير سنجار من قبضة "داعش" في عام 2015، لم تستعد المنطقة استقرارها بعد. تنازع السيطرة بين قوات متعددة ـ من الجيش العراقي، إلى الحشد الشعبي، إلى وحدات حماية سنجار المدعومة من حزب العمال الكردستاني ـ خلق واقعاً أمنياً مشوشاً. كما أن اتفاق سنجار الموقع بين بغداد وأربيل في تشرين الأول/أكتوبر 2020 بقي حبراً على ورق، دون تنفيذ فعلي على الأرض.
في ظل هذا الانقسام، يُحرم الإيزيديون من المشاركة الفاعلة في إدارة مناطقهم، وتبقى أصواتهم مهمشة في معادلات القرار، فيما تنمو مشاعر الغبن والخذلان، خاصة لدى الشباب الذين فقدوا الثقة في مؤسسات الدولة.
ضحايا غير مرئيين، وأمل العدالة والاستقرار غير معلوم؟
واحدة من أكثر الجوانب المهملة في مأساة سنجار هي الخسارة التربوية. آلاف الأطفال الإيزيديين، خصوصاً من الناجين من الأسر، حُرموا من التعليم المنتظم، وبعضهم يعاني من صدمات نفسية لم تُعالَج. مدارس مدمرة أو مغلقة، مناهج لا تراعي خصوصيتهم الثقافية والدينية، ومدرسون غير مؤهلين للتعامل مع حالات ما بعد الصدمة. ناهيك عن غياب برامج الدعم النفسي والاجتماعي، وتدهور البنية التعليمية، يهددان جيلاً كاملاً بالنسيان، ويزرعان بذور الإحباط، بل والانفصال التام عن الدولة.
الذكرى الحادية عشرة لاجتياح سنجار لا ينبغي أن تمرّ كتقويم سنوي للوجع، بل ينبغي أن تكون دعوة صريحة لإعادة النظر في كيفية تعامل الدولة مع ضحايا الإرهاب، ومع الأقليات الدينية بشكل عام. كما يتطلب تأمين عودة كريمة وآمنة للنازحين، وتحقيق العدالة الجنائية، والاعتراف الدستوري بالإبادة، وتخصيص ميزانيات حقيقية لإعادة الإعمار، ليست مطالب "فئوية"، بل حقوق أساسية تندرج ضمن مشروع بناء دولة المواطنة. كما يجب أن تكون هناك إرادة سياسية حقيقية لتوحيد الإدارة الأمنية في سنجار، وضمان التمثيل السياسي للإيزيديين بعيداً عن الاستقطابات الحزبية. فكرامة الناجين لا تُرمم بالبيانات، بل بالفعل الجاد والمسؤول.
سنجار اليوم ليست مجرد جغرافيا منكوبة، بل اختبار أخلاقي وسياسي للدولة العراقية والمجتمع الدولي. إن استمرار معاناة أهلها ـ في المخيمات، وفي الشتات، وفي الصمت ـ يعني أن الإبادة ما زالت مستمرة بشكل آخر: بالإهمال والنسيان.