نحو إعادة بناء الإدارة العراقية على أسس عقلانية– قانونية
بقلم : إسماعيل نوري الربيعي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

يُعدّ التحوّل الذي شهده العراق بعد عام 2003 من أكثر التحوّلات السياسية والإدارية دراماتيكية في الشرق الأوسط. فبعد سقوط النظام السلطوي القائم لعقود، كان يُفترض أن تشهد الدولة إعادة تأسيس مؤسساتها على أسس حديثة تتماشى مع مبادئ الإدارة العامة الرشيدة، بحيث يضمن ذلك بناء جهاز إداري بيروقراطي عقلاني كما صوّره ماكس فيبر. غير أن ما حدث على أرض الواقع كان أقرب إلى فشلٍ ممنهج في تجسيد هذا النموذج؛ إذ طغت المحاصصة السياسية، والفساد، والتدخلات الخارجية على منطق الإدارة، فاختفى التمايز بين المجال الشخصي والوظيفي، وضاعت معايير الجدارة والاستحقاق، وتراجعت الدولة إلى فضاء هش لا يستطيع أن يقدم خدمات عامة مستقرة أو يضمن مسارًا عقلانيًا للتنظيم. لفهم أسباب هذا الفشل، لا بد من استدعاء نظرية ماكس فيبر في البيروقراطية، التي اعتبرها نموذجًا مثاليًا للهيمنة الشرعية–العقلانية، قائمًا على قواعد لا شخصية، وتنظيم وظيفي صارم، وكفاءة مؤسسية تضمن الاستمرارية والثبات. يقابل ذلك تحليل الحالة العراقية التي فشلت في تطبيق هذه السمات، ما جعل الإدارة أداة لتكريس الزبائنية السياسية بدلًا من أن تكون ركيزة لبناء الدولة الحديثة.

وضع ماكس فيبر البيروقراطية كنموذج مثالي للإدارة الحديثة، يختلف جوهريًا عن أنماط الإدارة التقليدية في ظل الإقطاع أو الحكم الاستبدادي. فهو يرى أن العقلنة التنظيمية تقتضي: تقسيمًا دقيقًا للعمل يضمن وضوح الصلاحيات والمسؤوليات. وتسلسلًا هرميًا واضحًا للعلاقات الوظيفية بحيث يخضع كل مستوى للذي يعلوه. مع قواعد قانونية موضوعية ذات طابع لا شخصي، تطبق على الجميع دون تمييز. وفصلًا بين الموقع الإداري وشاغله بما يمنع امتلاك المنصب أو توريثه. مع رواتب نقدية منتظمة ترتبط بالمستوى الوظيفي لا بالمحاباة. وترقية قائمة على الجدارة أو الأقدمية وفق معايير موضوعية. مضافا لها استمرارية وثبات الوظيفة العامة بعيدًا عن التغيّرات السياسية. بالنسبة لفيبر، يمثل هذا النموذج أساسًا لإرساء ما يسميه "الهيمنة الشرعية–العقلانية"، حيث تستمد السلطة شرعيتها من القواعد القانونية والإجراءات، لا من الولاء الشخصي أو الهيمنة التقليدية.

العراق بعد 2003 بين الطموح والتطبيق

كان يفترض أن يشكل سقوط النظام السابق لحظة لإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق هذا المنظور. لكن الواقع جاء مغايرًا لعدة أسباب: أولها المحاصصة السياسية (المحاصصة الطائفية–الحزبية): تم توزيع المواقع الإدارية العليا على أساس انتماءات مذهبية وعرقية لا على أساس الكفاءة. وبذلك انتُهك المبدأ الفيبري القاضي بالفصل بين الموقع الإداري وشاغله، إذ أصبح المنصب ملكًا للحزب الذي يسيطر عليه. مع غياب التسلسل الهرمي الفعّال: حلّت سلطة الأحزاب والمليشيات محل السلطة الإدارية القانونية، ما جعل الموظفين يتلقون أوامر متناقضة من مرجعيات حزبية مختلفة. وتآكل مبدأ القواعد الموضوعية، حيث لم تعد القوانين هي الفيصل في السلوك الإداري، بل القرارات السياسية الآنية وصفقات النفوذ. وتراجع الكفاءة المؤسسية: نتيجةً لسياسات اجتثاث البعث، جرى استبعاد آلاف الكفاءات الإدارية ذات الخبرة، من دون بناء بدائل مدرّبة. هذا أفضى إلى جهاز إداري غير قادر على ممارسة وظائفه الأساسية. وتسييس الرواتب والترقيات: بدل أن تكون الرواتب والتدرجات الوظيفية موضوعية، صارت أداة لإرضاء الموالين وتثبيت الولاءات الحزبية. مع غياب الاستمرارية: التغيرات السياسية العاصفة انعكست مباشرة على الجهاز الإداري، فكل دورة انتخابية أو أزمة سياسية تعني تغييرًا واسعًا في المواقع الإدارية، ما ألغى أي إمكانية للاستقرار المؤسسي.

فشل البيروقراطية وغياب "الهيمنة الشرعية–العقلانية"

وفقًا لفيبر، جوهر الدولة الحديثة، يقوم على التحوّل من أنماط الهيمنة التقليدية أو الكاريزمية إلى الهيمنة العقلانية–القانونية. غير أن العراق بعد 2003 أعاد إنتاج أشكال الهيمنة التقليدية في لبوس جديد. إذ أصبحت الانتماءات الطائفية والقبلية مصدر الشرعية في شغل المناصب، لا المؤهلات القانونية أو المهنية. وهيمنة الزعامات والتي تمثلت في بروز زعامات سياسية ودينية تفرض إرادتها خارج إطار القوانين، وتتمتع بقدرة على تعطيل المؤسسات. فيما لعب النفوذ الأميركي والإقليمي دورًا مباشرًا في تعيين مسؤولين، ما قوض السيادة الإدارية والقدرة الوطنية على إدارة الجهاز البيروقراطي. وبذلك، لم تتحقق "الهيمنة الشرعية–العقلانية"، بل تفتتت إلى مزيج من هيمنات متناقضة، جعلت البيروقراطية عاجزة عن أداء دورها في بناء الدولة.

الفساد الإداري كأحد تجليات فشل النموذج

يشير فيبر إلى أن إحدى أهم مزايا البيروقراطية الحديثة هي إلغاء المحاباة الشخصية. لكن في العراق بعد 2003، تحول الفساد إلى بنية متجذرة، تشمل؛ الرشوة والابتزاز الإداري: للحصول على أبسط الخدمات. مع بروز ظاهرة الوظائف الوهمية؛ حيث أُنشئت آلاف الوظائف غير الموجودة على أرض الواقع لغرض استنزاف الموارد. مع تضخم الجهاز الإداري: إذ يضم العراق اليوم ما يزيد عن أربعة ملايين موظف مدني، كثير منهم بلا دور فعلي، ما أدى إلى بيروقراطية مشلولة. هذا الفساد البنيوي جعل الإدارة غير قادرة على القيام بوظيفتها الأساسية في تقديم الخدمات وضمان العدالة الإدارية. العراق اليوم لا تجد فيه سوى ملامح الفشل الذريع، و الذي يتجلى في ضعف الخدمات العامة من الكهرباء إلى الصحة والتعليم، عجز الجهاز الإداري عن توفير الحد الأدنى من الخدمات. وفقدان الثقة بالمؤسسات: أدى هذا الفشل إلى نفور المواطنين من الدولة واعتبارها عبئًا لا سندًا. وغياب سلطة الدولة لاسيما مع انهيار البيروقراطية، برزت قوى بديلة مثل العشائر والميليشيات لملء الفراغ الإداري. وإضعاف التنمية الاقتصادية: لأن غياب جهاز إداري عقلاني يعني غياب بيئة آمنة للاستثمار والنمو.

في الحالة العراقية، تبرز أن المشكلة لم تكن فقط في غياب البنية البيروقراطية الصارمة، بل أيضًا في فشل إدارة السلوك داخل المؤسسات. فقد أدى غياب الحوافز، واستشراء المحاباة، وانعدام الثقة، إلى دفع الموظفين إلى البحث عن مصالح شخصية بدلًا من خدمة الصالح العام.

لكي يتجاوز العراق إخفاقات ما بعد 2003، هناك حاجة إلى إصلاح شامل للجهاز الإداري وفق منطق مزدوج: إعادة بناء وفق النموذج الفيبري: عبر ترسيخ الفصل بين المنصب والموظف، وتطبيق معايير شفافة للتوظيف والترقية، وضمان الاستمرارية المؤسسية، والتطلع نحو إدماج مقاربات سلوكية حديثة: مثل تطوير الحوافز الإدارية، وتفعيل التدريب، وتعزيز الثقة بين المواطن والإدارة. مع أهمية مكافحة الفساد بشكل بنيوي، من خلال مؤسسات مستقلة حقيقية للرقابة والمحاسبة. والسعي نحو تحييد الجهاز الإداري عن الصراعات السياسية، عبر ضمان مهنية الموظف العام واستقلاليته عن الولاءات الحزبية. لقد كشف فشل الإدارة في العراق بعد 2003 عن حدود استيراد النماذج المؤسسية من دون مراعاة السياق السياسي والاجتماعي. فالنموذج الفيبري للبيروقراطية، الذي يمثل جوهر الدولة الحديثة، لم يجد في العراق بيئة مناسبة للتجسيد؛ إذ اصطدم بالمحاصصة الطائفية، والفساد، والهيمنة غير العقلانية. لكن هذا لا ينفي صلاحية النظرية في تشخيص أبعاد الأزمة: فالعراق لم يفشل بسبب النموذج الفيبري، بل بسبب غيابه. إن الاستفادة من مقاربة فيبر، مقرونة بالنظرية السلوكية التي تركز على ديناميات الأفراد والجماعات، قد تفتح أفقًا لإعادة بناء الإدارة العراقية على أسس عقلانية–قانونية، تضمن الكفاءة والاستقرار، وتعيد للدولة قدرتها على الفعل والهيمنة الشرعية.

  كتب بتأريخ :  الخميس 11-09-2025     عدد القراء :  39       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced