عطبٌ عقلي + مَفْسَدة = ؟؟؟
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لا أريدُ للعنوان أن يكون أحجية Puzzle. ما الذي تراه يصلح لإكمال المعادلة؟ دعني أساعدك قليلاً. ستفكّرُ وترى أنّها السّلْطة authority.

كلّ ممارسة سلطوية تنطوي في تضاعيفها أو حيثياتها التفصيلية على إمكانية الفساد. وضعتُ الأمر في نطاق الإمكانية ولم أجزم بحتميّة حصوله. نقرأ عن قادة وزعماء ورؤساء وملوك كانوا نزيهين إلى حدّ مميز؛ لكنّما إمكانيةُ الفساد تظلُّ حاضرة لأنّ بعضاً من متطلبات ممارسة السلطة يستلزم إطلاق يد صاحب السلطة في الفعل، وهنا قد يجنح السلطوي إلى إقتراف أشكال شتى من الفساد. لأجل هذا قال أعاظمُ القانونيين البريطانيين أنّ السلطة مفسدة، وأضافوا: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. قد نتخيّلُ إمكانية لجم الفساد بإشتراع قوانين مضادة له؛ لكنّنا لن ننجح أبداً. سنعتمدُ في نهاية الأمر على النزاهة الشخصية للمكلّف بممارسة السلطة، ولو تجاوز الفساد نطاقاً محدّداً فسيكون اللجوء للقضاء، وتلك فعالية شاقة وطويلة وساحة مباراة لألاعيب يجيدها المحامون البارعون- محامو الشيطان!!. لا يمكن للقانون (العدالة إن شئت) أن يتوغّل في الشعيرات الدقيقة والمدببة لكلّ مسارات الحياة. ثمّة حدود لما يمكنُ أن يفعله.

لو فهمنا الأمر على هذه الحالة فسيكون مفهوماً ومسوّغاً أن يتقاتل البشر على السلطة، وأن تشتدّ ضراوة القتال كلّما ارتقينا صعوداً في سلّم المناصب السلطوية. الغريب أنّ هذا الأمر لا يحصل كما نتصوّرُ في الغرب. معظم الناس هناك يُمضون حياتهم حتى من غير الحاجة إلى معرفة أسماء رؤساء وزاراتهم. عندما يختلي المرء هناك بشقّته أو منزله فسيكون ملكاً في مملكته الخاصة التي لن ينازعه فيها ملك أو رئيس وزارة أو وزير. هذه واحدة من علامات الصحّة وليست نذير جهالة أو علامة على تخلّف ثقافي.

أذكرُ مرّة أنّ رئيس الوزارة البريطانية الأسبق توني بلير سئل هل أنّ زوجته تعمل على أن تكون رئيسة وزارة في سنوات قادمة، فأجاب: كلا أبداً. ولمَ تكون رئيسة وزارة وهي تحصل على دخل سنوي من عملها كمحامية يفوق ثلاث مرّات ما أحصل عليه؟!!. كذّب بلير بشأن أسلحة العراق للتدمير الشامل ثم اعترف بكذبته؛ لكنّه قال الحقيقة بشأن المال والسلطة. في الغرب ليست السلطة طريقاً ممهّداً إلى الثراء فضلاً عن وضع اليد على مقدّرات البلاد المالية. الناس الذين يدفعون ضرائب ليسوا رعايا يسوقهم صاحب السلطة أو يسرقهم كيف يشاء. ربما لم يسمع كثيرون أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يتقاضى راتبه الرئاسي بل يتبرّع به للخزينة الأمريكية. هذه حقيقة معلنة. تخيّلوا معي أنّ 430 ألفاً من الدولارات هي الراتب الرئاسي السنوي للرئيس الأمريكي، هل هناك من يتبرّع بجزء منها بين سلطوييّ العراق؟

السلطة مفسدة يمكن لجمُ شيء منها بقوانين مصاغة بطريقة جيّدة؛ لكن تبقى النيّة الحسنة والضمير الحي عناصر لا يمكن تعويضها في كلّ ممارسة سلطوية صحيحة ومقبولة. اليوم يشيع مفهوم آخر يتّصل بممارسة السلطة. صرنا نقرأ أنّ الممارسة السلطوية الطويلة تقود إلى شكل من أشكال العطب الدماغي Brain Damage. التسويغ هو أنّ الإنسان لم يُخلقْ لممارسة السلطة، وأنّ السلطة ممارسة تتسمُ بفردانية مركّزة رغم القوانين التي تحدّ من تغوّلها؛ لذا فإنّ كلّ ممارسة فردانية طويلة تخلق في الفرد خصائص ما كانت ظاهرة لديه قبل ممارسته السلطة، ولو أرغِم على ترك السلطة فستظهر لديه إعتلالات نفسية أو ذهانية خطيرة. أظنّ أنّ التقليد الأمريكي الذي يسعى فيه كلّ رئيس عقب تركه للرئاسة إلى تأسيس مكتبته الرئاسية إنّما هي بعضُ مكمّلات فترة النقاهة من سلطة الرئاسة، يخلو فيها الرئيس المتقاعد بنفسه ليكتب مذكراته ويشارك في تجمّعات وملتقيات وندوات. يجري التخفف من طول عهده بالإكسسوار الرئاسي بهدوء. أظنها مقاربة تستحق النظر والإقتداء.

*****

رؤساؤنا في المقابل معضلة كبرى. هم أباطرة وإنْ لم يذيعوا الأمر بألسنتهم. أفعالهم تنمّ عن إلتصاق مَرَضي بالسلطة وتمثّلاتها المادية والرمزية، ولا يقولنّ أحدٌ أننا في العراق الجديد، عراق مابعد 2003، نعيش الديمقراطية وتداول السلطة. هذا في الكلام العام الذي يكذّبه الواقع.

قلتُ غير مرّة أنّنا لم نغادر فكر العشيرة. دولُنا ليست سوى عشائر ممتدّة ومغطّاة بعلم وتمثيل دولي؛ وإلّا ما فرقها النوعي عن الهيكل العشائري الذي نعرف؟ الرئيس لدينا ليس سوى رئيس العشيرة الأكبر، ولم تزل الأعراف العشائرية تحكم سلوكنا. العشيرة فوق الدستور. حتى الدستور تمّ تصميمه لمركزة السلطة بكلّ تمثلاتها في يد رئيس الوزراء لأنّ كَتَبة الدستور عرفوا أنّ منصب رئيس الوزراء هو الأخطر بين المناصب السيادية، وسيكون حصرياً بين الطائفة الاكبر في العراق The Big Brother؛ لذا سعوا لإتخام المنصب بشتى السلطات. الدستور بهذا الشكل جاء وصفة ممتازة لمباراة صراعية على منصب رئيس الوزراء حتى بين كبار ممثلي الأخ الأكبر. عندما ترى السلطات التي يمسك بها رئيس الوزراء تكاد تعجب لفرط كثرتها. إنّه إمبراطور غير معلن. كيف بعد هذا نتصوّرُ أنّه سيغادر هذا المنصب بهدوء ومن غير هياج ومعارك طاحنة بعضها معلنة وأغلبها تحت الحزام؟

شئنا أم لم نشأ يأتي رؤساء الوزارة الغربيون من أوساط لها شيء من الإمتلاء المهني والمالي: أغلبهم خريجو قانون أو اقتصاد، ومنهم من درس منهجاً جامعياً يركّز على السياسة والإقتصاد والفلسفة، ولهم في العادة توصيف مهني وعمل سياسي طويل. هم لا يرون كرسي رئاسة الوزارة مغانمة جاءت بصدفة طيبة ويتوجّبُ الإمساك بها بالأظافر والأسنان. الحال عندنا مختلف نوعياً: رؤساء الوزارة لم ينالوا في الغالب تعليماً راقياً، ولم يُعْرَفْ عنهم سيرة مهنية مرموقة. سيتحجّجون هم أو مريدوهم بسيرتهم النضالية الطويلة. هي حجّة كلّ المتحزّبين لدينا. نضالك ليس مسوّغاً لجلوسك على كرسي الوزارة أو رئاسة الوزراء. هل تريد تخريب الدولة تحت لافتة نضالك؟

نقرأ عن كثيرين من المتحزّبين الجدد الذين قدموا للعراق بعد 2003 وفي ذهنهم أن يكونوا مدراء عامين كأقصى ما يمكن أن تصل إليه أحلامهم، ثمّ لعبت الأقدار والرغبة الأمريكية المقصودة دورها في تمكينهم من مناصب لم يحلموا بها. راح هؤلاء يتلذّذون طعم السلطة والمال، ثمّ تركّزت لديهم فكرة شريرة: أنت بالمال تستطيع كل شيء. تشتري نفوساً وتقطع ألسنة وتخلق مريدين يهللون لمجدك بل وحتى تشتري مسؤولين دوليين. تركوا أفانين التعلّم والدراية والخبرة وراحوا يعملقون مكنوزهم من المال الذي يريدونه ذخيرة ليوم الحاجة حيث لا ينفع كرسي أو سلطة احتلال. نسوا أو تناسوا أنّ المال المكنوز لن ينفعهم أيضاً عندما تحين ساعة تسديد الفواتير المؤجّلة.

يسمع المرء كلّ يوم ما يشين من السلوك والملفّات التي يختزنها السلطوي العراقي لتكون سيفاً يشهره وقت الحاجة. صار الضرب تحت الحزام بقوة وقسوة. هل نرى هذا عجباً؟ أين العجب؟ السلطوي العراقي تمكّنت منه شهوة السلطة ولعبت بعقله. سيفعل كل شيء وأي شيء ليبقى على الكرسي. لم يعدْ يكتفي بالمال الذي عبّ منه عباً بالمليارات. لم يعدْ يستطيع تخيّل العيش خارج إطار صورة السلطة وهيلمانها. لماذا لا يرتكن المتقاعد منهم إلى السكينة ويكتب مذكراته مثلاً؟ لم يعد يستطيع ذلك، ومن فعل منهم كتب مذكرات هزيلة بائسة. هل أذكر لكم أمثلة؟ لا أظنني في حاجة لها. صار بعضهم يسعى للظهور بمظهر اللاعب السياسي الماهر الذي يحرّك خيوط السياسة العراقية وهو ماكث وراء الأبواب المغلقة. ربما يرى نفسه (تشرتشل) بنسخة عراقية!!.

صدق البريطانيون عندما جعلوا السلطة المطلقة مكافِئة للمفسدة المطلقة، وأظنّ أنّ العراق شاهدة حيّة على صواب قولهم. يبدو جلياً أنّنا سنخسر الكثير فوق ما خسرناه طالما ظلّ المتصارعون على السلطة في العراق مسكونين بجوع قديم لم يبرأوا من وقع أسواطه في عقولهم وأرواحهم.

هل سيبرأون يوماً من جوعهم؟ يبدو أنّ مثال (ابن آدم الذي لا يملأ عينيه سوى التراب) هو الجواب الأمثل الذي لا جواب سواه.

  كتب بتأريخ :  الأحد 14-09-2025     عدد القراء :  24       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced