بداية، يجب القول إن المرء لن يرهق نفسه بالسعي لإعمال العقل للإجابة على السؤال التقليدي: لماذا وقعت الواقعة؟ ويبدو أن دوي المدافع وقصف الطائرات وتدفق الصواريخ من مختلف الانواع بما فيها البالستية والفرط صوتية مجددا في اطار الحقبة الترامبية ذات صلة وثيقة بمسعى أمريكي حثيث الى إجراء ترتيبات سياسية جديدة في "النظام العالمي"، تترجم مجمل الحقائق المستجدة التي أسفرت عنها حقبة ما بعد "الحرب الباردة" وأحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من حروب، وصولا الى ما وقع في أوكرانيا في شباط عام 2022 وما ترتب ويترتب عليها من أحداث ووقائع استراتيجية وجيوسياسية جديدة، وأخيرا الحرب على غزة وايران ولبنان. وفي قلب تلك الحقائق كان هناك المسعى الحثيث لضمان انفراد الغرب الأطلسي - ومركزه الأمريكي - بإدارة الشؤون العالمية على مقتضى احتكار القوة والهيمنة في "التوازن الإستراتيجي والجيوسياسي الجديد" ومحاولات حثيثة لمنع تبلور عالم متعدد الأقطاب حتى لو تطلب الأمر فرض ذلك بقوة النار.
ومن دون الدخول في الكثير من التفاصيل يمكن الإشارة إلى أنه من بين أعرض عناوين هذه الترتيبات ما يأتي:
الحاجة، مرة أخرى، إلى إعادة تعريف مفهوم "الشرعية الدولية" ليعكس حقيقة التغيرات في المشهد السياسي العالمي منذ نهاية الثمانينات ومطلع عقد التسعينات من القرن العشرين بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي. فكما هو معروف فإن "الشرعية الدولية" السابقة قد خرجت من رحم نتائج الحرب العالمية الثانية، وكانت شرعية المنتصرين في هذه الحرب ضد المحور النازي - الفاشي، وجاءت - بسبب ذلك - تعبر عن مصالح القوى التي كسرت شوكة تحالف "دول المحور". وكانت تلك "الشرعية" مدفوعة الى الكينونة في صور وفاق: معلن أو مضمر، بين قوى الاستقطاب الأساسية في "الحرب الباردة". وكان عليها أن تعّرف نفسها رسمياً - بل قل شكلياً - بوصفها "الشرعية" التي تنهل من القانون الدولي، ومن مرجعية الأمم المتحدة ....الخ. غير أنه كان عليها في الواقع أن تنتظم تحت سقف التوازن الدولي (توازن الرعب النووي) بين القوتين العظميين حينذاك (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) ومعسكريهما (حلف وارشو وحلف الناتو)، وقد مثل ذلك التوازن محصلة لعلاقات القوة بين المعسكرين على الصعيد العالمي. غير أن علاقات القوة على هذا الصعيد (العالمي) تغيرت بانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، القطب الثاني في معادلة توازن الرعب النووي الذي استندت إليه "الحرب الباردة"، والذي تُوج بتفكك المعسكر الاشتراكي وحل حلف وارشو، وكانت تلك اللحظة تؤرخ لحصول تحولات جذرية في المشهد السياسي العالمي لصالح الرأسمالية العالمية، ولو الى حين.
وارتباطا بذلك فإن مفهوم "الشرعية الدولية" الذي كان يمثل محصلة لعلاقات القوة السائدة آنذاك لا يمكن
له أن يشتغل في الظروف الجديدة، بل يتعين إعادة صياغته ليتناسب ويعكس علاقات القوة الفعلية والاستقطابات السائدة، على المستوى العالمي، في اللحظة الجديدة، أي يعكس مصالح المنتصرين الجدد، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. طبعا، كانت هناك حاجة ماسة لانتصار عسكري "ساحق" للولايات المتحدة، بعد هزائمها المذلة في جنوب شرقي آسيا التي توجت بالانتصار الباهر للشعب الفيتنامي في ربيع عام 1975.
إنجاز عملية واسعة لنقل "الشرعية الدولية" من مؤسساتها الفعلية الى أخرى تفرض نفسها بوصفها ممثلة لحقبة المنتصرين فقط. أسفرت حرب العقود الأربعة الباردة عن غالب ومغلوب واستحقاقات! وإضافة لذلك فإن للحروب الساخنة استحقاقاتها والتي يتعين على المهزومين دفعها. حرب الخليج الثانية مثلا كانت تمريناً دولياً تعبوياً بالذخيرة الحية لفرض أسس ما سمي بـ "النظام العالمي الجديد" والذي حقق انتصارا عسكرياً مدفوع الأجر للولايات المتحدة وحلفائها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: إذا كانت افتتاحية "النظام العالمي الجديد"، الذي كان مزمعا تشييده على أنقاض "الحرب الباردة" وبـ "لبنات الديمقراطية" و"حقوق الإنسان"، هي حرب تكنولوجية مدمرة الى هذا الحد، فكيف ستكون فصوله اللاحقة؟ الاحداث التالية بينت العديد من النتائج الفعلية/ الفصول التي تفقأ العين.
معالم تقسيم عالمي جديد للعمل يفرض بقوة المدفع!
سعت الملاحظات السابقة البالغة التكثيف الى تلمس أهم عناصر "الإستراتيجية الكونية الجديدة" التي تكشف عن معالم اللوحة الجديدة لتقسيم عالمي جديد للعمل بدأت ترتسم ملامحه منذ أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي، بكل استحقاقاته والالتزامات المترتبة على أطرافه. وتعني هذه الملاحظة - على بساطتها الظاهرية - أنه من الضروري دراسة التطورات الأخيرة في ضوء منهجية تفسر الحدث، وتنطلق من مستوى "الإستراتيجية الكونية الجديدة" والتحولات التي جرت فيها تمهيدا للإطلال على الوضع الإقليمي والاستحقاقات المرتبطة بإدماجه في إطار هذه الإستراتيجية، في ضوء التحولات الحاصلة عالمياً على أرضية ما سمى بـ " النظام العالمي الجديد " وأولوياته والميكانيزمات الناظمة له، وكذلك الصراعات الدائرة نحو بناء نظام جديد يقوم على تعدد الأقطاب، وفي بعض جوانبه يشق طريقه بقوة السلاح.
ولهذا لا بد من القول بأنه لا يمكن فهم جوهر القضايا السابقة من دون ربطها بالتحولات الحاصلة في التقسيم العالمي الجديد للعمل في تلك الفترة حيث نُذُر العولمة بطبعتها الرأسمالية كانت تغزو عنان السماء والأرض وتفرض منطقها دون هوادة. ومن دون الدخول في تفاصيل إضافية يمكن الإشارة إلى أن التقسيم هذا يقوم على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول وهو المستوى الكوني/ العالمي ومحوره الجديد (شمال - شمال، شمال - جنوب) ويحل محل التقسيم السابق (شرق - غرب، غرب – جنوب). يتخذ هذا المستوى صيغة تنافس حاد بين الولايات المتحدة واليابان وأوروبا الغربية والصين، وتعبر هذه الصيغة عن نفسها بآليات مقاربة للآليات التي سادت في بداية القرن العشرين، خاصة وأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تسقط من حساباتها سلاحين: النفط ومبدأ القوة في العلاقات الدولية، عند مواجهة خصومها الكبار.
والذي يهمنا هنا التأكيد عليه، بقدر تعلق الأمر بالمنطقة العربية في ارتباطها بهذا المستوى، هو أن النفط ومبدأ القوة، جزء لا يتجزأ من المعادلات الإقليمية في هذه المنطقة حيث يتركز الجزء الأعظم من إنتاج النفط واحتياطاته العالمية المكتشفة.
ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تحتاج الى "شرق أوسط" هادئ يحيط بمستعمراتها النفطية كجزء من برنامج التركيب في المستقبل، وليس في برنامج التفكيك في حينه، حيث كان التوتر (ولا يزال طبعا) في هذه المنطقة سلاحاً أمريكياً مهماً لعرقلة مشروع "البيت الأوروبي" والحد من النمو الياباني والصيني المتعاظم، إضافة الى المواقف الأوروبية والامريكية من الحرب الروسية-الأوكرانية التر اندلعت في شباط 2022.
وإضافة لذلك فإن هذا التوتر كان يتجاوب مؤقتاً مع مسألتين هامتين:
الأولى: تعارضات المصالح داخل الاحتكارات الأمريكية، وخاصة حاجة المجمع الصناعي – العسكري حينذاك لفترة تكييف ملائمة من أجل إعادة إنتاج أدواته، وموقعه في الاقتصاد الأمريكي، فالاقتصاد العالمي.
الثانية: الحاجة الى فترة انتقال إقليمية كافية لإعادة صياغة الدور الإقليمي لإسرائيل طبقا لمتطلبات المرحلة الجديدة وبشروط جديدة تدمجها في الحياة الاقتصادية الاجتماعية الشرق أوسطية، كعنصر إقليمي مقرر (مشروع الشرق الاوسط الكبير كمثال على ذلك).
المستوى الثاني وهو الإقليمي، ويتعلق الأمر هنا بالملموس بمنطقة الشرق الأوسط - كإقليم - ومحورها الرئيسي البلدان العربية - إسرائيل. وطبقا للمقاربة الجيوسياسية فإن عملية تفكيك وإعادة تركيب المنطقة هذه يجب أن تكون مرهونة، باستمرار، بالقدرة على تطويع الجغرافية السياسية التي تعادل هنا الأهمية التي تلقيها الأسواق ودوائر المجال الحيوي في مناطق أخرى.
ضمن هذه الإستراتيجية، على الصعيد الإقليمي، يجب أن تكون إسرائيل بمثابة المفتاح الإقليمي والركن الثابت في كل هذه السياسات وتجديدها من مطرقة عسكرية تقليدية، حسب الاحتياجات الإقليمية للحرب الباردة المنتهية، الى إمبريالية فرعية/ إقليمية، حسب الاحتياجات الإقليمية للخارطة الدولية الجديدة وموقع الولايات المتحدة فيها.
تنص هذه الإستراتيجية على هدف مهم هو استبدال الدور السياسي للأطراف العربية بدور أمني في إطار الدور السياسي - الاقتصادي الإسرائيلي وبمباركة من الإمبريالية الأمريكية. غير أن هناك ثمة مفارقة صارخة في هذا المجال لا بدّ من الإشارة إليها، وتتمثل في حقيقة أن إسرائيل قادرة داخل هذه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، على تعويض دورها السابق، من خلال التمدد داخل أسواق المنطقة. وبالتالي الحفاظ على قدرٍ كافٍ من الانسجام مع قاعدتها الاجتماعية التي تخلقت على صورتها السياسية الإقليمية. أما "الدولة القطرية" التي تشكلت وعاشت على الريوع النفطية وتحويلات دورها الإقليمي شرقاً وغرباً وتمكنت من رشوة أقسام واسعة من قاعدتها الاجتماعية فهي غير قادرة على توفير شروط التعويض الداخلي عن هذه المساعدات والتحويلات، بعد أن فقدت الشروط البرانية لدورها الإقليمي، وبالتالي لاحتياجاتها الاجتماعية.
المستوى الثالث، المحلي، وهو تقسيم جرى ويجري فيه تهميش جوانب الدولة الريعية البيروقراطية الاستبدادية التي انتجتها متطلبات "الفورة النفطية" في أواسط السبعينات من القرن الماضي لصالح قوى السوق الطفيلية التي شرّعتها السياسات النيوليبرالية، التي تنتعش في ظروف خاصة (لنأخذ العراق مثالاً - لقد انتعشت هذه القوى تحت ظروف الحصار الاقتصادي وعاشت على "مزاياه"، وكذلك وضع هذه القوى بعد 2003) وليعاد إنتاج بنية بيروقراطية /طفيلية/ كومبرادورية ريعية جديدة نهابة.
إذا كانت بنية الدولة الرسمية لا تسمح لها موضوعياً بالانكفاء، حيث تشكلت هذه البنية وتطورت بالاعتماد على لعبة الجغرافيا السياسية وعائدات النفط، فإن هذه البنية البيروقراطية – الطفيلية - الريعية لا تساعد في إعادة إنتاج وظيفة جديدة بمعزل عن لعبة الجغرافيا السياسية واستحقاقاتها الجديدة.
ولا بد هنا من الإشارة مثلا إلى ان السلطة في بلادنا منذ قيام الدولة العراقية في عام 1921 لم تكن عاملاً لاستيعاب النزاعات أو إطاراً مهدئاً لها بل كانت في معظم الأحيان غاية في حد ذاتها. وكان لهذا المفهوم للسلطة مضاعفات عطلت الجدلية الاجتماعية وجنحت الى القمع للإمساك بالسلطة وإعادة إنتاج عموم النظام الاجتماعي استنادا الى طابق القمع في النسق الإيديولوجي. وهذه سمة تشترك بها الأنظمة البطرياركية الجديدة حيث يتم خصخصة السلطة التي اعتادت على "تشريك الخسائر" و "خصخصة النجاحات".
إن المرحلة (موضوع حديثنا) من التطور العالمي السائر تحت حراب العولمة النيوليبرالية من جهة وأزمات النسق الرأسمالي المعاصر والمحاولات الحثيثة للخروج منها بأقل التكاليف، حيث يتداخل المحلي بالكوني على درجة بالغة التعقيد، ترتب المزيد من الاستحقاقات الجديدة. ولهذا فإن الفهم السليم للتطورات التي شهدناها منذ 7 تشرين الأول| أكتوبر 2023 ومحدداتها لا بد من النظر إليها من خلال ارتباطاتها العالمية والإقليمية وديناميكياتها المحلية. ولا بد من الإشارة هنا الى الخطأ الذي وقع فيه العديد من القوى والمتمثل بتبسيطها أو قل تسطيحها للمفهوم الأمريكي لـ "التغير" في المنطقة وعدم فهمها لجوهر الإستراتيجية الكونية للولايات المتحدة وأولوياتها الإقليمية المتغيرة باستمرار، وبالتالي رهانها (أي تلك القوى) على مشاريع وطبخات ملتبسة وغير جادة إلا في مظهرها المتأنق وانبهارها بالكلام الذي كان يقدمه موظفون من الدرجة الثانية او الثالثة في الإدارة الأمريكية!
فمثلا، على العكس من تلك الرهانات المتفائلة في حينه على الغزو العراقي للكويت، أفضت الهزيمة العسكرية للنظام السابق الى مجموعة من النتائج هي بمثابة استحقاقات اعتاد أن يفرضها المنتصرون في الحروب، ويمكن تلمس البعض منها في ما يلي:
- باتت القوات الأمريكية في قلب المواقع التي تنام على بحار من البترول، العصب الحيوي للاقتصاد الأمريكي والأوروبي والياباني، في حين بدأت تذرع أساطيلها البحرية المنطقة ذهابا وإيابا وكأنها في نزهة. هكذا إذن تحولت أحلام راسمي الإستراتيجية الأمريكية في أن يكون للولايات المتحدة موطئ قدم على مقربة من المنطقة العربية، الى أكثر من حقيقة. فالقوات المسلحة الأمريكية وجيوشها الجرارة، البرية والجوية والبحرية أيضا باتت لا تقف فقط على مقربة من المنطقة العربية، بل إنها أصبحت تقف وتحوم فوق المنطقة ذاتها. كما استعادت الإمبريالية وقواها المسيطرة العديد من الامتيازات التي فقدتها في معارك سابقة مع حركة التحرر الوطني في البلدان العربية في أكثر من موقع. ومنذ لحظة توقيع "خيمة صفوان" المذلة استأنف الهجوم الإمبريالي على المنطقة العربية زخمه العسكري والسياسي مستفيدا من الاختلال الذي نشأ في ميزان القوى الفعلي على الأرض ليملي شروط المنتصرين. كان الفلسطينيون أول ضحايا "التفكير البسماركي الجديد" لصدام حسين.
هكذا إذن بدأت نتائج الاختلال في ميزان القوى تنتقل ضغطا على الوضع السياسي في العالم العربي وتملي عليه المزيد من التنازلات المعلنة والمكشوفة. الذي حصل هو تنظيم الهجمة الإمبريالية المتجددة ليتم تدجين السياسات العربية وانخراطها في مدار السياسة الأمريكية وذراعها الضاربة ودركها في المنطقة، إسرائيل. ويمكن القول أنه تم تنظيم عملية "مصالحة عربية" مع الإستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية وأتت "ثمارها" لاحقا في جملة من التغييرات في تناسبات القوى، واختراق إسرائيل للعديد من الدول العربية وإملاء التطبيع معها بضغط أمريكي.
ويتعين التأكيد هنا ومنعا لأي التباس أن الهجوم الإستراتيجي الأمريكي لم يكن هدفه مجرد استعادة المواقع القديمة التي افتقدتها الولايات المتحدة والدول الرأسمالية المتطورة الأخرى في المنطقة في عقود سابقة، بل كان الهدف، ولا يزال، هو فرض هيمنتها كاملة وغير منقوصة عبر الإمساك بمفاتيح الوضع السياسي والاستراتيجي في العالم العربي وتوجيهه بتلك الطريقة التي تكفل إعادة إنتاجه ضمن متطلبات الإستراتيجية الكونية الجديدة للولايات المتحدة وأيضا تعظيم دور إسرائيل كإمبريالية فرعية تفرض منطقها واستراتيجيتها على منطقة الشرق الأوسط بكاملها حتى لو تطلب ذلك استخدام قوتها النارية التي لا توفر أحدا. وعدوانها المتكرر على دول عربية وإقليمية عديدة شاهد على ذلك.
لم تكن استعادة الإمبريالية الأمريكية لمواقعها دون نتائج سلبية طبعا على "النظام العربي" بشكل عام أو بين مكوناته، وتجلى ذلك بنشوء تحالفات جديدة وتحولات جديدة بهدف أن تكون تلك التحولات بمثابة مسببات للجنوح بعيدا عن "العاصفة المدمرة" و"الانحناء" امام رياحها التي لا ترحم! هكذا إذن ولج التاريخ السياسي – الطبقي للعديد من الأنظمة العربية طور الارتداد التدريجي عن مكتسبات فترات تاريخية سابقة، لينخرط في طور الوضع السياسي السائد الذي تم تدجنيه تحت حراب انتصار "قوى التحالف الدولي" في حروب عديدة من بينها "حرب الكويت" وغيرها. وباستثناء جذوة المقاومة في بعض البلدان التي ظلت متقدة لفترة لأسباب عديدة، فإن أخطر ما حملته التداعيات التي تلت انتهاء الحرب هو الرهانات المفرطة واللامشروطة للحلول الأمريكية للعديد من قضايا الصراع وفي مقدمتها الصراع العربي - الإسرائيلي وبروز العديد من "التنظيرات" التي قدمتها القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية في حينه، والتي سبقتها العديد من الحوارات السرية التي توجت باتفاق غزة – أريحا واتفاق أوسلو المثير للالتباس ولا يزال، وما تركه من آثار وتداعيات سلبية على مسيرة الشعب الفلسطيني ونضاله من اجل تحقيق حقوقه الوطنية المشروعة بما فيها حقه في إزالة الاحتلال والعودة الى وطنه وإقامة دولته الوطنية المستقلة.
- في ظروف هذا الاختلال الكبير في تناسب القوى الجديد الناتج عن عوامل عدة، نضجت على "نار هادئة" كل الشروط لتطويع القرار السياسي العربي للتصديق على الحل الأمريكي بوصفه "الحل الممكن"!، والتسليم بدور الولايات المتحدة في إخراج قضايا المنطقة العربية من مأزقها المزمن. وفي مثل هذه الأجواء المختلة، حدث تحول جذري في "الإجماع العربي" تمثل بالانتقال من سياسة المواجهة الى سياسة "السلام"، وتنادى "العقلاء" للترويج للحلول الانفرادية، وساد الهدوء معظم جبهات المواجهة باستثناء الجبهة اللبنانية التي بقيت جذوة المقاومة فيها متقدة حتى توجت بانتصارها في أواسط عام 2000 ولاحقا في 2006. هذا إضافة الى المعارك والانتفاضات العديدة التي قام بها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، والتي توجت في "طوفان الاقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حيث شكلت مرحلة ونقلة نوعية جديدة في كفاح هذا الشعب من اجل حقوقه الوطنية المشروعة، بغض النظر عمن قام بها.
- لقد نجحت الولايات المتحدة من خلال المبادرة بالحرب ورفض التفاوض، في إعادة تأكيد السيطرة الأمريكية المطلقة على المصادر النفطية في المنطقة. ويعطي هذا التحكم للولايات المتحدة، في صراعها من أجل تحقيق المنافسة مع التكتلات الصناعية الكبرى، هامشا أو أداة مناورة إستراتيجية لا تقدر بثمن وهو ما شهدناه في الحرب الروسية - الأوكرانية الخاصة في شباط عام 2022. كما نجحت الولايات المتحدة في تأكيد هيمنتها، أو قيادتها السياسية على العالم، بعد أن وجهت من خلال الحرب ضربة إجهاضية حقيقية للوحدة الأوروبية، بما هي مشروع تكتل سياسي فاعل وليس مجرد سوق اقتصادية، كما نجحت في وضع اليابان وألمانيا الصاعدتين اقتصاديا تحت ضغط الحاجة النفطية والطاقوية التي تتحكم بها أمريكا. وفيما يتعلق بالمستوى الإستراتيجي الإقليمي، ساهمت الحرب في تعزيز التفوق العسكري الإسرائيلي.
- بعد انهيار "النظام الإقليمي العربي" في حرب الخليج دعمت الولايات المتحدة سياستها الإستراتيجية في هذه المنطقة بنصف مليون جندي تحت مظلة الأمم المتحدة! وفي ظل التفكك العربي من جهة، وغياب الحليف الإستراتيجي من جهة أخرى، أصبحت الولايات المتحدة طليقة اليدين في رسم إستراتيجية طويلة المدى على هذه المنطقة التي تنام على بحيرات من النفط والموارد الطبيعية الأخرى.
ومقابل هذه القضايا لا بد من التوقف عند بعض العناوين بسرعة والتي طفت على السطح:
- تجذر النزعات "القطرية"، وتنامي "وعي جديد" لدى القوى المسيطرة والنخب الحاكمة يقوم على الانكفاء على الذات والسعي لتحقيق "مرابح قطرية". وقاد هذا "الوعي الجديد" الى إعادة تعريف الكثير من المفاهيم، بما في ذلك الصراع العربي – الإسرائيلي الذي تحول فجأة في مخيلة بعض راسمي الإستراتيجية الى مجرد صراع حدودي أو صراع على المياه بين إسرائيل والبلدان العربية المجاورة.. يا لخيبات "الفكر" الاستراتيجي عندما يرتكن الى "مقاربة" كهذه!
- انعكس ذلك على "التضامن العربي" الذي اتخذ انهياره أشكالا متنوعة من بينها الشلل الذي أصاب مؤسسة التضامن الرسمية وأقصد بها جامعة الدول العربية. هكذا أخلى التضامن الجماعي الطريق الى نشوء "تضامنات إقليمية" تتكئ على محاور سياسية محكومة بالتوازنات والمصالح الجهوية. وهكذا بدا انفجار الأزمة واندلاع الحرب وكأنه كان يراد منه أن يكون جزأ من "إستراتيجية التفكيك العربي".
- القبول بالحلول الانفرادية للصراع العربي – الإسرائيلي، بدأ بمؤتمر مدريد ومرورا باتفاق أوسلو و كامب ديفيد 2 وما تلاها وصولا الى التطبيع مع المحتل الإسرائيلي!
- تراجع حركة التحرر الوطني في البلدان العربية الذي قادها الى أزمة بنيوية. وكانت مظاهر هذا التراجع كثيرة، وحسبنا أن نشير الى أن العديد من القوى المكونة لهذه الحركة كانت (ولا تزال لحد الآن) تعاني من حالة شلل سياسي كبير، هذا إضافة الى ما تعانيه برامجها وخططها السياسية من صعوبات جدية.
والخلاصة أن الجهد الإستراتيجي للولايات المتحدة كان، بعد كل ما حدث، يتركز على محورين هما:
الأول: ويتعلق الأمر بمقومات وأسس الترتيبات في وسط وجنوب آسيا والمحيط الهادئ. وهنا يجب أن نتذكر ما تحدث به لاحقا الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش عند تسلمه الرئاسة في كانون الثاني| يناير 2001 وهو يحدد أولويات السياسة الخارجية للإدارة الجديدة، فقد أشار في حينه الى أن الأولوية رقم واحد للسياسة الخارجية للإدارة الأمريكية خلال العقود الثلاثة الاخيرة وخياراتها الاستراتيجية هي المحيط الهادئ ووسط وجنوب آسيا. وعلينا أيضا ان نتذكر هنا التحولات "العاصفة" التي شهدتها الاستراتيجية الأمريكية بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وفي مقدمة ذلك الانتقال من استراتيجية "الردع والاحتواء" الى استراتيجية "الهجوم الوقائي"، وهو تحول خطير في التفكير الاستراتيجي الأمريكي منذ أربعينات القرن العشرين.
فعند إلقاء نظرة سريعة على الخارطة السياسية والاقتصادية لآسيا ستتضح أهمية وتعقيدات المنطقة، فهي تضم بلدا صناعيا متطورا مثل اليابان باقتصاد أكبر من اقتصاد أي بلد في أوربا، وثلاثة بلدان قارية هي الهند والصين وروسيا الاتحادية، وبلدين – كوريا الجنوبية وسنغافورة – قريبين من امتلاك الإمكانيات الاقتصادية والتكنولوجية للدول الصناعية المتقدمة، وبلدين كبيرين هما الفليبين وإندونيسيا، اللذين يتكونان من آلاف الجزر وتتحكمان بأهم الطرق البحرية، وتايلاند وبورما وهما بلدان قديمان تعداد سكانهما يبلغ حوالي (125) مليون نسمة وهو ما يقارب أو يفوق تعداد سكان فرنسا وإيطاليا، هذا إضافة الى كوريا الشمالية وهي احدى دول "محور الشر" - كما تصفها السياسة الأمريكية - والتي تعمل، باستمرار، على تطوير أسلحة نووية وصواريخ طويلة المدى.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية من أوائل الدول التي تنبهت لتلك الأهمية الجيوستراتيجية والجيوبولوتيكية للقارة الآسيوية ككل، وما ستشكله فيما بعد من قوة عالمية بسبب امـــتلاكها لذلك المخزون الهائل مـــن الـــنفط، وغيره من الموارد الطبيعية والاقتصادية الهامة، ولكون ارتباط الاقتصاد الآسيوي بالاقتصاد والتجارة الأمريكيين ارتباطا وثيقا جدا.
الثاني: ويتعلق باستكمال الترتيبات في الشرق الأوسط لقيام تواصل يمتد من المغرب الى حدود الصين وجنوباً الى جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ.
والأهداف الآنية والبعيدة المدى التي كانت (ولا تزال طبعا) تسعى الاستراتيجية الأمريكية لبلوغها عديدة، ومن بينها على سبيل المثال:
- احتواء الصين: حيث تعتبر مكانتها المتزايدة الهاجس الأكبر أمام الفكر الاستراتيجي الأمريكي، لأنها على ما يبدو الدولة المهيأة لأن تكون المنافس الأكبر على الصعيد العالمي في وقت لاحق، حيث تحتل حاليا المركز الثاني من الناحية الاقتصادية على الصعيد العالمي، بعد الولايات المتحدة (فمثلا بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 29,2 تريليون دولار في عام 2024، مقابل 18.9 تريليون دولار للصين). وهناك الكثير من الباحثين يشيرون الى ان الصين مرشحة لان تلعب دور المنافس للولايات المتّحدة باعتبارها لاعبا فاعلا في ميزان القوى العالمي، يكون قادرا على وضع حدّ لـ "القرن الأميركي". فمثلا أعلن المؤرّخ الأميركي المعروف نيل فرغسون أنّ "القرن الحادي والعشرين قرن الصين".
لذلك فان المهمة هنا هي مراقبة تحركات الصين باعتبارها منافسا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا حقيقيا، وقطع الطريق عليها لإقامة أية تحالفات تتيح لها الإطلال منها على دول أسيا الوسطى وإيران وبلدان الخليج الاخرى، وحتى إفريقيا. إذ أن ذلك - بحسب الرؤية الاستراتيجية الأمريكية - يشكل تهديدا لهيمنتها على مكامن النفط في هذه المنطقة من جهة، ووأد طموحاتها – أي الصين - في السيطرة على دول أسيا الوسطى والوصول إلى الاحتياطي الهائل القابع في بحر قزوين، من جهة أخرى.
وتعني الملاحظات السابقة ضرورة بسط النّفوذ الأمريكي على آسيا الوسطى وهذا الخيار بذاته يمثل تحوّلا إستراتيجيا هامّا. فهذه المنطقة التي تمتد من جبال الأورال حتى حدود الصين الغربية أصبحت على غاية من الأهمّية نظرا لموقعها الجيوستراتيجي المهم وامتلاكها لثروات متعدّدة: بترول بحر قزوين، غاز تركمانستان، قطن أوزباكستان وذهب قيرغيزستان. وبما أن القيادة المركزية الأمريكية Centcom تضع يـدها عـلى منطقة الخليج وثرواتها بات من الضّروري بسط النّفوذ على منطقة يقدّر مخزونها من النفط بثلاث مرات ما يختزنه الخليج.
وتأسيسا على ذلك، فانه يمكن توصيف الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في هذه المنطقة من خلال إجلاء الزوايا الأربع الاتية:
أ. من زاوية التحليل الجيواستراتيجي، انصب الاهتمام الأمريكي على منع ظهور أقطاب أو تحالفات لقوى تكون منافسة للولايات المتحدة الأمريكية. في هذا السياق يبدو التفكير الاستراتيجي الأمريكي وكأنه يعيد إنتاج أجواء "الحرب الباردة" لاحتواء القوى المنافسة، أو إعادة بعث لنظرية الاحتواء containment إلى مجال أرحب يرتبط بالاحتواء الشامل للقوى الصاعدة في العالم.
ب. من زاوية التحليل الجيوسياسي، ستشكل قارة آسيا بحكم ديناميكية التطور السريع والثقل الاقتصادي والسكاني والعسكري الذي تحتله على الساحة العالمية، فضلا عن اشتمالها على قوى إقليمية متحفزة استراتيجيا وانطوائها على محاور جيوبوليتيكية مهمة، ستشكل قيدا على الحراك السياسي للولايات المتحدة. وعليه فإن هذه الأخيرة، ستسعى إلى بناء ترتيبات إستراتيجية جديدة تَحُد من ديناميات التفاعل الداخلي في آسيا وتمنعها من تهديد المصالح الأمريكية، في صورة تحالفات أوراسية Alliances Eurasian، تُفضي إلى تعددية قطبية غير متوازنة.
ج. من زاوية إعادة تعريف "المصلحة الوطنية"، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى أن تأخذ خريطة المصالح الأمريكية وضعا شبكيا ذو امتدادات عالمية يؤشر عليها بالمناطق الحيوية Vital Areas للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في العالم.
د. من زاوية التفاعل الارتباطي بين الجيوسياسي والجيواقتصادي، تسعى الولايات المتحدة إلى استكمال أدوات السيطرة العسكرية على مراكز إنتاج الطاقة في العالم والتحكم في المفاصل الجغرافية لنقل الطاقة، بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى وغازها، وبهذا تستطيع التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية .
قطع الطريق على روسيا وتحجيم دورها في دول أسيا الوسطى، وبخاصة تلك التي تطل على بحر قزوين. والهدف من سيطرة الولايات المتحدة هو انه سوف تمكنها كذلك من تحجيم مشروع التحالف بين روسيا الاتحادية والهند، الذي يمكن أن يتنامى بوتائر قد تهدد الخطط الأمريكية الرامية إلى التواجد السياسي والاقتصادي والعسكري القوي للولايات المتحدة في أسيا الوسطى وجنوب أسيا والمحيط الهادي. ويظل منع تبلور محور دولي في هذه المنطقة أعمدته الأساسية الصين وروسيا أحد أهم أهداف الاستراتيجية الأمريكية وتواجدها الملموس في المنطقة.
مراقبة النشاطات النووية التي تجري في منطقة المصالح الحيوية للولايات المتحدة والتي تتم في بلدان عدة ومن بينها الهند وباكستان وإيران عن كثب. ولا شك أن التواجد في هذه المنطقة سيعين الولايات المتحدة على احتواء تلك النشاطات بحيث لا تشكل خطرا على ما تسميه بـ "الأمن القومي الأمريكي".
ويعكس هذا التواصل جوهر الفكرة/ الأطروحة الملتبسة التي أطلق عليها في حينه "النظام الدولي الجديد" الذي كان يراد به أن يكون "الإنجيل الجديد" الذي يضبط "نظام الأحادية القطبية" ويفتح الأفق لانتقال الرأسمالية المتعولمة الى مرحلة جديدة يتم فيها تنميط الجميع وفقا لمقاسات المنتصرين في الحروب المكشوفة، أو في "حرب الأشباح" التي يجري الإعداد لها بين الحين والآخر.
ولا بد من الاشارة هنا الى الحوار الثري والمتشعب الذي دار في مطلع التسعينات حول طبيعة خارطة العلاقات الدولية الجديدة وقد افضى الى رؤيتين متضاربتين:
- تذهب إحداهما الى ان القرن الجديد، الحادي والعشرين، سيكون قرنا أمريكيا آخر، بالنظر لما تجمعَ للولايات المتحدة من عناصر قوة اقتصادية واستراتيجية، مستمدة من طبيعة النموذج الأمريكي.
- في حين ذهب البعض الآخر الى تصور مضاد قوامه ان العالم سائر نحو نمط من التعددية القطبية لا يمكن ان تختزل في الأبعاد العسكرية والاستراتيجية. بل ان اركانها اما اقتصادية او حضارية، داخل العالم المتقدم ذاته (التباين بين المركز الأوروبي الموحد والقطب الاسيوي الصيني - الياباني) او على خطوط التصدع بين "الشمال" و "الجنوب".
ولا شك ان الرؤيتين ظلتا أسيرتي البراديغم Paradigm ذاته، اي نموذج الصراع القطبي بخلفيته المحصورة في عنصر الدولة القومية ذات السيادة والمجال الحيوي، وهو – بحسب بعض الباحثين - نموذج استنفد أغراضه، ولم يعد صالحا لضبط الخارطة الجيواستراتيجية العالمية.
فما كشفت عنه لاحقا أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 هو ان هذه الخارطة تضم مكونات ثلاثة متعايشة وان كانت متنافرة ومتمايزة وهي: الدولة القومية التي لا تزال لاعبا أساسيا رغم ما يقال عن نهايتها او انتكاستها ، والسوق العالمية التي غدت خارج كل رقابة وسيطرة وان لم تفرز بعد آليات دقيقة لتنظيم اطر اشتغالها والعلاقات التي تحكم عناصرها، و"الشبكات الرمادية" المنفلتة من قبضة الأجهزة المركزية للدولة من دون ان تعبر بالضرورة عن مصالح ونوازع قوى اقتصادية كونية (الشركات العابرة للقارات او المتعدية الجنسيات)، وإنما تتخذ صيغا اكثر بروزا في السياق الاثني القومي او الديني.
ان تعايش وتصادم هذه المكونات الثلاثة، هما اللذان يشكلان المحدد الأبرز للخارطة العالمية الجديدة.
فالنظام الدولي المندثر ولّد ـ على صراعاته وتناقضاته - إطارا واضحا ومحددا لتأويله، في مستوى مقاييس ديناميكية الحداثة بقاعدتها الأيديولوجية (يوتوبيا التقدم) ومرتكزها المؤسسي (نموذج الدولة القومية) ورهانها الاستراتيجي (الصراع بين اقطاب متمايزة).
ويمكن الاتفاق مع المفكر الاقتصادي المصري الراحل سمير امين بقوله ان الأيديولوجيات الثلاث الكبرى التي عرفها النظام الدولي السابق وهي الخيار الليبرالي، والمنظومة الاشتراكية، وإيديولوجيا التحرر العالم ثالثية قد شكلت لحظات نظام واحد متحد في المرجعية العميقة، متصادم داخليا في رهانات عينية ملموسة.
وعلى خطوط التصادم بين "المركزية القومية" والعولمة الاقتصادية نمت وتنمو هوامش الرفض والاحتجاج، وتتخذ أشكالا وصورا متباينة: من الحركات السياسية الانفصالية، الى مجموعات المافيا، انتهاء بالطوائف الدينية والاستقطابات الطائفية وحركات التطرف المستندة للخصوصيات الثقافية والإثنية.
ومن جانب اخر فإن حرب الخليج الثانية أو "عاصفة الصحراء" أدّت وساعدت على توطيد سيطرة الولايات المتحدة على منابع النفط على حساب الدول الأوربية وإحكام سيطرتها على منطقة الخليج، وبالتالي واصلت نهجها هذا واستخدمت (ولا تزال وستبقى) كل الوسائل الممكنة لإدامة هذه السيطرة، وهي معنية بأن تكون هذه المنطقة هادئة من خلال أنظمة موالية أو لا تشكل خطراً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة. وهذا يفسر الدعم اللامحدود والثابت للحرب التي قامت بها إسرائيل وعدوانها على الشعبين الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وكذلك على لبنان، وبلدان أخرى.
المصدر: الثقافة الجديدة