من اللغة إلى القبر: تعالوا نتعقب كيف تُصنع الكراهية ضد النساء في العراق؟
نشر بواسطة: mod1
الثلاثاء 24-06-2025
 
   
بلسم مصطفى - جمار

الكراهية ضد النساء في العراق ليست حدثاً بل مناخاً عاماً، فهي تولد في الكلمة، وتكبر في القانون، وتُشرعن في الأعراف.. مقال يتعقب صناعة الكراهية ضد النساء في العراق من اللغة إلى القبر

في مطلع شهر نيسان، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بخبرٍ عن حادثة دهس نفّذها أستاذ جامعي في جامعة تكريت/صلاح الدين، راح ضحيتها أحد موظفي أمن الجامعة، بعد ضبط الأخير لـ”وضع مخل” يتعلق بحالة ابتزاز لطالبة داخل عجلة الأستاذ المظلّلة، هكذا يقول الخبر.

ورغم قلّة المعلومات المتداولة عن تفاصيل الحادثة، إلا أن منشورات وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي -وكما هي العادة- أخذت تنسج تفاصيل وتسرد قصصاً من وحي ثقافةٍ راسخة، توجه أصابع اللوم والتقريع إلى المرأة كلما كانت طرفاً في أي ظرفٍ مماثل. لا تهمّ الحقائق، ولا معرفة التفاصيل والحيثيات؛ يكفي وجودها كمصدر إلهام لسرديات تكون فيها المرأة المعنية البطلة الشريرة. ويتجاوز اللوم في كثير من الأحيان إلى “التعهير” والمطالبة بالقصاص، كما في حالة الطالبة المعنية.

كثير من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي تُطالب بتنفيذ أقصى العقوبات بحق الطالبة، لا الأستاذ وحده؛ عقوبة تصل إلى الإعدام، كما ذكرت بعض التعليقات، لأنها -بحسب الرواية الشائعة- كانت المحرّك الأساسي لحادثة الدهس، وعليه فتستحق العقوبة وفق حكم جماهير السوشيال ميديا. تضمن هذا الحُكم لوماً مباشراً للطالبة -وكما هو معتاد في مثل هذه الحالات- لمحّ إلى أنه لولا وجودها مع الأستاذ بمحض إرادتها وتخطيطها، طمعاً في درجاتٍ عالية (وفقاً لكثيرين)، لكان الموظف الآن ما يزال على قيد الحياة، وظلّ الأستاذ في منصبه الجامعي المرموق والمحترم، ولما تعكّر مزاج الناس ولما ضاقت أساريرهم.

فما هو التفسير المنطقي لتلك التعليقات؟ وهل هي حالة عشوائية وفردية، أم أن لها جذور لغوية واجتماعية وثقافية؟ أحاول في هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة مقدمةً محاججة مفادها أن ردود الفعل أعلاه تُشكّل نمطاً من أنماط كراهية النساء، وهي الترجمة الحرفية لمصطلح “الميسوجينية” الذي تعود جذوره إلى اللغة اليونانية، ومن جملة معانيه الاحتقار والازدراء النابعان عن تحيّز جنسي مفرط تجاه الفتيات والنساء، ومعاملتهن كقاصرات فاقدات للأهلية والقدرة على اتخاذ القرارات أو التحكم بها، وبشكلٍ متناقض، التشكيك بهنّ ولومهنّ والنظر إليهن على أنهنّ مكمن الشر أو العهر.  

وعلى الرغم من أن جذور هذه الكراهية تكاد تكون موجودة في التراث الفلسفي والديني والثقافي لكل الأمم، فإن ديناميكيتاها تختلف باختلاف السياقات.  

في هذه المقالة سأعرّج على أصول هذا الخطاب في السياق العربي ومن ثم على تجلياته في السياق العراقي؛ مع التركيز بأنه وعلى الرغم من تباين السياقات، فكراهية النساء ليست مجرد خطاب، بل لها عواقب جسدية ومادية واضحة، تتمثل في العنف الموجّه للفتيات والنساء، والتحرش بكل أشكاله، وقتلهنّ على أساس الجنس (فيميسايدfemicide )، وحرمانهن من أبسط حقوق الإنسان، كالحق في التعليم والعمل، بل وحتى في الحياة نفسها.  

لذا فنحن بصدد مسألة حياة وموت وليس فقط نقاش نظري عما يعتقد كثر -خطأ- أنه غير موجود.

كراهية متأصلة

لا يتشكّل أي خطاب من فراغ، بل هو نتاج تراكماتٍ لتوجّهات وأيديولوجيات دينية، عشائرية، ثقافية، لغوية. ويُمكن تتبّع جذور ذلك الخطاب في التمييز الجنسي اللغوي الذي ساد معاجم اللغة العربية، ولا يمكن عزل هذا التمييز عن سياقه الاجتماعي والثقافي، فهو تعبير عن رمزية ذكورية قبلية، تُوظَّف الدين لتقوية دعائمها وديمومتها وكسبها المزيد من الشرعية.

أنتجت تلك الرمزية علاقة هرمية وغير متكافئة بين الرجال والنساء، يُسيطر فيها الرجل على المرأة وتخضع هي له.  

يتتبع الباحث والأكاديمي المصري محمد فكري الجزار، جذور التمييز الجنسي في معاجم اللغة العربية، خصوصاً لسان العرب لابن منظور ومعجم ألفاظ القرآن الكريم، ليقدّم أدلة لغوية متنوّعة ومستفيضة تشرح كيف أن المعاجم العربية قدّمت الذكورة بوصفها “قيمة لا تُقدّر، ومن ثم لا تُجمع ولا تُثنّى، أما الأنوثة فهي مجرّد وظيفة، ومن ثم فالأصل فيها التنوّع والتعدّد”.i

والأمثلة على ذلك التمييز متعدّدة، فمثلاً، قد حكم ابن منظور بأن المرأة “إنسان ولا يجوز أن يقال عنها إنسانة”، وعلى الرغم من أن هذا الحكم النحوي واللغوي قد تغيّر مواءمةً للتطوّرات الاجتماعية والثقافية، إلا أنه قد شكّل دائرة مغلقة من مجموعةٍ من المفردات والدلالات والصيغ المرتبطة بالقيمة الإنسانية. فيُحيل ابن منظور “ابن سيده” إلى البشر وإلى الإنسان، في الوقت الذي تُؤنّث فيه كلمات مشتقّة من الصيغة الذكورية لتُشير إلى أشياء أو أجزاءٍ من الجسد، كما في مفردة “بشرة”.

كما يذكر الجزار في كتابه أعلاه، على النقيض من الدائرة المغلقة للصيغ الذكورية على القيمة الإنسانية، بمعنى أنها معجمياً دائماً مترادفة معها، تنفتح القيمة النفعية للمرأة لتضم عدداً لا متناهياً من الاحتمالات المرتبطة بالأشياء والوظائف أو المعاني السلبية، وبهذا تُنتزع قيمة النوع الإنساني من المرأة لتُشيَّأ وتكتسب قيمتها من الفائدة أو المنفعة التي تقدّمها للرجل. وإذا ما أراد المعجم رفع قيمتها، وصفها بـ”الرجلة”، فقيل “الخنساء رجلة الشعر”.

بناء على هذا، فالذَّكر خلاف الأنثى بما يتمتّع به من خصال وصفات حميدة، والأنثى تعدّ خلاف الذكر، بما نُسب إليها من صفاتٍ ذميمة. يقول ابن منظور، “وَيُقَالُ للمَوات الَّذِي هُوَ خِلَافُ الحَيوان: الإِناثُ والموات هو كل ما لا حياةَ فيه، فهو الأرض الميتة”، وهذا نفي صريح للمرأة من النوع الإنساني، لتَنتمي إلى الأرض الخواء وعالم الجماد.  

لم يكن إبن منظور الوحيد في هذا التصوير، فقد سُلبت إنسانية النساء حين تم وصفها على أنها مصدراً للـ”الهلاك” و”البلاء” و”المحن” الذي يُصيب الرجال، كما يذكر أبو حامد الغزالي، العلامة الإسلامي المعروف، في كتابه “التتر المسبوك في نصيحة الملوك”، مختتماً الباب الخاص بالنساء بأبياتٍ شعرية مهينة، جاء فيها: “كلُ البلا منِهُن يأتِي والوفَا … منهن لا يأتي مدى الأزمان”. وحديثاً لم تتوقف مثل هذه التشبيهات السلبية، فنرى الكاتب المصري أنيس منصور يقارن المرأة بـ”الحيوان المخيف”، ولا تخلو الأمثال الشعبية من هذه التشبيهات المهينة، فطالما شُبهت المرأة بـ”الحية”، تجسيداً لشرها وغدرها، أو بـ”العقارب”، أو بـ”الهم”، خصوصاً ذلك المرافق لتربية البنات، مؤصلةً لعنفٍ رمزيٍ ثقافي، يؤطر حياة الملايين من النساء وتجاربهنّ اليومية.  

تأتي هذه الأمثلة امتداداً لتغييبها ودونيتها القسرية في المعجم العربي، فلفظ “امرأة” مشتق من “امرؤ”، وليس لها جمع، فيُستعاض عن صيغة الجمع بـ”النساء” و”النسوة”، وكلا الكلمتين مشتقتان من باب النسيان، فورد عن ابن منظور كما نقل الجزار قوله “نسا: النِّسْوةُ والنُّسْوة، بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، والنِّساء والنِّسْوانُ والنُّسْوان: جَمْعُ المرأَة مِنْ غَيْرِ لَفْظِه..قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: والنِّسَاء جَمْعُ نِسْوَة إِذَا كَثُرْنَ.. وَتَصْغِيرُ نِسْوَةٍ نُسَيَّةٌ، وَيُقَالُ نُسَيَّاتٌ، وَهُوَ تَصْغِيرُ الْجَمْعِ”. يرى الجزار أن هذا التقسيم غير بريء، فالمرأة بوصفها فرداً تخضع لسلطة أفراد العائلة الذكور، تحديداً الزوج، أما النساء فهنّ خاضعات للسلطة المجتمعية والثقافية.  

وبذلك تُقسَّم الأدوار المجتمعية النمطية بين الرجل والمرأة تقسيماً وُظّف له التراث الديني، تحديداً التوراتي، بحسب الباحث محمد فكري الجزار، كقصة الخلق على سبيل المثال، حتى يُرسَّخ أصل الرجل وفرعية المرأة، وائداً الأخيرة وأداً لغوياً ورمزياً يُضاف إلى الوأد الجسدي في كثير من الأوقات.  

ولم يكن هذا الإستشهاد حالةً فردية، بل هو مؤسس له في كثيرٍ من المصادر التي وظفت أحاديث تُقلل من شأن المرأة وتصفها بأنها “ناقصة عقل ودين”، فلا يُفلح القوم الذين “وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً”، لتكريس إزدراء المرأة وإضفاء شرعيةً فقهيةً عليه، رغم أن التفسيرات الدينية المعاصرة، وتلك التي قدمتها باحثات نسويات مسلمات، من رائداتهنّ فاطمة المرنيسي، حاولت دحض مصداقية وأصالة تلك الأحاديث وإعادة تحليلها في ضوء العوامل السياسية والإجتماعية السائدة في ذلك العصر، مقدمة طروحات جديدة تُعيد للمرأة إنسانيتها وكرامتها، بيد أن الخطاب الفقهي الذكوري لا يزال هو السائد، ويطغى على المنابر والخطب والفتاوى الدينية.

إذن فقد أصّل معجم لسان العرب وسواه للنظرة الدونية للمرأة، مستندين بدورهم إلى تراثٍ اجتماعي وديني متجذر. وكما يذكر الجزار محقاً، فإن تبنّي تلك المعاجم، والاستشهاد بها، وتداولها عبر السنوات، ساهم في ترسيخ تلك الصورة. وكما تأثرت بمحيطها وبيئتها التي وُلدت فيها، باتت تؤثر في سياقاتنا، وهكذا دواليك. ففي عملية التأثّر والتأثير تلك، يتواصل إنتاج عنف رمزي خطير، بل هو، كما يصفه الجزار، يكاد يكون من أخطر أنواع العنف، لأنه يتغلغل في البُنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي عقلية المجتمع نفسها، ويُعيد توليد نفسه في صيغ ونماذج جديدة.

ليست مجرد لغة

حين يُصبح التمييز المعجمي عنفاً رمزياً، فإنه من السهولة أن يتحول إلى خطاب كراهية، فثمة علاقةٍ وطيدة بين كراهية النساء والعنف الموجه لهنّ والتبرير لهذا العنف. فتُقتل الفتيات والنساء في العراق وفي كثيرٍ من المجتمعات، على يدٍ فردٍ من أفراد العائلة، غسلاً للعار، بسبب أن ثمة أساس اجتماعي للنظرة المجردة إلى النساء على أنهن “عار” أو “عيب” وجبّ تطهيره والتخلص منه لمجرد الشك بأن المرأة أساءت التصرف أو ارتدت ملابس لا تليق بالأعراف، وبين جرائم قتلهنّ بدواعي “الشرف” المُبررة مجتمعياً وقانونياً.  

من هنا فتبرير تعنيف النساء وقتلهنّ هو خطاب كراهية محض، حيث يُولّد حلقةً مفرغة من التعنيف والتبرير تُحركهما كراهية النساء. ينطبق الأمر ذاته على الانتهاكات الأخرى، ومنها جرائم التحرش والاغتصاب والعنف الأسري، ومسوغاتها التي تُلقي باللائمة على الضحية، أو تُبرر تعنيفها بحجج الضبط الأخلاقي. وبغياب القوانين الرادعة، ورفض التشريعات التي تُقدم حماية للنساء والأطفال وآليات تطبيق ناجعة إذا وُجدت، تتشكل دوائر لا نهائية تبدأ بالعنف الرمزي المُتجسد بالنظرة القاصرة المُحتقرة للمرأة، مروراً بالعنف المادي المُتمثل بقتلها أو الإساءة إليها، وليس انتهاءً بتبريره في الأعراف والقوانين.

تُقتل النساء لرفضهنّ الارتباط بشخصٍ ما، كما في جريمة نحر الشابة المصرية نيرة أشرف، ومحاولة قتل زينب كريم، الطالبة البصراوية، عن طريق توجيه الطعنات لها. ارتكبت وتُرتكب هذه الجرائم في وضح النهار وعلى الملأ. فالثأر قتلاً هو انتفاض للسطوة والسيطرة الذكورية التي هزتها كلمة “لا” النسائية. تُحرق وتُشوه وجوه وأجساد النساء بمادة التيزاب الحارقة حُنقاً وإنتقاماً وعقاباً للأسباب نفسها، وهي ممارسة استوردها العراق حديثاً من بلدانٍ أسيوية أخرى تشيع فيها تلك الجريمة. تمتاز هذه الجرائم بوحشيةٍ إستثنائية هي انعكاس لدوافع كراهية النساء. فالميسوجونية خطاباً وفعلاً ملهمة ومعدية وعابرة للحدود والقارات، طالما تقبض الأنظمة الأبوية الذكورية على المجتمعات في كل زمانٍ ومكان.  

تُحرك كراهية النساء عجلة التمييز والإجحاف والبطش القانوني بهنّ، كما يتجلى في قوانين الأحوال الشخصية غير المنصف للنساء، وهو ما تُلوّح به التعديلات الأخيرة على قانون الأحوال الشخصية النافذ، والمدونة الجعفرية التي ستنبثق عنه. كما تغذي الميسوجونية الممارسات والسياسات التي تفرضها المؤسسات بمعزلٍ عن القوانين، كسياسة فرض الحجاب أو العباءة على التلميذات أو الطالبات في عددٍ من مدارس وجامعات العراق، خصوصاً تلك المنتشرة في مدنه المحافظة.  

ولا يفوتنا أن نُعرّج على الأعراف العشائرية التي تُعامل المرأة كسلعة تُباع وتُشترى، كما في “زواج الفصلية”، وهو التضحية بفتاة أو إمراة كـ”دية” وتزويجها قسراً لشخصٍ من عشيرةٍ أخرى في حالات النزاع القبلي أو العشائري؛ تصير فيها المرأة سلعة تُباع وتُشترى لغرض فظ الصراعات العشائرية-الذكورية، على حساب إنسانة جُردت من إنسانيتها ونُزعت حقوقها البديهية في الحياة. في عام 2018، انتحرت مروة بعد أن زُوجت كدية وهي لم تتجاوز الرابعة عشرة ربيعاً، لوأد صراع قبلي في البصرة، لتُوأد حياتها هي بعد معاناةٍ مع الزواج القسري والعنف الأسري. الانتحار هو الآخر برهان على العلاقة الطردية بين عُنف الخطاب وعُنف الجسد الناجمان عن كراهية النساء.    

كما أن كراهية النساء والتمييز على أساس الجنس هما حجر الأساس لتوزيع الأدوار الاجتماعية وتنميطها، وإقصاء النساء سياسياً واجتماعياً عن الكثير من المهن والمناصب، خصوصاً القيادية منها، وإيكال مهام مكتبية وروتينية لا تتناسب مع التحصيل العلمي والدرجة الوظيفية. والمفارقة أن ذات الأدوار المفروضة مجتمعياً على النساء مُحتقرة ومذمومة؛ فعندما يُريد أحدهم أن يُدينها، وبّخها بعبارة: “مكانك المطبخ!”، فعَملها المنزلي ومساهمته المهمة في الاقتصاد غير مكافأ أو مُقدر.

فالميسوجينية إذاً تسّربت في نسيج البُنى الاجتماعية، القانونية، الثقافية، والاقتصادية، ويختلف تأثيرها على النساء باختلاف الموقع الجغرافي، الطبقة، الخلفية التعليمية، المكانة الاجتماعية، الدين، المذهب، والعرق. وكلما كانت المرأة على الهامش، كلما فتك بها البنيان الميسوجيني.

المرأة على طيف الشرف

رغم أن كراهية النساء كخطاب قد تستهدف جميع النساء أحياناً، وبشكل لا يقبل الشك، على المستوى البنيوي والضمني، إلا أنها، في الغالب، تُوجَّه تحديدًا نحو فئة معيّنة من النساء: فالخطاب المؤصّل لهذه الكراهية، وكما تحلل الباحثة النسوية كيت مان في كتابٍ يتناول تحليل ظاهرة الميسوجونية بالتفصيل، يُصنّف النساء إلى مجموعتين: مجموعة النساء الصالحات وحميدات الخُلق، ومجموعة النساء الطالحات أو سيئات الخُلق.ii يُذكّر هذا التصنيف بعقدة “مادونا والعاهرة”، وهي مفهوم نفسي معروف قدّمه سيغموند فرويد، يشرح التناقض في مشاعر الرجال تجاه النساء بحسب موقعيتهنّ في تلك الثنائية. فـ”مادونا”، إشارة الى مريم العذراء- تمثل المرأة الطاهرة، العفيفة، النقية، المحترمة وغير المرغوبة جنسياً، على العكس من “العاهرة”، كما يتضح من الاسم، فهي مثيرة ومغرية ومرغوبة رغم أنها مُحتقرة ومهانة.

لذا فإن خطاب كراهية النساء يختلف بعض الشيء عن أي خطاب كراهية آخر موجه ضد مكوّن كامل، كالخطاب العنصري أو الطائفي وغيره، فكراهية النساء تمتاز بمنطق وديناميكيات مختلفة.

في سياقنا العربي والعربي، فإنني أطرح محاججة مختلفة بعض الشيء عن المفاهيم الغربية للمادونا والطاهرة، تنسجم أكثر مع واقعنا المعاصر وسياقات مجتمعاتنا.  

فعوضاً عن ذلك التقسيم الثنائي الصارم، تُنتج المنظومة الأبوية طيفاً متغيراً ومتجدداً من الفئات النسائية، يمكن النظر إليه كسلسلة متّصلة تمتدّ بين قطبَي النساء “الشريفات والعفيفات والمحتشمات”، و”السافرات الفاسقات السيئات”. تقترب النساء أو تبتعد عن هذا القطب أو ذاك، بقدر ما تقترب أو تبتعد عن الصورة الأبوية للمرأة “الشريفة”. وكما هو معروف، فإن مفهوم الشرف في حالة المرأة لا يعني الصدق أو النزاهة أو الشجاعة كما هو الحال مع الرجال، بل يرتبط مباشرة بجنسانيتها وحشمتها، وعليه، فهو لا يُعدّ أمراً شخصياً، بل أمراً جماعياً يمسّ العائلة والعشيرة والمجتمع بأسره.

حاججت الكاتبة النسوية فرجينيا وولف بأن المرأة تحتاج إلى غرفة تخصها وحدها كي تُبدع وتتحرر، وأنا أحاجج بأن المرأة بحاجة أيضاً إلى جسد يخصها وحدها. فجسدها، كما هو الحال اليوم، مُختطف، لا يُعتبر ملكاً لها، بل يتحوّل إلى مجرّد وسيط وناقل لشرف الآخرين. لا يُهمّ أن تكون شريفة وفق المفاهيم الأخلاقية التقليدية، فكلما حصّنت نفسها، وغطّت جسدها، وارتدت السواد، وسلكت سلوكاً محافظاً لا يخرج عن تعاليم المؤسسة الأبوية، كلما نالت احترام المجتمع وتقديره، بل وحتى قداسته، كما هو الحال في المدن الدينية ككربلاء والنجف..

تُرفع المرأة هنا إلى مرتبة “المرأة الزينبية” -نسبة إلى زينب بنت علي بن أبي طالب في السياق الشيعي- رمز الطهر والصبر والمعاناة. أما إذا خرجت عن هذا الإطار، فسرعان ما تُنزَل إلى الدرك الأسفل من العُهر والاحتقار والمهانة.

إن هذا الطيف أو النطاق ديناميكي، بمعنى أنه متغيّر ومتجدّد بحسب السياق المكاني والزماني، كما أنه يتداخل مع عوامل مختلفة أخرى، كالمعايير الجمالية؛ فكلما اقتربت ملامح وصفات المرأة الجسدية مما يحدده المجتمع من معايير للجمال، حظيت بمدحٍ وإطراءٍ وإعجاب، ونأت بنفسها عن التجريح والتنمّر والسخرية. وكذلك الحال مع الأمومة المعيارية -أي الأم المتزوجة، المطيعة، المخلصة، الراضية بسطوة الرجل، والساكتة عن ظلمه- إلا أن الإطار العام يبقى نفسه: الميسوجينية تُميّز بين النساء، وتخلق خصومة بينهنّ، فتؤلّبهنّ ضد بعضهن البعض، طمعاً في رضا السلطات الأبوية.

يتوجّه خطاب كراهية النساء، بدرجات متفاوتة، إلى كل امرأة أو فتاة تقترب من الطرف “الشاذ” عن النموذج المثالي الذي تفرضه المنظومة الأبوية، ويتجلى ذلك في أشكال متعددة من التقريع، التحقير، التعهير، الشماتة، الحقد، الازدراء، الشيطنة، التحريض، بل وحتى تجريد المرأة المستهدفة من إنسانيتها، وفقاً للسياق والحالة. فالميسوجينية خطاب يتسم بالمغالاة والتصريح بعدائيته تجاه المرأة “غير المنضبطة” أو “الضالة” عن المقاييس الأبوية، مقابل تبجيل ظاهري واحترام مشروط للنساء اللواتي يقتربن من الصورة النمطية “المثالية”. يتفاوت هذا الاحترام في درجته بحسب مدى مطابقة المرأة لشروط النظام الأبوي وخضوعها له.

في هذا التناقض تكمن ضبابية الخطاب الميسوجيني وصعوبة تحديده، إذ يشبه في طبيعته المادة الزئبقية: يصعب الإمساك بها والسيطرة عليها.  

تطرح الميسوجينية نفسها كخطاب تقويمي يهدف إلى الحفاظ على قيم ومُثل المنظومة الأبوية، مما مكنه على الاستمرارية واستمالة شرائح واسعة من المجتمع. وبذلك فهو يضرب عصفورين بحجرٍ: الشعبية والتداول والتكرار من جهة، وترهيب كافة النساء من جهةٍ أخرى؛ بمن فيهن النساء “الصالحات” بإرساله رسالة مبطنة لهنّ تحذرهنّ وتنبهنّ من خطورة مواجهة ذات العواقب أو المصير إذا ما سلكن سلوك الفئة الضالة من النساء، تحذير يصل في بعض الحالات إلى التهديد، كما في حالة التعليقات التي انتشرت على مواقع التواصل بعد مقتل البلوغر العراقية طيبة العلي.  

كراهية النساء.. تأنيث وتطييف

ويمتد التهديد اليومي من خلال الخطاب المعادي للنسويات، كونهنّ يُعارضن ويُهدّدن الأسس التي تقوم عليها الهيكليات الأبوية.

تمكّن هذه التفرقة بين نساء المجتمع الواحد على حسب القوالب الأبوية-الذكورية خطاب الميسوجينية من أن يقوى ويسود، فتتبناه بعض النساء أنفسهن كآلية دفاع وحماية حتى يرضى المجتمع عنهنّ، ويُعلي مكانتهن، ويكف عن إيذائهن، أو كوسيلة لإقناع الذات بأنهنّ على الصراط المستقيم، وبالتالي وجب النأي بأنفسهن عن أي امرأة مخالفة للقالب المعياري. فلا غرابة أن نجد نساء يُشاركن في ذم الأخريات المختلفات، حتى يتمايزن عنهنّ ولا يُنسبن إليهنّ. فعلى سبيل المثال، تشارك النساء في تقريع المرأة التي تُقرر خلع الحجاب، وتُذكرها بالعواقب الدنيوية والأخروية لهذا الفعل، بينما من الممكن أن تتخلى بعض الناشطات في مجال حقوق النساء عن صفة نسوية تجنباً للاتهامات الأخلاقية وتفادياً لوصمة قد تلتصق بهنّ إلى الأبد.

على أن رضا المنظومة الأبوية عن النساء الملتزمات بقوالبها وشروطها هو رضى مؤقت.  

فبمجرد أن تُصبح المرأة “الصالحة”، حسب تعريف تلك المنظومة، طرفاً في قضية تُحرج تلك المنظومة أو تكشف فسادها -كقضايا التحرش والاغتصاب- فإنها تُعامَل كمتهمة لا كضحية وانقلب ممثلوها عليها منتهكين أبسط الأخلاقيات المهنية، وفاتحين الباب على مصراعيه لجعلها فريسة للأذى والسخرية والإهانة الجماعية. لا يهم حينها مظهرها الموحي بالطهارة والعفة والاحتشام وفق ضوابطها.  

يكفي أن نعود بالذاكرة إلى قضية المواطنة هيفاء لطيف حسن، امرأة بسيطة ترتدي العباءة، لجأت إلى الشرطة شاكية من جريمة اغتصاب، وسط إنكار الجاني، ليُسرب فيديو حوارها مع الضابط المعني، وهو حوار يفتقر لأدنى معايير المهنية وسياقه التشكيك والسخرية، حتى أن تسريبه جاء لتحقيق الغرض نفسه ولكن بأثر جماعي، وأثر قاتل. رحلت هيفاء بعد هستيريا تنمر ووصم جماعية، نسي فيها الناس مشاكلهم ورموها بسهام كراهية لا ترحم خلف قناع ثقافة الميمز الساخرة، حتى رحلت عن عالمنا وسط روايات متضاربة حول قتل متعمد أو انتحار. فأُسدل الستار على القضية وراحت طي النسيان، من دون عدالة أو محسوبية، ولم تبقَ سوى آثار التشكيك والتجريح الساخر التي تلتصق بالضحايا حتى بعد رحيلهنّ، وتتشوه صورهنّ في الذاكرة الجمعية تشوهاً دائماً في اغتيال معنوي تواطأ به الجميع.

وبالمثل، تنقلب المنظومة على المرأة التي تكون طرفاً في قضيةٍ تُهدد أحد أذرعها. فمثلاً، تفرض السُلطة الأبوية ضوابط صارمة على زي النساء ولكنها تنتفض على المرأة التي تحاول الحفاظ على ضوابط مماثلة في السياق التعليمي.  

تعرضت مؤخراً مديرة مدرسة “التعاون” للبنات في قضاء سفوان في محافظة البصرة، نجلاء موحي،  إلى “هجمةٍ ممنهجة” لأنها ضبطت طالبات ارتدين السواد في مناسبةٍ شيعيةٍ دينية خلافاً للزي الرسمي، وعلى الرغم من أنها اكتفت برصد المخالفة والسماح للطالبات باستئناف الامتحان، إلا أن المديرة واجهت تلفيقاً وتضليلاً، على حد قولها، من السُلطة الدينية ممثلة بخطيب أحد المساجد في المحافظة، تبعه منشور على إحدى مواقع التواصل يتناولها بالتشهير والإساءة، فما كان منها إلى أن توجهت بتقديم بلاغ الى القضاء العراقي بحق الخطيب، في خطوةٍ نادرة في تحديها لممثل عن السُلطة الدينية الشيعية. وعلى الرغم من إطلاق سراحه، إلا أن الشارع البصري في القضاء ممثلاً بشيوخ عشائر ووجهاء المدينة ورجال دين، خرج على المديرة في تظاهرةٍ إحتجاجية، واضعاً إياها في صدامٍ مع العمامة كرمزٍ للدين وللمذهب، في تحريضٍ مخيف، هدفه الإخضاع والإسكات والترهيب. فكيف تتجرأ إمرأة صاحبة منصب على مُعمم صاحب سُلطة وسطوة دينية؟  

ديناميكيات الميسوجينية تتفاعل مع العوامل المحيطة، فإنها قابلة للتجدّد وخلق أنماط جديدة. ومن هذه الأنماط، السردية الجامعة بين الطائفية وكراهية النساء، ويبدو أنها باتت تتكرر مع كل واقعة إساءة جنسية أو انتهاك واستغلال، خاصةً عندما يكون أبطالها رجال يشغلون مناصب مهمة، كما في حالة عميد كلية الحاسوب في جامعة البصرة.

لكن ماكينة السوشيال ميديا قادرة على إدارة الدفّة وتوجيهها نحو الضحايا والناجيات من تلك الجرائم، فتصنع من أجسادهنّ أداة طائفية-جنسية تُدين طائفة كاملة، من خلال جرح كرامة نسائها واتهامهن اتهامات جماعية تتعلق بالشرف والعفّة، وفقاً لمفاهيم مختلّة.

في هذا السياق، جرى تداول خبر يذكر اسم الطالبة ومحل سكناها في الحادثة التي إفتتحتُ بها المقالة، دون أي دليل، وهو ما أكده حساب “التقنية من أجل السلام” المتخصص في تدقيق المعلومات والتحقق من صحتها. وقد جاء هذا التداول بقصد إثارة الشحن الطائفي-الجندري، أي تحويل ضحايا جرائم الابتزاز والتشهير إلى رموز ووصمٍ تلتصق لا بالضحية أو الناجية وحدها، بل بنساء الطائفة أو المذهب الذي تنتمي إليه، ومن خلالهن إلى المذهب نفسه. فتصبح المرأة أداةً للتشهير وإثارة التوتر الطائفي؛ وهي سردية خطيرة تجمع بين الطائفية وكراهية النساء، وتتكرر مع كل حادثة.

يُمارس التنابز بالمذاهب من خلال الطعن بالنساء، إذ يتنافس الطائفيون من السنّة والشيعة على جَرح بعضهم البعض. فـ”أولاد المتعة” و”أبناء جهاد النكاح” وجهان لعملة واحدة، وصفة سحرية سريعة التأثير لا تحتاج إلا إلى مكونين اثنين ثبتت فاعليتهما في التحشيد والتأجيج وإثارة سرديات مضادة: الطائفية وكراهية النساء (الميسوجينية).

فقد تحوّلت، على سبيل المثال، مواقع السوشيال ميديا إلى ساحة نزاع طائفي-جندري، تتجسّد فيه المنافسة بين “القنفة” — في إشارة إلى الأريكة التي ظهرت في صور العميد آنف الذكر — و”القبعة“، في إشارة إلى الطالبة التي ارتدت قبعة تخرج رُسمت عليها صورة الدكتاتور صدام حسين، في إحدى جامعات بغداد، ليتم فصلها فوراً، وتتناقلها منشورات وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي سبّاً وشتيمة، يُعاد اجترارهما وتوظيفهما كلما سنحت الفرصة.

اعتيادية الميسوجونية

رغم تغلغلها في الهيكليات المجتمعية، فإن كراهية النساء تظل مُنكرة، غير بارزة أو مُعترف بها. والتبرير يبدو مقنعاً للوهلة الأولى: إدانة سلوك مجموعة محددة من النساء لا تعني كراهية مطلقة وشاملة لجنس النساء برمّته. فكيف أكره النساء والمرأة هي “أمي وأختي وزوجتي وحبيبتي، الخ؟!” هو لسان حال الكثيرين (والكثيرات).  

يفرض خطاب الميسوجينية نفسه مجدداً، سواء عبر التشويه المتعمد والاغتيال الرمزي تارة، أو من خلال التحريض المباشر تارةً أخرى، دون أن يُدرك كثيرون أنه لا يتجلى دوماً في صورة خطاب صريح أو مباشر يستهدف جميع النساء. بل يتسلل في أشكال مبطنة وغير مرئية، مطبوعاً في ثقافة المجتمع، وفي العقل الجمعي والسيكولوجي لأفراده، وغالباً ما يُمارس بلا وعي ودون حاجة إلى سبق إصرار أو نية واضحة.  

وعلى الرغم من أن خطاب كراهية النساء الموجه لفئاتٍ محددة، كما أسلفنا، قد يكون مُنظماً ومدروساً ومُمولاً من قبل الجهات الحاكمة وأذرع المنظومة الأبوية، ممن يُطلقون حملات إستراتيجية ومدعومة على حسابات التواصل الاجتماعي، هدفها التشويه والتحريض على كل امرأة تُهدد تلك المنظومة، أو يُعتقد بأنها تفعل ذلك، فإن سيل العبارات والتعليقات اليومية، مصدره عامة الناس، رجال ونساء، يشتركون في تنظيمه بوعيٍ أو بدونه، أي أنهم حين يشيطنون أو يحقرون المرأة غير “المنضبطة”، لا يتقصدون إنتاج الخطاب الميسوجيني، ولا يشعرون أن كلامهم يُساهم في تغذيته، بل قد لا يدركون وجوده من الأساس.  

يمكن النظر إلى سلوكهم على أنه بات بنظرهم، عادياً، معتاداً، مطبعاً، وبديهياً. هذه هي “اعتيادية” كراهية النساء، كما يمكن وصفها استعارةً من مفهوم  “banality of evil”، الذي وظفته حنا آرنت في كتاب “أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر”، في شرحها لكيف يمكن لممارسات “شريرة” وغير إنسانية أو أخلاقية لبعض الأشخاص ألا تكون وليدة نوايا شريرة بالضرورة، بل مردها ضحالة وانعدام القدرة على التفكير النقدي، كما  في حالة الضابط أيخمان الذي تبع أوامر مسؤوليه النازيون ونفذها حتى يقوي من مركزه ويرتقي في السُلم الوظيفي في السلطة النازية، لا إيماناً بأيديولوجية معينة. كان رجلاً “عادياً بشكلٍ مرعب”، عجز عن فهم الآخر، كما فشل في معرفة بشاعة ما اقترفه، كتبت عنه آرنت.

وبعيداً عن الجدل الذي أثارته أطروحة آرنت، فليس الغرض هو تقييمها في سياقها الأصلي، إلا أنني أستعير مفهومها وأوظفه لوصف وفهم الخطاب الميسوجيني الصادر من أشخاص عاديين، مفتقرين للإحساس بالآخر أو التفكير من وجهة نظره، أشخاص غير قادرين على فهم جذور وأسباب الميسوجينية، ولا عواقبها أو مخاطرها.iii فاعتيادية الميسوجونية تعني أنها ليست نابعة دائماً من أيديولوجيا واضحة أو كراهية صريحة، بل من حالة ضحلة من الإدراك، ومن ممارسات اجتماعية مألوفة، بُنيت على تهميش وإقصاء المرأة في كل مفاصل الحياة، وتُكرّس خطاباً يستمر ويترسّخ، سواء من خلال الصيغ المنظمة والمؤسساتية لكراهية المرأة أو من خلال النسخة اليومية البسيطة التي يمارسها الناس بدون تفكير.

يُعزز كلاً من الخطاب الميسوجيني المُنظم والمؤسساتي والمتعمد، وذلك الاعتيادي والضحل والسطحي، بعضهم البعض ويُساهمان في ترسيخ دعائمه واستمراريته، مستفيدين من سياسات التجهيل المتعمد، في تشويهها للحقائق، لا في إخفائها؛ فالتجهيل هو بناء ممنهج لمعرفة مبتورة أو مجتزئة أو محرفة تماماً.

ولشرح التضافر بين الإثنين، يُمكن النظر إلى حفلات تكريم الطالبات لارتدائهنّ العباءة والحجاب، رمز العفة والإحتشام والطهر، المدعومة مؤسساتياً ومجتمعياً على أنها شكل من أشكال الميسوجينية المستترة التي تختزل المرأة في جسدها. فظاهرها تكريم وتقدير، وباطنها تحقير وإهانة، لأنها لا تبالي بالإنجاز العلمي للمرأة ولا بكفاءتها وقدراتها الذهنية. تكريم يُقوي من دعائم السيطرة الأبوية، ويُقوض في الوقت ذاته من رصانة المؤسسة الأكاديمية، كما أنه يميز بين النساء على أساس الملبس والمظهر.

ندرج ضمن الميسوجينية المستترة أيضاً ضغط معايير الجمال المجتمعية، التي تُلزم المرأة بشكل غير مباشر بتقديم نسخة مثالية من نفسها لتنال القبول. فهي على العكس من الميسوجونية الظاهرة والصريحة في عدائها للمرأة السيئة وفي شيطنتها ووصمها، تتستر خلف ستار تحسين الصفات الجسدية لتجميل صورة المرأة في عيون الآخرين، مما يُعزز ثقتها بنفسها ويضمن قبولها مجتمعياً. تعيش المرأة في حالة صراعٍ مع النفس ناجمة من ذلك الضغط المتراكم متسبباً بإستنزاف وإفقار مواردها الاقتصادية وضخ أموالها في سبيل تحسين شكلها عبر إجراءات تجميل قد تكون باهظة أو غير آمنة. وإن لم ترضِ تلك الإجراءات أعين الآخرين، تُواجَه مجدداً بالذم والوصم، في حلقة لا تنتهي من الاستهلاك والانتهاك.  

تشارك المرأة من دون أن تدري في التعامل مع ذاتها كسلعة تُختصر في جسدها، وتُعامل كمادة للاستهلاك، متأثرةً بالماكينة الرأسمالية النيوليبرالية العالمية ونسخها المحلية المتمثلة بالسُلطات  العاجزة عن الحد من انتشار مراكز التجميل على حساب إجراءات السلامة، فالكثير منها مدعوم من قبل شخصياتٍ أو فصائل متنفذة تستفيد منها في غسل الأموال وتزييف الفواتير أو تهريب العملة الصعبة، فهي واجهة للتجارة الفاسدة تستغل النساء وإحتياجاتهنّ المتشكلة الى حدٍ كبير بفعل الضغط المجتمعي والإعلامي.

كل هذا يصبّ في طاحونة واحدة تطحن النساء طحناً، وتُعيد خلق نماذج منسوخة من النساء، تُشبه بعضها البعض، تفقد فرادتها في ظل خطاب كاره للنساء، ظاهراً حيناً، ومستتراً حيناً آخر، لكنه حاضر ومتجذّر في كل لحظة من الحياة اليومية.

الميسوجونية كراهية للذات قبل النساء    

حين نتحدث عن أي خطاب كراهية، فإننا نركّز على ضحاياه، إلا أن الكراهية، وما تُنتجه أو تعزّزه من انتهاكات وإساءات، تمسخ منتجيها أيضاً؛ فهي تقضم من إنسانيتهم، وتحيلهم إلى كائنات عاجزة عن الفهم والتعاطف. تمنع الميسوجينية إمكانية استيعاب وفهم الظروف والعوامل الحقيقية التي تُسهم في وقوع أي حادثة أو مشكلة أو جناية.

فبالعودة إلى حادثة الدهس التي ابتدأت بها المقالة، فإن إلقاء اللوم على الطالبة والمطالبة بمحاسبتها، كما فعلت سهيلة الصراف، رئيسة مؤسسة “مبدعات للتنمية”، حين برّرت في حوار إذاعي حوادث اغتصاب بقولها إن الطالبات “كاسيات عاريات”، هو تعبير فجّ عن هذا العجز في الفهم، وانعدام القدرة على تحليل علاقات القوة داخل المؤسسات التعليمية. تكمن خطورة هذا الخطاب لا في محو الجاني من الصورة، وإتهام الضحية فحسب، بل في إستئصال أية فرصة تسمح بوجود نقاش حقيقي حول آليات علاقات القوة في الجامعات، وكيف أن العمر وحده لا يكفي كشرط للرضا والموافقة بين أستاذ وطالبة، بغض النظر عن الجنس، بل إن اختلال موازين القوى بين الاثنين يعني أن مسؤولية تنظيم العلاقة الشخصية ووضع المسافات بين الأساتذة والطلبة تتحملها المؤسسة أولاً، والأستاذ ثانياً. والسماح بتجاوز تلك المسافة يضعنا أمام حالة استغلال للمنصب على أقل تقدير، إن لم يكن ابتزازاً صريحاً وممنهجاً.

إلا أن الإجماع على إدانة الطالبة يُغلق الباب على طرح نقاشٍ بنّاء من هذا النوع، ويبدو أن هذه العرقلة مقصودة، بفعل التجهيل المؤسساتي المُعطل لإنتاج المعرفة البناءة. ومن شأن هذا التجهيل الإمعان في تمكين خطاب الكراهية ضد النساء؛ فمن مصلحة السُلطات الحاكمة إلهاء المواطنين كي تستمر في فسادها وطغيانها وشرعنة نفوذها. فتتحوّل الميسوجينية، بهذا الشكل، إلى أداة سياسية فعالة لتوطيد دعائم السلطة، وضمان خضوع المجتمع.

وبهذا، تضيع الفرص لمعالجات ماسّة لمشاكل حقيقية وكبرى. ومع ضياع الفرصة، تفوز الميسوجينية في كل مرة. لذلك، فإن تشخيص كراهية النساء ومقاومتها واستنكارها ليس خياراً أخلاقياً فحسب، بل ضرورة اجتماعية وسياسية تمثل الخطوة الأولى نحو إنصاف وعدالة حقيقيين، وأساساً متيناً لبناء مجتمعات متكافئة يعامل فيها النساء والرجال على قدم المساواة، بعيداً عن التعميمات القائمة على الفوارق البيولوجية، ميزان يُعيد للمرأة كرامتها، ويمنع تشييئها أو تحقيرها أو استخدام جسدها كأداة تتلاعب بها المنظومة الأبوية لخدمة سلطتها واستمرارها.

فالميسوجينية، في نهاية المطاف، ليست حالة فردية أو رأياً عابراً، بل هي طلقة تُصيب ضمير المجتمع، وتسلخه عن إنسانيته، وتُهدد استقراره، على الرغم من كونها، في كثير من الأحيان، تظهر على أنها طلقة مفردة غير مرئية، وغير محسوسة إلا لضحاياها المباشرين، بيد أن أثارها التدميرية تشمل المجتمع برمته.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced