المجتمعات تشهد تكراراً لتجارب توتاليتارية بـ"صبغة رقمية" مع التحول من فكرة القرية الكونية إلى فضاء صندوق الدنيا مع الهواتف الذكية على الطريق إلى خلق "الديكتاتور الخالد"
هل تضحى الفاشية التكنولوجية والفاشيون التكنولوجيون السبب الرئيس في اضطراب العالم الجديد المعاصر؟ (صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)
ملخص
دخل العالم مخاض عصر جديد يعرفه خبراء السياسة الدولية بعصر "الفاشية التقنية" Technofascism، تتلاعب فيه شركات التقنية الحديثة، والمليارديرات الذين يمتلكون أصولها، بمقدرات الدول الكبرى منها والصغرى، لا سيما أن المكيانيزمات التقنية الحديثة، هي اليوم من يصنع الصيف والشتاء، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن مخرجات الذكاء الاصطناعي، كما وصفها أحد دهاقنة السياسة الدولية، هنري كيسنجر، بأنها "الديكتاتور الخالد"
عرف العالم الفاشية كتيار سياسي وفكري من أقصى اليمين، ظهر في أوروبا في العقد الثاني من القرن الـ20، له نزعة قومية عنصرية تمجد الدولة إلى حد التقديس، ويرفض نموذج الدولة الذي ساد أوروبا منذ أواخر القرن الـ19 القائم على الليبرالية التقليدية والديمقراطية البرلمانية التعددية.
والفاشية في حقيقة الأمر هي وصف لشكل راديكالي من الهيمنة، تمثلت تاريخياً في تجارب لحركات سياسية قومية أو وطنية، ونظم أسستها تلك الحركات، تبلورت عبر تجارب الفوهور السياسية التي خاضتها بلدان عدة في أوروبا في الفترة ما بين الحربين العالميتين لتصل إلى شكل فكري واع بذاته.
وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية، نجد أن اصطلاح الفاشية Fascim مشتق من الكلمة الإيطالية Fascio، وهي تعني حزمة من الصولجانات كانت تحمل أمام الحكام في روما القديمة دليلاً على سلطانهم، وفي تسعينيات القرن الـ19 بدأت كلمة فاشية تستخدم كثيراً في إيطاليا، لتشير إلى جماعة أو رابطة سياسية.
هل اليوم ونحن في منتصف العقد الثالث من القرن الـ21، على عتبات شكل جديد من أشكال الفاشية لا علاقة له بالسياسة، وإن تماس معها، ولا بأنظمة الحكم، وإن قدر لهذا النموذج الوليد التلاعب بالسياسيين أنفسهم؟
يبدو قولاً وفعلاً أننا في مخاض عصر جديد يعرفه خبراء السياسة الدولية بعصر "الفاشية التقنية" Technofascism، تتلاعب فيه شركات التقنية الحديثة، والمليارديرات الذين يمتلكون أصولها وخصومها على حد سواء، بمقدرات الدول الكبرى منها والصغرى، لا سيما أن المكيانيزمات التقنية الحديثة، هي اليوم من يصنع الصيف والشتاء، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن مخرجات الذكاء الاصطناعي، في الوقت الحاضر جرى وصفها من دهاقنة السياسة الدولية، من نوعية الراحل هنري كيسنجر، بأنها "الديكتاتور الخالد"، وبلغ الأمر حد تحذير أحد أساطين الفاشيين التكنولوجيين الجدد، إيلون ماسك من تبعاتها؟
ماذا عن الفاشية التكنولوجية والفاشيون التكنولوجيون، وهل سيضحون بالفعل السبب الرئيس في اضطراب العالم الجديد الالفاشية التقنية... حديث المعنى والمبنى
يمكن اعتبار الفاشية التكنولوجية وصفاً للحكم الاستبدادي الذي يقوده التكنوقراط، إذ تعتبر التكنولوجيا القوة الرئيسة الدافعة للقائمين على هذا الحكم.
يتميز هذا المفهوم باندماج سلطة الدولة وسلطة الشركات، لاسيما في قطاع التكنولوجيا، مما يؤدي إلى "تقننة" الحكومة والمجتمع. وفي الآونة الأخيرة استخدم لوصف إمكان حدوث هذا الاندماج في الولايات المتحدة بنوع خاص.
وبمزيد من الإيضاح، فإن نموذج الفاشية التكنولوجية، غالباً ما يطلق على وصف الشراكة السياسية المغشوشة، بين أصحاب المصالح، وقادة الشعوب، ذلك أنه غالباً ما ينطوي على تحالفات نفوذ الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا والقادة الأوتوقراطيين.
ومن دون تزيد يمكننا القول إن الفاشية التكنولوجية متجذرة في التكنوقراطية، وهو نظام يجري فيه تكليف الخبراء والمتخصصين، وخصوصاً أولئك العاملين في مجال التكنولوجيا، بالحكم واتخاذ القرارات، وفي هذا السياق فإن أحد الجوانب الرئيسة للفاشية التكنولوجية هو التأثير الشامل للتكنولوجيا في جميع جوانب الحياة، من الحكومة والأعمال التجارية إلى التفاعلات الشخصية، ويؤكد المفهوم العلاقة الوثيقة بين الدولة والشركات الكبرى وخصوصاً في قطاع التكنولوجيا.
ومن غير شك يمكن القطع بأن مصطلح "الفاشية التكنولوجية"، اكتسب زخماً كوسيلة لوصف المخاوف المحيطة بالتأثير المتزايد للتكنولوجيا في السياسة والمجتمع، وخصوصاً في سياق بعض الشخصيات السياسية وعلاقاتها بوادي السيلكون.
على سبيل المثال، ناقشت مجلة "نيويوركر" الأميركية، كيف أن اندماج القوة التكنولوجية للدولة والشركات في الولايات المتحدة قد يؤدي إلى مستقبل "فاشي تكنولوجي"، مؤكدة إمكان ظهور الاستبداد الذي يقوده التكنوقراط.
وغالباً ما يؤدي صعود الفاشية التكنولوجية إلى الإضرار بالديمقراطية، إذ يتخذ الخبراء أو أولئك الذين يتمتعون بالمعرفة المتخصصة القرارات من دون مراعاة المبادئ الديمقراطية أو مدخلات الجمهور احتمالية نشر معلومات مضللة والتلاعب بعقول الجماهير.
أضف إلى ذلك، أن صعود وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا أدى إلى خلق طرق جديدة لنشر المعلومات المضللة، تلك التي يمكن استغلالها للتأثير في الرأي العام وتعزيز الأجندات الاستبدادية.
يعن لنا بداية التساؤل: هل هناك تاريخ للفاشيات التقنية، يستبق ما يجري هذه الأيام في الداخل الأميركي بنوع خاص؟معاصر؟
عن اليابان في ثلاثينيات القرن الـ20
في خطابه الوداعي في يناير (كانون الثاني) الماضي، أنذر وحذر الرئيس الأميركي جو بايدن من أخطار صعود المجمع التقني الأميركي، مما أعاد للأذهان تحذيرات الرئيس دوايت أيزنهاور في خطابه المماثل عام 1961، من صعود المجمع الصناعي العسكري.
على أن البحث عميقاً، ربما يقودنا إلى تجربة مماثلة جرت بها المقادير في النصف الأول من القرن الـ20 في اليابان، وهذا ما تحدثنا عنه الأكاديمية الأميركية جانيس ميمورا التي تقوم بتدريس قصة الحكومة اليابانية الفاشية في زمن الحرب العالمية الثانية.
في مؤلفها المعنون "التخطيط للامبراطورية"، تميط ميمورا اللثام عن البيروقراطيين وطبقة الإدارة السياسية المغمورة التي تولت السلطة في ظل هيمنة الإمبراطور الياباني هيرو هيتو في ثلاثينيات القرن الماضي، ودفعت الأمة إلى حرب شاملة .
اليوم تقيم ميمورا مقاربة تاريخية بين تلك الجماعة، وبين مكتب مراقبة الإنفاق الحكومي أو DOGE الذي ابتكره ترمب لإيلون ماسك، وكلفه بالإشراف عليه.
ترى ميمورا أن كلاهما جماعتان مدفوعتان بالتكنولوجيا وتولتا سلطة لا تقبل الجدل.
في ثلاثينيات القرن الـ20، استعمرت اليابان منشوريا، شمال شرقي الصين، وأصبحت المنطقة حقل تجارب للفاشية التقنية. عين نوبوسكي كيشي، وهو موظف بوزارة التجارة اليابانية، رئيساً للبرنامج الصناعي في منشوريا عام 1936، وبالتعاون مع جيل جديد من التكتلات اليابانية المعروفة باسم "زايباتسو" وضع سياسة تنمية صناعية قسرية قائمة على استغلال السكان المحليين. عندما عاد كيشي للساحة السياسية الوطنية في اليابان عام 1939، إلى جانب زمرة من التكنوقراطيين اليابانيين الآخرين الذين عملوا في منشوريا، اتبع استراتيجيات مماثلة للتصنيع الذي فرضته الدولة، على حساب المصالح الخاصة وحقوق العمال.
على أن المفارقة التاريخية، تتمثل في أن هذه المحاولة التقنية الفاشية، لم يقدر لها أن تدوم طويلاً بل ربما يمكننا القول إنها انتهت سريعاً، لكن كيف؟
الشاهد أن ما أنهى حكم التكنوقراط هو انحلال تحالفهم مع السياسيين المحافظين والجيش، في النهاية خلق التكنوقراط آلة حرب لم يتمكنوا هم أنفسهم من إيقافها، فجرى إقصاؤهم من الحكومة عندما بدأوا يدعون إلى الحذر، راغبين في تجنب معركة خاسرة، لكن الوقت كان فات، وتعرضت اليابان لما لم تتعرض له أية أمة على وجه الأرض بصورة مزدوجة. فمن ناحية أسقطت عليها قنبلتان نوويتان ولو بدائيتان، أرغمتاها على الاستسلام وإنهاء الحرب، ومن ناحية أخرى تكبدت اليابان عقوداً طوالاً من الاستعمار الأميركي المقنع تحت غطاء الشراكة الرأسمالية مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.
تتساءل ميمورا عبر مجلة "نيويوركر" الأميركية: "هل يمكن أن يكرر التاريخ نفسه مرة جديدة، بمعنى أن ما جرى في اليابان يمكن أن يحدث في الداخل الأميركي من خلال التوجهات والاتجاهات التي يدفع ماسك في طريقها، بالشراكة مع عدد كبير من رجالاته في مختلف مناحي الحياة، مما يمكنهم بالفعل من القبض على مفاصل الدولة الفيدرالية، وبما ييسر له لو شاء تشكيل حكومة ظل موازية في أي وقت يرغب أو يريد، مع التبعات الكارثية لمثل هذا الأمر على الحياة السياسية الداخلية الأميركية؟".
الثابت أن ميمورا تفتح أمامنا باباً واسعاً للتفكير في ملامح ومعالم ما يجري في وادي السيلكون بنوع خاص، وكيف بات حاضنة للفاشية التقنية وللفاشيين الجدد إن جاز التعبير.
وادي السيلكون ومسار الاستبداد التكنولوجي
هل يمكن أن يكون وادي السليكون مساراً لصعود الاستبداد التكنولوجي، وتمكين الفاشية التقنية في الداخل الأميركي؟
ربما هذا ما ناقشته باستفاضة أدريان لافرانس، مدير التحرير التنفيذي لمجلة "أتلانتك مونثلي"، في عدد يناير (كانون الثاني) الماضي.
عند أدريان، أنه إذا كان عليك أن تلخص إيديولوجية وادي السيلكون السائدة في حكاية واحدة فقد تنظر أولاً إلى مارك زوكربيرغ، وهو يجلس في الضوء الأزرق لجهاز الكمبيوتر الخاص به قبل نحو 20 عاماً، ويتحدث مع صديق حول كيف منحه موقعه الإلكتروني الجديد "فيس بوك" إمكان الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات الشخصية عن زملائه الطلاب.
تلك المحادثة التي كشف عنها لاحقاً من سجلات دردشة مسربة، سرعان ما تبعتها محادثة أخرى لا تقل دلالة، وإن كانت أكثر أدباً.
في حفلة عيد ميلاد شهيرة عام 2007، التقى زوكربيرغ للمرة الأولى بشيريل ساندبيرغ، التي أصبحت لاحقاً رئيسة عملياته، وحولت مع زوكربيرغ المنصة إلى قوة عظمى إمبريالية رقمية.
أوضح زوكربيرغ الذي تبنى في بدايات "فيس بوك" شعار "الشركة أهم من الدولة" لساندنبيرغ، أنه يريد أن يمتلك كل أميركي متصل بالإنترنت حساباً على "فيس بوك".
بالنسبة إلى ساندنبيرغ، التي أخبرت زميلاً لها ذات مرة أنها "وجدت على هذا الكوكب لتوسيع نطاق المؤسسات"، اتضح أن هذه كانت المهمة المثالية.
هل كانت هذه هي البداية الحقيقية لصعود الاستبداد التكنولوجي بالفعل؟
سطور مقالة أدريان لافرانس، توضح لنا كيف أصبح "فيس بوك" المعروف الآن باسم "ميتا"، رمزاً لكل ما هو خاطئ في وادي السيلكون، بدءاً من دوره الأناني في نشر معلومات مضللة عالمياً الذي يمثل أزمة مستمرة.
وربما علينا أن نتذكر تجربة الشركة السرية للتلاعب بالحالة المزاجية عام 2012، إذ جرى الخداع عمداً بما يراه المستخدمون في موجز أخبارهم لقياس مدى تأثير "فيس بوك" في حالتهم العاطفية من دون علمهم أو مشاركته في التحريض على الإبادة الجماعية في ميانمار عام 2017، أو استخدامه كمنصة للتخطيط وتنفيذ تمرد السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 أمام الكابيتول ومبنى الكونغرس.
وعلى رغم تلك الآفات المتقدمة، تظل طريقة "فيس بوك" في ممارسة الأعمال هي القاعدة بالنسبة إلى صناعة التكنولوجيا ككل، حتى مع تفوق منصات التواصل الاجتماعي الأخرى (تيك توك كمثال)، والتطورات التكنولوجية (الذكاء الاصطناعي) على "فيس بوك" في الأهمية الثقافية.
الخطوط السابقة ربما تدفعنا في حقيقة الأمر للتساؤل: هل ما يجري من "فيس بوك" وأنداده، عطفاً على ما يستجد من أدوات لم تطف على السطح بعد، يعمق من الحياة الديمقراطية، أم على العكس من ذلك يقود إلى صورة من صور الفاشية المحدثة، التي تجعل الشعوب ألعوبة في يد من يمتلك وسائل الإعلام والمعلومات؟
التكنوفاشية ومجابهة دروب الديمقراطية
يحتاج الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة إلى الوقوف طويلاً وعميقاً أمام ادعاءات التكنوقراط الجدد بأنهم يعتنقون قيم الحرية والتنوير والديمقراطية، لا سيما أن الواقع يقول بعكس ذلك، إذ إنهم يقودون حركة معادية للديمقراطية وغير ليبرالية.
تبدو الصيحات التي يمضي التكنوفاشيون الجدد في إثرها، مخيفة حقاً، لا سيما أنهم ينادون بأنه بات عليهم أن يرسموا معالم وملامح العالم التكنوفاشي الجديد نيابة عن مواطني العالم الذين لم يتحركوا، حتى لو كانت القيم مختلفة، والآداب متباينة، ناهيك بالإرث الثقافي لكل شعب والمراد تذويبه في رؤية عالمية، ودين موحد، وقيادة عالمية تمضي وراء حكومة عالمية تكنوقراطية واحدة بذاتها.
تبدو هذه هي مجموعة القيم التي يمضي في طريقها عدد من عمالقة وادي السيلكون، فقد ألحق "يوتيوب" المملوك لشركة "غوغل"، و"إنستغرام" الخاص بشركة "ميتا"، و X إيلون ماسك، ضرراً بالحقوق الفردية والمجتمع المدني والديمقراطية العالمية، تماماً كما كان "فيس بوك" وما زال. وبالنظر إلى الطريقة التي يتطور بها الذكاء الاصطناعي في وادي السيلكون، ربما يتوجب على الأميركيين أولاً والعالم تالياً، الاستعداد لتضاعف هذا الضرر مرات عدة في السنوات المقبلة.
في هذا السياق، يمكن الجزم بأن كثيراً من التكنوقراطيون الجدد يتباهون باستخدامهم للغة التي تجذب قيم التنوير، لكن الواقع أنهم يغوصون عميقاً في أودية الظلام ويعودون بالعالم لأزمنة التوتاليتارية المقنعة.
يدعي كثير منهم دعمهم المطلق لحرية التعبير، لكنهم ينتقمون من أولئك الذين يقولون أشياء لا تعجبهم أو تتملقهم، مما يعني أنهم يميلون إلى تبني معتقدات غريبة، ربما في مقدمها تبني فكرة تدفق المعلومات بسلاسة بغض النظر عن جودة المعلومات أو صدقها، مما يدخل العالم في أزمة رهيبة تعرف بـ"الأخبار المزيفة" وكيفية التعاطي معها والوقوف في وجهها، ومجابهة زيفها.
الفاشيون التقنيون الجدد، هم من يرفع شعار يرى أن الخصوصية مفهوم عتيق، وأننا يجب أن نرحب باليوم الذي يتفوق فيه الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، وفوق كل شيء، يروا أن قوتهم لا يجب أن تضحى مقيدة بالأنظمة التي بنوها أو يبنونها لإعادة توصيل الاتصالات وإعادة تشكيل الشبكات الاجتماعية البشرية، ودمج الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، وأكثر من ذلك، تفرض هذه المعتقدات على السكان الذين لا تتم استشارتهم ولا يجري إعلامهم بصورة هادفة في العادة.
هل وادي السيلكون أخطر من واشنطن العاصمة؟
من يتصدى هنا للجواب هو أحد العقول المفكرة في مجال ما بعد الإنسان البيولوجي، والمختص في المستقبليات وتقاطعاتها مع الذكاء الاصطناعي وما شابه، ونعني به البروفيسور يوفال نوح هراري.
يعتقد هراري أن وادي السيلكون أخطرهم جميعاً، حتى وإن كانوا كلهم يجذبون أشخاصاً غالباً ما يتجاوز طموحهم إنسانيتهم، ذلك أن تأثير وداي السيلكون يعيد هندسة المجتمع بعمق أكثر من أي مركز قوة أخرى في أية حقبة مضت، ربما منذ أيام ما عرف بالصفقة الجديدة (مجموعة من البرامج الاقتصادية أطلقت في الداخل الأميركي في الفترة ما بين 1933- 1936).
واليوم يقلق ملايين من الأميركيين وعن حق من تصاعد الاستبداد بين الجمهوريين المؤيدين لـ"جعل أميركا عظيمة مجدداً"، لكنهم يخاطرون بتجاهل قوة صاعدة أخرى للتيار المعادي لليبرالية، خوفاً من ملوك التكنولوجيا سريعي الغضب وذوي النفوذ الهائل.
ماسك وترمب ونشوء المجمع التقني
يحاجج كثير من الكتاب والمحليين السياسيين الأميركيين، ومنهم أليستير ألكسندر وجوان دونوفان، بأن العلاقة المثيرة التي تابعها الأميركيون خلال الأشهر القليلة الماضية بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وإيلون ماسك، صاحب شركة تسلا وصواريخ "سبيس إكس"، خير دليل على خطورة تيار "التكنوفاشيزم".
في هذه المرحلة، وعلى رغم الخلافات التي طفت على السطح بين ترمب وماسك، إلا أنه يكاد يكون من المستحيل فهم اندماج المصالح التجارية والتكنولوجية والأمنية والوطنية والسياسية الذي يمثله التحالف بين ترمب وماسك بصورة كاملة. ولكن بما أنه يتجاوز بصورة شاملة جميع هياكل المعايير الديمقراطية والمساءلة، فربما يكون من الأفضل اعتباره نوعاً من "المجمع الناشئ"، الذي يذكرنا بـ"المجمع الصناعي العسكري" الذي حذر من إيزنهاور بذكاء عند مغادرته البيت الأبيض عام 1961.
غير أنه في حين كان المجمع الصناعي العسكري - ولا يزال - خارج نطاق الرؤية مختبئاً في ظلال القوة الكامنة والمؤامرات الجيوسياسية، فإن المجمع الذي يضم في نهاية المطاف اثنين من أكثر الرجال النرجسيين إنجازاً في العالم، سيكون في دائرة الضوء على المسرح الرئيس في العالم ومنصاته الرقمية الخاصة.
ومن خلال هذا العقد الناشئ، تمكن ترمب من فرض السيطرة تقريباً على صناعة التكنولوجيا الأميركية بأكملها، التي أصبحت الآن القطاع الأقوى على الإطلاق، من حيث الربح والقيمة السوقية، في الاقتصاد الأميركي والعالمي.
ولعله من المثير أن ترمب وحتى قبل عودته لمنصبه، أصبح لديه بالفعل سلطة أكبر على رأس المال مما كان ليتصوره في ولايته الأولى.
غير أن علامة الاستفهام المثيرة والخيرة في آن واحد: ما الذي يمكن أن يصيب الحياة الأميركية - كمثال - حال التنازع بين أصحاب التكنولوجيا وملاك أدواتها ورأسمالها من كبار الإقطاعيين المحدثين في عالم التقنيات المعاصرة، وبين السياسيين أصحاب المقاعد السياسية الوثيرة، بدءاً من أصغر بلدة في أقصى الجنوب مروراً بالوسط وصولاً إلى شمال البلاد؟
هنا يبدو ما جرى بين ترمب وماسك أخيراً حاضراً ومخيفاً، ذلك لأن الأخير اكتسب خبرات تراكمية واسعة عن الدولة الأميركية بملامحها ومعالمها الفيدرالية، إلى درجة أن بعضهم يعتبر أن ماسك اليوم لديه نخبة من الرجالات المهرة القادرين على إدارة شؤون الدولة في أي وقت يحتاج، بمعنى أنه خلال 120 يوماً استطاع تكوين فريق يمكن أن يمثل عند لحظة معينة حكومة ظل.
والشاهد أنه على رغم أن ترمب في اللحظة الحالية هو الأقوى انطلاقاً من منصبه السياسي ومقدراته الحكومية، إلا أن ماسك وبملياراته العديدة، وتفكيره في تكوين حزب جديد أطلق عليه "حزب أميركا"، يمكنه أن يكون فاعلاً وناجزاً في سياقات العمل السياسي الأميركي، ولفترات زمنية أطول كثيراً جداً من مجرد ثلاث سنوات ونصف سنة هي ما تبقى لسيد البيت الأبيض من ولايته الثانية.
كما أن التفكير في تشكيل حزب أميركي جديد، يفيد في الحال والاستقبال بأن طموحات ماسك، كممثل لطبقة التكنوفاشيزم، لن تتوقف في القريب العاجل، بل إن هناك مخططات لامتدادها وتوسعها في قادم الأيام.
DOGE التجلي الأول للظاهرة المسقبلية
هل شهدت الولايات المتحدة الأميركية منذ بداية ولاية الرئيس ترمب تجلياً ما لظاهرة التكنوفاشيزم؟
غالب الظن أن وزارة الكفاءة الحكومية DOGE غير المنتخبة التي أنشأها إيلون ماسك، والمكلفة بإعادة تنظيم الخدمات الرقمية الأميركية، سيطرت فعلياً على إدارة الولايات المتحدة بسرعة مذهلة. ماسك نفسه، الذي حذر من التهديد الوجودي للذكاء الاصطناعي، هو من مضى في طريق تصميم نظام ذكاء اصطناعي جديد لتحديث العمليات وتحديد حالات التسريح المحتملة.
والمعروف أنه في يوم تنصيب ترمب، صدر أمر تنفيذي يلغي إجراءات سلامة الذكاء الاصطناعي التي تلزم "مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي أو الاقتصاد أو الصحة أو السلامة العامة، بمشاركة نتائج اختبارات السلامة مع الحكومة الأميركية".
من هنا يتضح لنا وبجلاء الصورة أن جوهر الفاشية التكنولوجية هو الاعتقاد بأن اللوائح التنفيذية تعوق الابتكار المؤسسي من خلال منع استقلال البشر، وربما غير البشر، والطبيعة، سواء كان ذلك معايير سلامة التصنيع، أم حماية العمال، أم حماية الهواء والماء النظيفين، أم سلامة الغذاء، أم الحفاظ على البيئة، أم اللوائح المالية، ويستند هذا إلى صورة جامدة للتكنولوجيا بأنها أحادية الاتجاه، بينما في الواقع يقوم التقدم التكنولوجي على التحسين التدريجي والصيانة والتنظيم.
يعبر تصريح إيلون ماسك بأن اللوائح في الأساس يجب أن تختفي افتراضياً عن كراهيته لجميع أشكال تدخل الدولة المالي أو القانوني أو الاجتماعي لصالح النظام الطبيعي، الذي سيحكم فيه الأقوياء أو المختارون - المستبدون.
عبر هذه العقلية يجري النظر إلى اللوائح على أنها عقبات مرهقة أمام تسريع الابتكار من دون عوائق.
هكذا تستحوذ الفاشية التكنولوجية على السلطة عبر الترويج لصورة مألوفة للتكنولوجيا متجذرة في تاريخ قائم على الابتكار، أي هيمنة البيض والذكور والأثرياء. يخفي هذا التاريخ الاستخدام اليومي للتقنيات غير الغربية وغير الغنية وغير البيضاء وغير الذكورية من غالبية سكان العالم.
في أكثر صورها مثالية، تسعى الفاشية التكنولوجية إلى أتمتة الحكومة، ليس من أجل الصالح العام كما تصور كثير من مشاريع التكنولوجيا اليوتوبية، ولكن من أجل مصلحة مساهمي الوقود الأحفوري والتكنولوجيا.
يبدو العالم في واقع الأمر أمام متغير نوعي وكمي معاً، بمعنى أنه في ظل التحول من فكرة القرية الكونية التي تحدث عنها مارشال ماكلوهان، إلى عالم صندوق الدنيا المتمثل في أجهزة الهواتف النقالة الذكية، لم تعد معايير القوى الدولية الحاكمة ثابتة بل متغيرة بصورة سريعة باتت النظريات السياسية تلهث وراءه في محاولة لفهم أبعاده.
ولعل الأكثر إثارة هو أن الزمن يكاد يكون بصورة أو بأخرى يعيد نفسه من جديد، إذ طبقة بعينها تمتلك 99 في المئة من الثروة وأدوات الحكم، وواحد في المئة يترك لهم الصراع على الفتات، مما يمكن أن يولد ثورات مجتمعية، ضد التقنيات الحديثة أول الأمر، والقائمين عليها ثانية.
هنا ربما يعن لنا أن نتذكر العبارة الأخيرة التي وردت في مؤلف الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ في نهاية رائعته "أولاد حارتنا"، المليئة بالرموز والإسقاطات الزمانية على المسكونة وساكنيها منذ بدء الخليقة وحتى حاضرات أيامنا، لا سيما حين تساءل: "هل حارتنا محكومة بالنسيان؟". من أسف غالب الظن كذلك، والدليل تيار التكنوقراط والفاشية التكنولوجية التي لا يقدر أحد أن يتنبأ بمدى غوصها في بطون التاريخ في قادم الأيام.