سينقل زورق مطاطي مهاباد وزوجها وأطفالهما من تركيا إلى اليونان، في رحلة يراد منها الوصول إلى أوروبا والعيش فيها، لكن للبحر رأي آخر..
صعدت مهاباد مع زوجها عيسى وأطفالهما الخمسة وأشخاص آخرين، قبل حلول منتصف ليلة 8 تشرين الأول 2018، على متن زورق صغير يعود لمهرب تركي.
سينقلهم الزورق من ساحل مدينة إزمير التركية باتجاه السواحل اليونانية عبر بحر إيجة، على أمل تحقيق حلمهم في الوصول إلى “جنة أوروبا”.
أمواج البحر العاتية في تلك الليلة كانت أشد وأقوى من حلم مهاباد وعيسى، فابتلعت كل من كان على متن الزورق، ونجت مهاباد فقط من هذه الكارثة.
لقي زوجها وأطفالها الخمسة حتفهم في تلك الليلة مع 15 مهاجرة ومهاجراً كانوا معهم على متن الزورق.
وتوارت جثامين أربعة من أطفالها في لجة البحر ولم تفلح محاولات العثور عليها.
اليخت ينتظر!
كان عيسى قد فكر باللجوء إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل له ولأسرته بعدما فقد عمله كسائق سيارة في قضاء زاخو شمالي محافظة دهوك.
باع جميع ممتلكاته وممتلكات زوجته من منزل وذهب وغير ذلك، ليوفر تكاليف الهجرة.
وفي مطلع تشرين الأول 2018، توجه مع أسرته إلى مدينة إسطنبول التركية، وهناك اتفق مع مهرب لنقل كل أفراد الأسرة إلى اليونان مقابل 25 ألف دولار.
وبعد ثلاثة أيام من الاتفاق، توجهوا إلى منطقة ساحلية اسمها “قربولو” تابعة لإزمير.
وبطلب من المهرب، مكثوا في مبنى قديم قرب شاطئ البحر، وبعد حين وصل إلى المبنى أشخاص آخرون بينهم نساء وأطفال جنسياتهم عربية وأفغانية، بالإضافة إلى أسرة كردية من إقليم كردستان، وبلغ العدد النهائي 22 مهاجراً.
طمأنهم المهرب بأنه سيأخذهم إلى جزيرة سياحية يونانية تقع وسط البحر وتبعد أقل من 30 كم عن موقع الانطلاق.
“أخبرنا بأن الرحلة ستستغرق نحو نصف ساعة” تقول مهاباد لـ”جمّار”.
وأخبرهم المهرب أيضاً بأنهم سينتقلون فور بلوغهم الجزيرة إلى زورق سياحي يوناني (يخت) ينقلهم إلى السواحل اليونانية بمنتهى الأمان.
كان الزورق الذي ركبوه مطاطياً وصغيراً لا يتسع لأكثر من عشرة أشخاص، ومزوداً بمحرك متهالك واجه القائد صعوبة في تشغيله.
انتاب مهاباد الخوف والريبة لما رأت حال الزورق، وطلبت من زوجها الانسحاب، لكنه حاول مع المهرب إقناعها بأن كل شيء
سيكون على ما يرام.
ولما أصرت على الرفض، هددها المهرب بالقتل، وسعى زوجها إلى تهدئة التوتر خشية تطور الخلاف إلى ما لا يحمد عقباه، وأقنع زوجته بالركوب.
ارتدى الجميع ستر النجاة البرتقالية وانطلق الزورق.
بطش الأمواج
بعد عشر دقائق من انطلاق الزورق، هبت رياح شديدة وتصاعدت أمواج البحر.
وكلما توغل الزورق في البحر ازداد حجم الأمواج، حتى وصل ارتفاع بعضها إلى نحو سبعة أمتار كما تقدّر مهاباد.
تعالى صراخ الأطفال والنساء، وراح الرجال يرددون الأدعية بأصوات عالية، فانزعج قائد الزورق وهددهم بقلبه إن لم يهدأوا، وطلب منهم رمي الحقائب وكل ما يملكون لتخفيف الوزن.
وفي لحظة فزع وارتباك، حاول القائد الانعطاف بسرعة هرباً من موجة كبيرة، إلا أن الزورق انقلب وسقط كل من على متنه في البحر.
راحت الأمواج العاتية تتقاذف الناس وفرّقت بينهم، وفي لحظة من هذه اللحظات المرعبة، شاهدت مهاباد أن واحدة من الأمواج ألقت زوجها بالقرب منها وكان حياً، فأمسكت بيديه وسألها عن الأطفال، فأخبرته بأنها لا تعرف ما حل بهم.
“كان مجهداً ويتنفس بصعوبة” تقول مهاباد.
اعتذر منها وطلب السماح لأنه أقنعها بخوض هذه المغامرة، وقبل أن تجيبه جاءت موجة كبيرة فرقتهما إلى الأبد.
بقيت طافية في المياه الباردة أكثر من ثلاث ساعات، إلى أن شعرت بأن قدميها تلامسان رملاً رخواً تحت الماء.
أدركت في تلك اللحظة أن الأمواج دفعتها إلى الساحل، فاستجمعت ما بقي من قواها وزحفت نحو اليابسة.
لقد نجت بأعجوبة.
جلست على اليابسة قرابة ساعة تنظر إلى البحر لعله يرمي إليها زوجها وأطفالها أحياءً، لكنها لم تدرك ما تمنت.
لم تعرف في حينها هل أنها في الجانب التركي أم اليوناني، فبدأت السير على غير هدى حتى لاح أمامها مبنى يرفرف فوقه علم تركيا.
كان هذا المبنى مقراً لخفر السواحل التركي.
اتجهت إلى المبنى وأخبرت الموجودين فيه بما جرى، فانطلقت دوريات بحرية تبحث عن الغرقى.
عثرت الدوريات على جثة زوجها وواحد من أطفالها وعدد من المهاجرين الآخرين، لكنها لم تعثر على جثث أطفالها الأربعة الباقين.
أجرت الشرطة التركية تحقيقاً معها ثم نُقلت إلى مستشفى لتلقي العلاج قبل أن تعود إلى زاخو.
وبالتنسيق بين حكومة الإقليم والحكومة التركية، أعيدت جثتا زوجها وطفلها ودفنتا في مقبرة بزاخو.
بعد سنوات، تزوجت مهاباد برجل آخر، وهي تعيش حالياً في ألمانيا مع زوجها الثاني وتخضع لعلاج نفسي هناك.
عبور المانش
يعيش رزكار حسن طيب في مدينة مانشستر البريطانية، لكن رحلته إليها من محافظة دهوك لم تكن سهلة على الإطلاق.
لم يركب رزكار البحر عندما خرج من العراق، لكنه ركبه لاحقاً.
كان رزكار قد سافر قبل عامين مع أفراد أسرته الأربعة، بطائرة من مطار أربيل إلى صربيا وبتأشيرة أصولية.
وبعد مكوثهم أربعة أيام في صربيا انتقلوا إلى ألمانيا بواسطة سيارة عائدة لمهربين عراقي وسوري، واستغرقت الرحلة 16 ساعة في طرق قروية ومناطق نائية.
مكثوا في ألمانيا نحو أربعة أشهر، ورفضت السلطات الألمانية منحهم حق اللجوء، فاضطروا للذهاب إلى بريطانيا عبر فرنسا.
تعاملوا في فرنسا مع مهربين لنقلهم عبر قناة المانش الرابطة بين الأراضي الفرنسية والبريطانية، وجرى الاتفاق على النقل بواسطة زورق مطاطي مقابل ألف يورو لكل فرد.
جاءت لحظة ركوب الزورق، فلاحظ رزكار أن المهرب حشر أكثر من 70 شخصاً فيه، فقرر الانسحاب خشية انقلابه في المياه.
ولكن قبل أن ينسحب، اقترح بعض الركاب زيادة الأجرة إلى 1500 يورو للفرد الواحد مقابل خفض العدد إلى 50 راكباً، واتفقوا على ذلك وقدموا العرض للمهرب فوافق عليه.
انطلق الزورق نحو الشواطئ البريطانية في رحلة استغرقت أكثر من ساعتين، ووصل المهاجرون إلى بلدة دوفر التابعة لبريطانيا.
سلموا أنفسهم إلى الشرطة البريطانية التي حققت معهم ثم نقلتهم إلى مدينة مانشستر التي يقيم فيها رزكار حالياً مع أفراد أسرته.
خاض رزكار كل هذه المتاعب لأنه لم يحصل على عمل مستقر في دهوك بعد تخرجه من الجامعة عام 2013، وعاش في ضنك وفاقة.
وباع كل ما يملك من أجل تمويل رحلة الهجرة إلى أوروبا.
“حصلت على فرصة عمل في مجال البناء بمانشستر وأتمتع الآن بوضع معيشي جيد” يقول لـ”جمّار”.
ولم يحسم القضاء البريطاني ملف لجوئه حتى الآن، لكنه مصمم على البقاء هناك مهما كان الثمن.
مئات رحلوا
تفيد مؤسسة لوتكة المعنية بشؤون اللاجئين والنازحين، ومقرها في محافظة السليمانية بإقليم كردستان، بأن 345 مهاجراً عراقياً من كردستان لقوا حتفهم من 2015 حتى 2024، إضافة إلى فقدان 248 في المدة ذاتها خلال رحلات الهجرة إلى أوروبا.
وتشير إلى أن أكثر من 760 ألف عراقي قدموا طلبات لجوء في بلدان أوروبية خلال هذه المدة ومعظمهم من كردستان.
وبحسب المؤسسة، تراجعت طلبات اللجوء المقدمة من عراقيين إلى الدول الأوروبية خلال العامين الأخيرين بشكل ملحوظ مقارنة بأعوام سابقة.
ففي العام 2023 سُجل 19500 طلب لجوء، وفي 2024 سُجل 23400 طلب، أما في الأعوام من 2015 حتى 2022 فتم تسجيل أكثر من 34 ألف طلب لجوء.
وكان للاتفاقية الأخيرة بين العراق وبريطانيا تأثير كبير في خفض أعداد المهاجرين من إقليم كردستان إلى أوروبا.
وتتضمن الاتفاقية تعاون الجانبين في مجال مكافحة عصابات تهريب البشر، وإعادة المهاجرين العراقيين غير النظاميين إلى بلادهم.
إلى ذلك، يقول بكر علي، رئيس جمعية اللاجئين العائدين، إن الإحصائيات المتوافرة تفيد بأن محاكم البلدان الأوروبية رفضت أكثر من أربعة آلاف طلب لجوء لمواطنين من كردستان في السنوات الأخيرة.
ويضيف لـ”جمّار” أن ألمانيا رحّلت عددا من اللاجئين إلى الإقليم في ظل تشديد الإجراءات الأوروبية إزاء منح حق اللجوء.
ويلفت إلى اعتقال مجموعة من المهربين في ألمانيا وبريطانيا وكردستان، فضلاً عن ترحيل عدد من اللاجئيين من الدول الأوروبية إلى الإقليم على خلفية الاتفاقية العراقية-البريطانية.
ويعزو علي إقبال شباب كردستان على الهجرة لأوروبا إلى سوء الأوضاع الاقتصادية بعد عام 2013 وما حدث من معارك مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والتدهور الاقتصادي الذي رافق ذلك.
ويبين أن كل مهاجر من إقليم كردستان يدفع نحو 20 ألف دولار للمهربين حتى يتمكن من الوصول إلى أوروبا بطرق غير مشروعة.
ويشير إلى أن أغلب المهاجرين هم من الشباب العاطلين عن العمل وخريجي الكليات والمعاهد، موضحاً أن سكنة المدن أكثر إقبالاً على الهجرة من سكنة القرى والأرياف، لأن الأخيرين ينشغلون بالزراعة وتربية المواشي ولا يقعدون عن العمل، كما أن الروابط الاجتماعية ما زالت قوية في المجتمع القروي، ما يشجع على البقاء وعدم التفكير بالهجرة.
ثلاثة طرق
على الرغم من الإجراءات المشددة للدول الأوروبية تجاه الهجرة والمهاجرين، ما زالت الناس يهاجرون من كردستان.
وفي الوقت الحالي، تتوافر ثلاثة طرق لتهريب المهاجرين إلى أوروبا، طريقان بريان وثالث بحري.
يقول أبو آغا، وهو مهرب وافق على التحدث لـ”جمّار” بكنية مستعارة، إن الطريق البري الأول يتم سلوكه مشياً على الأقدام عبر الغابات والمناطق الجبلية، ويبدأ من تركيا مروراً بدول أوروبا الشرقية وصولاً إلى ألمانيا، الوجهة المفضلة للمهاجرين.
وتستغرق هذه الرحلة نحو أسبوعين.
الطريق الثاني يتضمن نقل عدد قليل جداً من الأفراد لا يتجاوز ثلاثة، حيث يتم التعاون مع سائقين لتخبئتهم في حافلات سفر متوجهة من تركيا إلى إحدى الدول الأوروبية المجاورة لها، وتستغرق الرحلة 3-4 أيام.
أما عبر الطريق البحري، فيتم نقل المهاجرين في البحر من تركيا إلى السواحل الإيطالية بواسطة يخوت وزوارق.
ويقول أبو آغا إنه يعمل في تهريب البشر منذ عام 2002، ولم يتعرض لملاحقة من السلطات في أي دولة.
وعن عمليات تهريب العراقيين إلى أوروبا يقول أبو آغا إنها بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي عبر بحر إيجة إلى سواحل اليونان وإيطاليا.
إقامة في الغابات
تشير تقديرات إلى أن أكثر من مليون من أهالي إقليم كردستان يعيشون خارج العراق، وخصوصاً في أوروبا وأميركا وأستراليا وكندا.
ويعود لجوء الكرد العراقيين إلى أوروبا وأمريكا إلى بداية الستينيات من القرن الماضي وما زال مستمراً حتى الآن، وفق ما ذكر إدريس عبوش، عضو لجنة العلاقات الخارجية والجالية الكردستانية في الدورة السابقة لبرلمان إقليم كردستان.
ويرى عبوش أن اللاجئين الكرد في الخارج يشكلون قوة مهمة لمساندة كردستان سياسياً واقتصادياً وثقافياً، مشدداً على ضرورة تنظيم هذه القوة والاستفادة منها لتشكيل مجموعات ضغط للتأثير على صناع القرار في العالم والعمل من أجل مصلحة كردستان.
ويعزو عبوش أسباب استمرار هجرة مواطني كردستان إلى مشكلات عدة، أبرزها المشكلات السياسية والاقتصادية القائمة بين السلطات الاتحادية وسلطات الإقليم.
ويقول عبوش لـ”جمّار” إن ذلك تسبب في تراجع ثقة المواطن الكردستاني بالحكومة الاتحادية، ولاسيما بعدما لجأت بغداد إلى قطع الموازنة ورواتب موظفي الإقليم، ما يشجع على الهجرة بحثاً عن معيشة أفضل.
ويشير إلى أن أعداداً كبيرة من كرد العراق تدفقت على دول أوروبا وأمريكا في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وهؤلاء حصلوا على فرص جيدة وبعضهم تبوأ مناصب حكومية وبرلمانية في تلك الدول.
أما المهاجرون حديثاً، فإنهم يعيشون أوضاعاً سيئة والشرطة تلاحقهم باستمرار من أجل ترحيلهم إلى العراق، وبعضهم مختبئ في الغابات بين فرنسا وبريطانيا، بحسب عبوش.
مهاباد ليست من المهاجرين الذين يعيشون أوضاعاً سيئة، فقد تزوجت برجل يقيم في ألمانيا والتحقت به وحصلت على وضع قانوني مستقر هناك.
غير أنها لا تنسى أن تحقيق “حلم أوروبا” سبقته فاجعة تركت ندوباً في قلبها قد لا يمحوها الزمن أو العلاج النفسي الذي تخضع له حالياً في ألمانيا.