لطالما مثّل الأطفال الحلقة الأضعف في النزاعات، وفي السودان حيث الحرب متواصلة، يُستهدَف الصغار بالقتل والتهجير والتجويع، فيما تُهدَّد صحّتهم، خصوصاً في غياب اللقاحات لحمايتهم من الأمراض.
منذ بداية الحرب في السودان قبل أكثر عامَين، راحت الأضرار تلحق تباعاً بالمنظومة الصحية، بما في ذلك منظومة لقاحات الأطفال، والذين يُعَدّون من بين أكثر الفئات هشاشة في النزاعات. وفي الأسبوع الأوّل للحرب في إبريل/ نيسان 2023، تعرّض المستودع المركزي لحفظ لقاحات الأطفال الأساسية في الخرطوم لأضرار بليغة، الأمر الذي أثّر على سلاسل الإمداد والتخزين التابعة للمستودع في ثلاث من ولايات إقليم دارفور الخمس في غرب السودان؛ ولايات غرب دارفور وجنوب دارفور ووسط دارفور.
وبحلول نهاية العام الأول من الحرب، كانت سلاسل الإمداد والتخزين في ولاية شمال كردفان وولاية الجزيرة وولاية سنار قد تضرّرت بدورها، الأمر الذي تسبّب في خسارة كميات كبيرة من اللقاحات التي كانت مُعَدّة للتوزيع على سلاسل الإمداد الفرعية من أجل تطعيم الأطفال في عشرات المدن والقرى والضواحي.
ويؤكد خبراء أنّ خسارة اللقاحات وما تبعها من حرمان آلاف الأطفال من التحصين خلال العامَين الماضيَين أدّيا إلى ظهور أمراض وأوبئة سبق أن تلاشت من السودان قبل سنوات، وها هي تمثّل من جديد خطراً كبيراً على حياة الأطفال. وتعيد وزارة الصحة الاتحادية في السودان معوّقات توزيع اللقاحات إلى الأضرار التي ألحقتها الأعمال الحربية بالمستودع المركزي الوحيد بالسودان، وبسلاسل الإمداد والتخزين التابعة له في الولايات.
يقول مدير إدارة التحصين التابعة لوزارة الصحة، إسماعيل العدني، لـ"العربي الجديد": "في بداية الحرب، انقطع التيار الكهربائي في الخرطوم، وتوقفت الثلاجات وغرف التبريد بالمستودع المركزي الذي تُحفظ فيه كلّ اللقاحات الخاصة بولايات السودان الـ 18. ولأنّ المستودع يقع على مقربة من المنطقة العسكرية التي اندلعت فيها شرارة الحرب، لم تتمكّن الكوادر البشرية من الوصول إليه إلا بعد محاولات كثيرة. في النهاية، استطعنا إنقاذ نحو 60% من اللقاحات من المستودع، ونقلناها إلى ولايات كسلا (شرق) والنيل الأزرق (جنوب) والجزيرة (وسط)".
وتُبيّن الطبيبة المتخصّصة في أمراض الأطفال، إلهام محمد عبد الله، لـ"العربي الجديد" أنّ "أمراض طفولة عدّة عادت لتسجّل أرقاماً مثيرة للقلق في مناطق سودانية مختلفة"، وتوضح أنّ "عدم حصول الأطفال على جرعة اللقاحات الروتينية في فترة الحرب أدّى إلى ظهور حالات مرضية عديدة يجب أن يتحصّن في وجهها الأطفال من خلال جرعات اللقاحات الوقائية، من بينها الحصبة التي انتشرت في الخرطوم وأمراض في الجهاز التنفسي، إلى جانب أمراض أخرى كانت قد اختفت قبل سنوات طويلة من السودان، لكنّها عادت نتيجة توقّف عمليات التحصين منذ اندلاع الحرب".
وتشير عبد الله إلى أنّ "الوقاية ممكنة" من الحصبة، التي تُوصَف بأنّها من أكثر الأمراض المعدية والتي تسبّب وفيات بين أطفال بالسودان، من خلال اللقاحات، لكنّها تحذّر في الوقت نفسه من أنّها "ما زالت تمثّل خطراً حقيقياً على أطفال السودان".
وأعلن مركز عمليات الطوارئ التابع لوزارة الصحة في مايو/ أيار الماضي، ارتفاع إصابات الحصبة في ثلاث ولايات سودانية هي ولاية شمال دارفور (غرب) ونهر النيل (شمال) والنيل الأبيض (جنوب).
وبعدما كانت اللقاحات الأساسية تُوفَّر مجاناً لأطفال السودان، يلجأ اليوم سكان منطقة جنوب الخرطوم إلى شرائها من السوق السوداء. ويؤكد الناشط حسين مالك، لـ"العربي الجديد": "لم يكن لدى السكان الذين أجبرتهم الظروف على البقاء في المنطقة التي خضعت إلى سيطرة الدعم السريع حتى مارس/ آذار الماضي، حل سوى شراء اللقاحات من السوق السوداء لأطفالهم". يُذكر أنّ سعر الجرعة بلغ ثلاثة آلاف جنيه سوداني في عام 2024، علماً أنّها كانت تساوي حينها نحو دولارَين أميركيَّين، الأمر الذي حرم كثيرين من السكان الذين نفدت مدّخراتهم من تحصين أطفالهم. ويبيّن مالك أنّ "أطفالاً سودانيين كثيرين أُصيبوا بالحصبة التي ما زالت متفشية في المنطقة، حتى بعدما سيطر عليها الجيش السوداني قبل ثلاثة أشهر".
وفي ولاية شمال كردفان التي خضعت لسيطرة قوات الدعم السريع في الفترة بين أغسطس/ آب 2023 ويناير/كانون الثاني 2025، لم يحصل الأطفال في مناطق متفرّقة على أيّ لقاح روتيني. ويؤكد إبراهيم آدم، من وحدة شركيلا الإدارية التابعة لمحلية أم روابة، لـ"العربي الجديد"، أنّ "ثمّة أمراضاً تنتشر بين أطفال المنطقة، علماً أنّنا لم نكن نعلم أنّها مرتبطة بعدم حصولهم على اللقاحات. ووسط تعطّل المستشفيات في المنطقة، لم تُشخَّص الحالات، الأمر الذي أدّى إلى وفاة أطفال". ويفيد آدم بأنّ "المستشفيات، على قلّتها، توقّفت منذ بداية الحرب، والأطباء والكوادر الصحية فرّوا إلى مناطق آمنة لأنّهم معرّضون أكثر من غيرهم للانتهاكات. كذلك لم تظهر الفرق التي كانت تخصّصها وزارة الصحة لتطعيم الأطفال منذ عام 2023".
وفي مخيمات النزوح يعد التفكير في الحصول على اللقاحات ترفاً وسط الاحتياجات اليومية من طعام ومياه، رغم أنّ اللقاحات أولوية كما غيرها من الاحتياجات الملحّة. تقول عائدة خميس، من مخيم كلمة القريب من مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، لـ"العربي الجديد": "الأطفال يحتاجون إلى الغذاء، وعلى مدى الحرب المستمرّة منذ أكثر من 22 شهراً، لم يحصل أيّ طفل على جرعة لقاح. ثمّة مضاعفات كثيرة يعاني منها الأطفال، ولا نعلم هل هي بسبب عدم تحصينهم أم نتيجة الجوع. لا نعرف إلى أين نذهب بأطفالنا من أجل الحصول على الرعاية الصحية والتغذية، وكثيرين يلقون حتفهم، وأطفال كثيرين في المخيم أُصيبوا بالحصبة والإسهال، التي كانوا يُحصَّنون ضدها في السابق، من دون أن تتقصّى أيّ جهة طبية عن الأمر".
في سياق متصل، يقول طبيب في مستشفى النو بمدينة أم درمان لـ"العربي الجديد"، إنّ "ظهور أمراض مثل الحصبة يكشف عن تقصير كبير في توفير اللقاحات للأطفال بصورة دورية". يضيف الطبيب الذي فضّل عدم الكشف عن هويته أنّ "الجهات المسؤولة عن توفير الرعاية الصحية تخلّت عن مسؤولياتها، بحجّة أنّ الأولوية في الوقت الحالي هو للحرب، وهذا ما جعل الخسارة فادحة في أرواح الأطفال وكبار السنّ، بسبب وسط صعوبة الحصول على اللقاحات والأدوية المنقذة للحياة".
ويشير الطبيب إلى أنّ "اللقاحات تُقدَّم مجاناً من قبل المنظمات الدولية، لكنّ الانقطاع المستمرّ في الكهرباء بعدد من مناطق السودان، والهشاشة الأمنية التي تعيق عملية تنقّل الفرق الطبية، وعدم سعي الجهات الحكومية وراء توفيرها وتوزيعها، كلّ ذلك وضع حياة آلاف الأطفال على المحكّ. وعانى هؤلاء من مختلف أمراض الأطفال وتبعاتها، الأمر الذي تسبّب في وفاة كثيرين منهم، كان من الممكن أن ينجوا لو حصلوا على لقاحاتهم في الوقت المناسب".
ويؤكد مصدر طبي في وزارة الصحة بولاية شمال دارفور، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحرب الدائرة أثّرت كثيراً على عمليات التحصين الروتيني للأطفال في الولاية التي تخضع لحصار محكم من قبل قوات الدعم السريع منذ مايو/ أيار 2024". ويبيّن أنّ "الحصبة وشلل الأطفال ينتشران في الولاية التي لم يحصل أطفالها على الجرعات الأساسية من اللقاحات، إلى جانب آلاف الأطفال في المخيمات والقرى النائية الذين لم يُحصَّنوا كذلك منذ اندلاع الحرب".
وفقدت عائلات سودانية عديدة أطفالها لعدم تمكّنها من تحصينهم. في إبريل 2025، فقد موسى آدم طفله البالغ 15 شهراً، بعد معاناته من إسهال مائي والتهاب رئوي استمرّا لأشهر، ويخبر "العربي الجديد" من إحدى القرى الواقعة غربي العاصمة الخرطوم، أنّ ابنه "كان يحتاج إلى التحصين، ولا سيّما اللقاح الخماسي الذي يُزوَّد به الأطفال عادة بعد بلوغهم ستّة أسابيع، وهو مضاد لخمسة من أخطر أمراض الأطفال هي الدفتريا والسعال الديكي والتيتانوس والتهاب الكبد الفيروسي بي وعدوى المستدمية النزلية من نوع بي. عدم تلقّيه اللقاحات إلى جانب سوء التغذية أدّيا إلى وفاته، فيما أتخوّف من فقدان أطفال آخرين حال استمرّ الوضع على ما هو عليه من نقص في الرعاية وعمليات التحصين".
ويقرّ مدير إدارة التحصين بوزارة الصحة إسماعيل العدني لـ"العربي الجديد" بأنّ "النزوح المستمرّ بين السكان وعدم استكمال جرعات اللقاحات أدّيا إلى انتشار أمراض في مناطق من البلاد. يضيف أنّ "ظهور حالة حصبة واحدة مؤكّدة تشير إلى وباء في البلاد"، مبيّناً "تشخيص 15 حالة في ولاية نهر النيل وحالات أخرى في ولاية الخرطوم إلى جانب أربع حالات شلل أطفال في إقليم دارفور". لكنّه يقلّل من خطورة ظهور حالات شلل الأطفال في السودان، قائلاً إنّ "ما شُخّص هو شلل الأطفال المتحوّر الذي لا يمثّل خطراً كبيراً بخلاف شلل الأطفال البرّي".