لم تعد أعداد بائعات الأسماك كما كانت عليه في أسواق العراق، فهي في تناقص مستمر، وقد تحدث بعضهن عن الأسباب.
أومضت ذكريات بعيدة في ذاكرة أم سعد وهي تجهز بسطتها في إحدى أسواق منطقة الشعلة شمال غربي بغداد، وتمنت المستحيل.
لقد تمنت أن يعود الزمن إلى الوراء.
في ما مضى، كان العراقيون يصطادون الأسماك بغزارة من الأنهار والبحيرات والخليج، فكانت هذه التجارة سهلة ومربحة، لكن الظروف تغيرت.
ورثت أم سعد (50 عاماً) مهنة بيع الأسماك عن أبيها وجدها، وكانت في أيام شبابها عندما تذهب إلى مكان البيع بالجملة (العلوة) تحصل على الكمية التي تريدها بسهولة وبسعر مناسب، وعندما تعرضها في السوق تباع كلها.
تشيع بين بائعي الأسماك مفردة “الشروة”، وهي كمية لا تقل عن 30 كغم تشترى من العلوة وتباع إلى المستهلكين في الأسواق.
“كنت أبيع ست أو سبع شروات يومياً، أما الآن فقد لا أتمكن من بيع شروة واحدة كاملة” تقول أم سعد لـ”جمّار”.
وتعزو سبب ركود هذه التجارة إلى أن الحصول على الأسماك صار صعباً ومكلفاً، فهي تشتري الكيلوغرام من العلوة بمبلغ 7500 دينار، وبالتالي تواجه صعوبة في بيع أسماكها للمستهلكين مع ربح بسيط لأنهم يرونها عالية الثمن.
أما في الماضي، فقد كان حصولها على الأسماك أسهل بكثير، بل أنها كانت تصطاد بنفسها عندما كانت في ريعان شبابها.
كانت تذهب إلى أقرباء لها في الأهوار وتقضي أياماً هناك تصطاد الأسماك، ثم تأتي بها إلى بغداد وتبيعها وتحصل على ربح وفير.
لكن شح المياه وتدهور أحوال الأهوار والأنهار وما فيها من أسماك، أدى إلى تراجع الصيد بشكل كبير، وبات الاعتماد شبه كلي على سمك الأحواض المعروف بـ”الكارب”.
وربما لأن إنتاج “الكارب” محتكر من قبل أطراف محدودة ولا يخضع لمبدأ التنافس، صار التحكم بسعره ووفرته أسهل من ذي قبل.
وقد يكون هذا سبب معاناة أم سعد عندما تذهب إلى العلوة لشراء السمك، فهي لا تلقى معاملة حسنة ولا حيزاً للتفاوض.
رحلة مضنية
تستيقظ أم سعد يومياً الساعة الثالثة فجراً، تتوضأ وترتدي عباءتها وتتوجه إلى العلوة بمفردها، وأحياناً برفقة صديقتها أم محمد التي تعمل في بيع الأسماك أيضاً.
وتقول إنها اعتادت أن تتوضأ قبل الخروج تحسباً لأي مكروه قد يصيبها في الطريق.
وعندما تكون أم محمد برفقتها تشعر بأن هناك من يساندها، فالطريق موحش وقت خروجها ويصعب توافر حافلات النقل العام.
وهي لا تستطيع التنقل بسيارات الأجرة (التاكسيات) لأن ذلك مكلف بالنسبة لها، فتمرّ أحياناً نصف ساعة وهي واقفة في الشارع تنتظر “الكيا”.
وبينما تأتي الحافلة الصغير (الكيا) وتصل إلى العلوة، تكون قد مرّت ساعة ونصف ساعة أو أكثر، ومن ثم تبدأ معاناة أخرى.
في العلوة تتزاحم أم سعد مع الباعة والمشترين وتكافح أغلب الأحيان مناخاً قاسياً شديد البرودة أو الحرارة، ما يقتضي اختيار الشروة بسرعة ومراقبة الكمية بيقظة، لأن الغش في الوزن شائع هناك.
لكنها قد تستغرق ساعات للحصول على شروتها، فنظام البيع في العلوة قائم على المزايدة، إذ يبدأ سعر الكيلوغرام الواحد بألف دينار ويتوالى المشترون على رفعه حتى يستقر عند حد معين.
“لا يقبلون التفاوض في العلوة ولا يخفضون شيئاً من السعر النهائي على الإطلاق، ومن لم يعجبه السعر لا يحصل على شيء لأن غيره سيشتري”، تقول لنا.
بعد الشراء، تقوم أم سعد باستئجار تاكسي أو “تك تك”، بحسب كمية الأسماك التي بحوزتها، وتنقلها إلى السوق، حيث تعرضها حية أمام المشترين في حوض مياه.
في بعض الأيام، تكون قد باعت كل ما بحوزتها بحلول الساعة الثالثة عصراً، وفي أيام أخرى تضطر إلى البقاء حتى غروب الشمس لتبيع بضاعتها، لكنها أحياناً لا تتمكن من بيع جميع ما بحوزتها فتخزنه إلى اليوم التالي.
ومن كل هذه المتاعب، لا تحصل أم سعد في النهاية على أرباح مرضية كتلك التي كانت تحصل عليها عندما كانت تتاجر بالأسماك المصطادة مثل “البني” و”الكطان” و”الشبوط” و”السمتي” و”البياح”، فهذه الأصناف باتت عملة نادرة وباهظة.
ويقول حاتم فيصل الجبوري، معاون مدير عام دائرة الثروة الحيوانية لشؤون الأسماك في وزارة الزراعة، إن أعداد الأسماك النهرية انخفضت من أكثر من 96 مليون طن في 2021 إلى نحو 38 مليون طن في 2023.
أما البحرية فانخفضت من أكثر من تسعة ملايين طن إلى نحو مليون طن في المدة ذاتها.
ويشير الجبوري في تصريح لـ”جمّار” إلى أن “هذا السبب في ارتفاع أسعار الأسماك بين الماضي والحاضر”.
ومن جانبه، يحذر الخبير الزراعي عادل المختار من موجات نفوق أكبر بين الأسماك مع استمرار أزمة المياه.
ويقترح المختار حلولاً عدة لإنقاذ الثروة السمكية، مثل تطوير تربية الأسماك في الأقفاص المكثفة لتقليل الاعتماد على الصيد التقليدي، إضافة إلى إعادة تأهيل البحيرات المتضررة وتحسين إدارة المياه.
كما يشدد على ضرورة إدخال تقنيات حديثة في الصيد وتشديد الرقابة على الأسواق، لحماية العاملين في هذا المجال وضمان عدالة التوزيع.
وفي السياق، يفيد رعد الأسدي، رئيس منظمة الجبايش للسياحة البيئية، بأن نساء كثيرات هجرن مهنة بيع الأسماك بسبب الجفاف والتصحر.
وبحسب الأسدي، انخفضت نسبة العاملات في بيع الأسماك بنحو 70 إلى 80 بالمئة.
وتؤكد أم سعد تناقص أعداد بائعات الأسماك في السوق، فقبل أكثر من ثماني سنوات كن كثيرات ومتجاورات، لكنهن اليوم يمكن عدهن بأصابع اليد الواحدة.
وتفكر هي الأخرى بترك هذه المهنة والبحث عن غيرها كما فعلت ابنة عمها سميرة.
وكانت سميرة، وهي في نهاية الأربعينيات من عمرها، تعمل ببيع الأسماك في السوق ذاتها لإعالة أطفالها بعد وفاة زوجها، لكنها تركت هذا العمل واتجهت إلى بيع الألبان في سوق أخرى إثر تدهور تجارة السمك وانحسار أنواعه.
غش وخسائر
الخسارة ليست وحدها ما يثقل كاهل بائعات الأسماك، فهناك من يضاعف الهم والألم ويمارس المكر والخداع معهن.
أم عقيل (52 عاماً) تتحدث لـ”جمّار” عن معاناتها من الغش في العلوة، فهي مثلاً تشتري الكيلوغرام بـ6750 ديناراً، ثم تكتشف أن كل شروة ينقصها كيلوغرامان، وهكذا يرتفع سعر الكيلوغرام إلى 7500 دينار.
“بكم أبيعه وكم أربح في هذه الحالة؟” تتساءل.
في السابق، كانت أم عقيل تنهي بيع السمك قبل الظهر، أما الآن فتعود إلى منزلها بكمية لم تجد من يشتريها.
وتفيد بأنها تخسر نحو 60 ألف دينار كل يومين أو ثلاثة، علاوة على الخسارة والغش في الميزان.
وبسبب كل ذلك، تقترب أم عقيل بسرعة من اليقين بعدم جدوى هذه التجارة.
كما أنها فقدت الأمل في عودة الأسماك إلى سابق عهدها وأسعارها وسهولة الحصول عليها.
وهي على الرغم من كل شيء، تتحمل متاعب الذهاب إلى العلوة كل يوم ولا تسمح بمساعدة من أولادها، إذ تخشى عليهم من خطورة الطريق وتحذر من تعرضهم لغش أكبر بسبب صغر سنهم.
وكذلك تخشى عليهم من حدوث مشاكل وشجار مع البائعين في العلوة “لأنهم لا يمتلكون أسلوباً جيداً في التعامل” كما تقول.
وهي مع كل ذلك، ما زالت صابرة وتواصل العمل على أمل تحسن الأوضاع، وفي الوقت ذاته وضعت خطة بديلة للتوجه نحو خيار أفضل إذا ذهبت الأمور نحو مزيد من التدهور.
وكذلك تتحمل أم سعد شتى الظروف والصعاب مرغمة، فزوجها مقعد ويتعين عليها إعالة أسرتها وأسرتي ابنيها الكاسبين اللذين يواجهان صعوبة بالغة في توفير احتياجات زوجتيهما وأطفالهما.