مئة عام على صدور 5 أعمال أدبية كبرى أسست حداثة القرن العشرين
نشر بواسطة: mod1
الأربعاء 02-07-2025
 
   
المجلة

كافكا وفرجينيا وولف وهمينغواي وفيتزجيرالد ودوس باسوس

ماذا لو نفذ ماكس برود وصية صديقه فرانز كافكا، وأحرق مخطوط روايته "المحاكمة"، كما طلب منه ذلك؟ في البداية، تبدو هذه هي الخيانة الوحيدة التي قد يشفع لها مجتمع القراء، ذلك أن تنفيذ الوصية كان سيحرم الناس في المائة سنة الأخيرة من مطالعة أحد أهم الأعمال الأدبية غرابة وسحرا، وهي الرواية التي يحتفل العالم اليوم بمرور مئة عام على صدورها. والمصادفة أن ثمة أكثر من عمل أدبي صدر سنة 1925، وتحل هذا العام ذكراها المئوية. وهي أعمال أدبية مفصلية وفارقة في تاريخ القصة والرواية، شكلت ولا تزال منعطفات سردية كبرى.

في هذا المقال نعيد تقليب صفحات وأوراق هذه الروايات، نعيد "محاكمة" كافكا، مثلما نجدد قراءة رواية "السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف، ورواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد، و"تغريبة مانهاتن" لجون دوس باسوس والمجموعة القصصية الأولى لإرنست همينغواي "في زماننا".

"محاكمة" كافكا

في الثالث من يوليو/ تموز صيفَ كل عام، تشهد مدينة براغ احتفالات رسمية كبرى، حيث يذرع الناس شوارع المدينة، في يوم الثلاثاء هذا، والمخصص للرقص والغناء. في السيرة التي وضعها راينر شتاخ لحياة فرانز "كافكا.. السنوات الأولى"، يقول المؤلف إن هذا اليوم "سوف يدون في السجلات السنوية لمدينة براغ، لسببين: سبب رسمي ظاهر، وآخر مخفي مبدئيا"، إنه يوم ميلاد فرانز كافكا، عبقري الرواية التشيكية بلا منازع.

ورغم الطابع الغرائبي لروايته "المسخ"، وجمال الصنعة الروائية في "القلعة"، تبقى روايته الكابوسية "المحاكمة" أشد أعماله قدرة على التجديد والتجريد والاختلاف. كيف لا وهي آخر ما كتب، ولم تنشر إلا بعد وفاته، حين خالف صديقه ماكس برود وصيته، وقرر نشر الرواية بعد سنة من وفاة الرجل يوم الثلاثاء 3 يونيو/ حزيران، الذي كان ولد يوم الثلاثاء 3 يوليو سنة 1883.

منذ البداية يضعنا الرقم 3، في حياة كافكا، أمام مصادفات غريبة. بدأنا بالسؤال: ماذا لو نفذ ماكس برود وصية صديقه فرانز كافكا، وأحرق روايته "المحاكمة"، كما طلب منه ذلك، ولم ينشرها؟ سوى أن السؤال الثاني سيكذّب السؤال الأول، وهو قولنا: لماذا لم يحرق كافكا نفسه روايته ويتلفها؟ هل كان المرض ليمنعه من ذلك طوال هذه المدة؟ هل أراد كافكا أن يمنح روايته شهرة خاصة من خلال هذه الوصية؟ أم أنه لا وجود لوصية أصلا، وأن القصة كلها من اختلاق صديقه ماكس برود، الذي فرض نفسه وصيا على تراث كافكا، بحثا عن الشهرة، ولأغراض مادية وسياسية ودينية توقف عندها روائي تشيكي آخر لعله الوارث الشرعي والشعري لكافكا، هو ميلان كونديرا. ففي كتابه "الستارة"، يلمح كونديرا إلى أن ماكس برود أساء كثيرا الى كافكا، مثلما أساء شرحه، ليس لأنه خالف وصيته، بل لأنه اختلق كل هذه الحكاية.

حسب كونديرا، فإن "الروايات الثلاث لفرانز كافكا هي ثلاثة تنويعات للحالة ذاتها: يدخل الإنسان في نزاع، لكن ليس مع إنسان آخر، بل مع عالم استحال إلى إدارة هائلة".

في رواية "المحاكمة"، صبيحة يوم الثلاثاء، دائما، يُعتقل جوزيف. ك، دون اقتياده إلى السجن، ويعرض على المحاكمة بعد ذلك. يأتي شخصان ويبلغانه بقرار الاعتقال وتنفيذه، مع تركه حرا طليقا ومتابعا مضطهدا في الوقت نفسه. ولعل بطل الرواية الذي يختصره ويختزله كافكا في حرف واحد هو "ك" يوحي لنا بأن المقصود هو كافكا نفسه. وإن كان النقاد أهملوا هذه التفصيلة وابتعدوا عن إعمال هذا القياس. إنها سردية الإنسان المعاصر في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث الإنسان ضحية البيروقراطية والتحكم، كما تتجلى في موظف بنكي بسيط اسمه جوزيف. ك. الإنسان الذي ما عاد حرا، لأنه صار خاضعا للمؤسسة واستحال إلى رقم من أرقامها الكثيرة والمكررة. وكثيرا ما ألمح كافكا إلى رغبته في التحرر من كل سلطة أو مؤسسة، بدءا بسلطة الأب وسلطة المدينة والدولة. ولكن، أنى له أن يتحرر، وهو يفرض على نفسه رقابة ذاتية، ويعتقل وجوده في مواضعات وأعراف وضوابط الحياة اليومية. عبر أحداث مرعبة ومواقف مفجعة وأخرى تطبعها سخرية سوداء، تنتهي الرواية بمقتل جوزيف. ك بطعنة من أحد الشخصين اللذين تكلفا متابعته واعتقاله. "وقال ك وهو يلفظ آخر أنفاسه. ها أنا أموت مثل كلب حقير". لتنتهي الرواية وقد مارس كافكا ذلك التحول الذي افتتح به رائعته الأخرى "المسخ"، حين يتحول الفرد إلى مجرد حشرة تحت سلطة الأسرة وسطوة المؤسسة. رواية "المحاكمة" مزج سردي بين العجائبية والسوريالية والسخرية السوداء، برمزية دالة وواقعية معبرة. أسلوب روائي بهر النقاد والروائيين الذين استلهموا هذه "الكافكاوية"، وقد غدت مصطلحا أدبيا وتوصيفا نقديا لمذهب مختلف في الكتابة الروائية.  

"السيدة دالاوي": يوم روائي

عام 2025 هو العام الذي تجري فيه الوقائع الكاملة لرواية "السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف. المصادفة العجيبة أنها تجري كذلك في يوم من أيام يونيو. وسيكون مرعبا حقا إذا علمنا أنه يوم ثلاثاء. رواية تقودنا منذ الصباح إلى جولة في العاصمة لندن، تقوم بها السيدة كلاريسا دالاوي بعد عشر سنوات على الحرب العالمية الأولى، انطلاقا من شارع بوند الذي يفتنها، كما جاء في الرواية. بينما كانت كلاريسا تستعد لتنظيم سهرة في نهاية هذا اليوم الاستثنائي. تستعيد، وهي تعبر ما بين الزهور والأمكنة، مجموعة من الوقائع والأحداث، والقصص المتقاطعة. يحدث كل ذلك من خلال التداعي الحر للأحداث والمشاهد، وعبر مونولوغ طويل ومنسرح، في رواية اعتبرها النقاد فاتحة كبرى لما عرف بـ"تيار الوعي" في الرواية، إلى جانب أعمال مارسيل بروست وجيمس جويس. لكن النبرة المتألمة للكاتبة الإنكليزية فيرجينيا وولف جعلها تتميز عن هؤلاء، مثلما  "تميز كافكا عن سابقيه، بل حتى عن معاصريه، من أمثال بروست وجويس"، يقول ميلان كونديرا في كتاب "الستارة".

في الضفة الأخرى من الرواية نتابع حكاية السيد سيبتيموس، الذي أصيب بمرض غريب، وقرر المسؤولون نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية. وحين وصل المكلفون بإحالته على المستشفى، سيختار سيبتيموس الانتحار، ليضع لنفسه نهاية أفضل من أن ينتهي به العمر بين المجانين. نهاية تذكرنا هي الأخرى بنهاية جوزيف. ك في "المحاكمة". هنا حيث يصبح الموت عناقا أبديا للحرية المطلقة.

جمالية أخرى تطبع هذه الرواية الخالدة، تكمن في القدرة الفاتنة على تأطير المشاهد الروائية. فكثيرا ما نجد فرجينيا وولف تستعمل عبارة "تجمع العابرون" أو تحلقوا حول كذا، وتجمعت النساء في دكان بيع الورود... لتنقل بذلك المشهد/ الحدث، ولتجمع في النهاية الكل في السهرة الختامية لذلك اليوم الروائي الطويل، بمن في ذلك زوجها وعاشقها الذي عاد من بعيد. إنه انتقال من الكولاج إلى "الكادراج" من خلال أسلوب روائي أخاذ يشد إليه القارئ ويأسره طوال يوم كامل الأوصاف. عمل يكشف لنا قدرة الرواية التي لا تمل من الخوض في التفاصيل والتشويق والتمطيط والإسهاب والتعمق، مقابل كثافة القصة القصيرة، كما سنقف عندها في نهاية هذه المقالة، مع قصص همنغواي.  

الأدب العظيم

يتفق الكثير من مؤرخي الأدب المعاصرين على أن أهم مرحلة شهدتها الرواية في أميركا الشمالية بدأت عام 1925، وإلى حدود سنة 1940 تقريبا. وهي المرحلة التي أرخت تحت مسمى "مرحلة الأدب العظيم". ثم ما بعدها، سوف ينتقل لواء الرواية ومشعلها إلى أميركا اللاتينية.

مرحلة تذكرنا بعنوان رواية عظيمة اسمها "غاتسبي العظيم" لمؤلفها فرنسيس سكوت فيتزجيرالد، وقد صدرت هي الأخرى سنة 1925. رواية أجمع النقاد على وصفها بأنها "أجمل قصة أميركية في القرن العشرين". وإذا كانت كلاريسا دالاوي دعتنا إلى حفلة عشاء واحدة تتوج يومها الروائي الطويل، فقد اختار غاتسبي أن يدعو أصدقاءه وأعيان بلده إلى سهرات يومية وليلية لا تنتهي. غاتسبي، إنه الاسم المستعار أو السري لرجل غريب الأطوار، يقيم حفلات كبرى في قصره الفسيح، حيث يلتقي شباب وشابات لتنشأ علاقات بين أفراد يسعى كل واحد منهم إلى أن يمثل نموذج الشخصية الأميركية لما بعد الحرب العالمية الأولى. وفي طليعتهم غاتسبي، الذي يمثل أحلام جيل العشرينات من القرن الماضي، والذي سمي تجاوزا "جيل الضياع"، بينما هو جيل أقبل على الحياة بعدما كان على مشارف الموت، أو لنقل إنه جيل عائد من الموت، انغمس في الحياة من جديد، وأدمن ملذاتها وسياراتها وأشياءها الثمينة والفاخرة، وتردد على حفلات الموسيقى، خاصة موسيقى "الجاز" التي تحتفي بها رواية فيتزجيرالد. "الجاز" يمثل عنوان تلك المرحلة الأميركية، وهو ما يشدد عليه الروائي، حين تحدث قائد الأوركسترا في سهرة من سهرات غاتسبي، في الفصل الثالث من الرواية، عن وجود قطعة موسيقية بعنوان "تاريخ العالم بالجاز". وهي قطعة موسيقية متخيلة لا أثر لها في ريبيرتوار "الجاز" العالمي، ولكنها ترمز إلى استحواذ "الجاز" على مسامع الناس في تلك الحقبة. وما بين الأنغام والأجساد التي تتراقص في هذه الحفلات، والأرواح التي تحلق في قصر غاتسبي، سيظل هذا الأخير سرا مستغلقا يحاول المدعوون فهمه، فمن قائل إنه قتل شخصا ما، إلى من يقول بأنه محتال، إلى من انتهى، وتلك هي الحقيقة، إلى كونه تاجر خمور مهربة، استفاد من قرار منع الخمور سنة 1919 في الولايات المتحدة الأميركية، ليكسب من وراء التهريب ثروة طائلة.

لكن القاتل في الرواية هو الحب، حيث سيتعرف غاتسبي الى ديزي من جديد، وهي ابنة عم نيك كاراواي، راوي هذا العمل الأدبي الخالد. لكن ديزي كانت تزوجت منذ خمس سنوات، حين فارقت غاتسبي الذي لم يستطع الزواج بها، لأنه كان فقيرا. وهنا سينشأ صراع بين غاتسبي وزوجها طوم بوكانان. وبينما كانت ديزي هي التي تقود سيارة غاتسبي الصفراء المكشوفة، في ليلة صاخبة، سوف تصدم ميرتيل ويلتون، زوجة جورج ويلسن، لتفارق الحياة. وبإيعاز من كونان، وبكيد منه عظيم، سوف يخبر ويلسن بأن السيارة التي دهست زوجته هي سيارة غاتسبي العظيم. وهكذا، سوف يتسلل ويلسن إلى قصر غاتسبي ليطلق عليه رصاصة قاتلة، قبل أن يطلق النار على نفسه.

رواية تحكي أيضا مفارقات وصراعات أخرى، من قبيل فارق الحياة ما بين الضفة الغربية من نيويورك، التي هي ملاذ الفقراء، والضفة الشرقية، مستقر الأثرياء. مثلما تحكي الرواية صعود خطاب الكراهية والتمييز العنصري، من خلال خطاب يكرس نظرة عنصرية للبيض تجاه السود في المجتمع الأميركي، كما يرد ذلك في تضاعيف هذه الرواية وأحداثها المروعة. قُتل غاتسبي في ريعان و"زيغان" شبابه، في الثلاثين من العمر. وكان القرن العشرون لا يزال أكثر شبابا، لكن الكثير من الأحلام ماتت مع غاتسبي وأمثاله. و"لو أنه عاش لصار رجلا عظيما، ولصار مثل جيمس. جي. هيل، ولكان أسهم في بناء البلاد"، كما جاء على لسان الراوي في الفصل التاسع والأخير.

ورغم تسارع الأحداث وانسياب السرد الروائي، وقوة الحبكة، إلا أن الرواية كثيرا ما تهز القارئ بشاعرية اللغة الروائية، التي تغريه وتغويه وتؤكد له أهمية الشعر في التسلل إلى أعماق النفس البشرية، في تقديم الشخصيات ورسم الفضاءات وتقدير الأحداث وفهم الأقدار والاختيارات.

رواية المتروبول

ثمة رواية أخرى صدرت سنة 1925، وتقف شاهدة على التحول الذي عاشته نيويورك في تلك المرحلة الفارقة من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين. وما بين الحرب العالمية الأولى والثانية. فهي رواية ما بين القرنين وما بين الحربين. إنها رواية "مانهاتن ترنسفير"، تحويلة أو تغريبة مانهاتن، لجون دوس باسوس. بل هي أهم أعماله على الإطلاق، وإحدى أهم روايات القرن العشرين. نص روائي كبير تتداخل فيه مجموعة من قصص المهاجرين والفلاحين والعاشقين والاشتراكيين الحالمين، وتلتقي وتتقاطع في هندسة هذه الرواية. بين سرد هذه القصص والحكايات يتنقل الراوي بحرية تفاجئ القارئ، متخطيا بذلك أسلوب السرد الكلاسيكي. "مانهاتن ترانسفير" تنتمي هي الأخرى إلى النصوص المؤسسة لتيار الوعي في الكتابة، على غرار رواية "السيدة دالاواي". وهي رواية جديدة في عهدها، كونها لا تركز على بطل واحد، تقليدي، بل يتعلق الأمر بأبطال كثيرين، جلهم أبطال مهزومون، وحالمون كبار، مثل إد تاتشر وجيمي هيرف وبود كوربينينغ وأوغاستيس ماك نيل وداتش وفرانسي، إلى درجة أن بعض النقاد سيعتبرون أن مدينة نيويورك هي البطل الحقيقي في هذه الرواية، مثلما اعتبروا الرواية مرآة حقيقية لواقع نيويورك.

هذه الواقعية الجميلة هي ما تؤكده تقنيات كتابة الرواية وأساليبها الفنية، ومن ذلك توظيف القصاصات الصحافية وغيرها، مما يمنح الرواية مرجعية وسندا في الواقع واليومي الأميركي حينها. أكثر من ذلك، تستشرف هذه الرواية المستقبل وهي تدين توجه المجتمع الأميركي نحو نزعة استهلاكية جارفة، كما تصور ذلك مجموعة من المحكيات والأحداث في "تغريبة مانهاتن"، بعد انتقال شخوصها وانغماسهم في المجتمع الحضري لمدينة نيويورك.

إنها "رواية المتروبول"، رواية المدينة الكبرى، التي ترمز اليها نيويورك، على غرار باريس ولندن ومدريد... مجمع الهويات والشخصيات الآتية من كل حدب وصوب، منهم من وصل مصادفة، ومنهم من استقل القطار نحو ضجيجها وصخبها مثل جيمي هيرف، ومنهم من قدم عبر قارب كما هو شأن بود كوربينينغ، ومنهم من هاجر من بلاد بعيدة أو قارة أخرى، ومنهم من ساقته أقداره قبل أقدامه إليها، ليلتقي الجميع ويتيه ويضيع في الزحام. كما تصور لنا هذه الرواية بحبكة وإحكام علاقة أغنياء وأثرياء نيويورك مع هؤلاء المهاجرين الوافدين، وأشكال استغلالهم وازدرائهم.

ورغم أنها صدرت في كتاب أو مجلد واحد، إلا أنها موزعة على ثلاثة أجزاء، ساهمت في بناء العالم الروائي المشيد من قصص وحكايات كثيرة. وهي قصص تحكي كيف أصبح إنسان القرن العشرين في نيويورك كائنا قزما أمام ناطحات السحاب، كما جاء في الفصل الذي يحمل عنوان "ناطحة السحاب"، حيث "خرج جيمي هيرف، وقد أصبح بلا عمل، من مبنى "البوليتزر". وقف بجانب كومة من الصحف الوردية على الرصيف يأخذ أنفاسا عميقة، ناظرا لأعلى البرج المتلألئ لمبنى وول روث... سار شمالا عبر المدينة ذات النوافذ اللامعة، عبر المدينة ذات اللافتات المختلطة الأبجديات".

القصة أمّ الرواية

انطلاقا من مورفولوجيا الأجناس الأدبية، أمكن القول إن القصة هي أمّ الرواية، لذلك ليس غريبا أن يبدأ إرنست همينغواي، وهو أحد أهم الروائيين الأميركيين، بكتابة القصة. حدث ذلك في سنة 1925 أيضا، حين أصدر مجموعته القصصية "في زماننا"، التي اعتبرت فاتحة كبرى لمشروعه الروائي الكبير، الذي استهله في العام الموالي 1926 بإصدار روايته الأولى "ثم تشرق الشمس"، ثم ستأتي بعدها رواية "وداعا ايها السلاح" ثم رواية "لمن تقرع الأجراس"، وصولا إلى رائعته الأخيرة "الشيخ والبحر"، التي صدرت سنة 1952، ليتوج في العام التالي بجائزة نوبل للآداب. وكان قرار اللجنة واضحا حينها، حين وصف همينغواي بأنه "الكاتب الذي انتهت إليه السيادة في فن السرد".

همينغواي هذا هو صديق سكوت فيتزجيرالد، وقد سافرا معا إلى فرنسا بعدما كتب الأول رواية "غاتسبي العظيم"، وكتب الثاني مجموعته القصصية الأولى "في زماننا"، ثم ما بعدها سيعيش تجربة الحرب العالمية الثانية، بكل آلامها، هو الذي قال وداعا للسلاح، وأشهر قلمه في وجه هذا العالم. وهو الذي يعلن منذ قصته الأولى معنى الكتابة والكلام عنده، قائلا: "إن الكلام يخفف عني كثيرا"، في قصة تحكي سيرة هارب من الجندية، مثلما تقدم سردية الحرب العالمية الأولى على لسان شخصيات تقاذفتها أهوال الحرب. ورغم الطابع الواقعي لقصص همنغواي، فإنه يقدم حكاياته بشاعرية مترفة، ويبرع في وصف الطبيعة ويجعلها لوحة فنية وخلفية تتساوق مع أحداثه وتحتضنها. كما في القصة الأولى، أو الثانية تحديدا، رغم أنها تحكي قصة عشق دفين بين ليز وجيم. وهي القصة التي تمثل نموذجا رفيعا لمعنى التكثيف وجمالياته في القصة القصيرة. وهو التكثيف الذي يصل مداه في قصة "على الرصيف في سيمرينا"، حين يتمادى همينغواي بشاعريته في وصف الحرب والرعب، مع قصص النساء اللواتي يحملن أطفالهن الموتى على رصيف الحياة. إنها قصص خارجة للتو من طقوس الحرب، أبطالها جنود وضباط وجيوش وجروح وقتلى وسفن وإطلاق نار وطائرات، وأحداثها معارك وقصف، وفضاءاتها جبهات وسماوات لا تهدأ. إنه صدى حرب عالمية، ولذلك، فشخصيات همينغواي في مجموعة "في زماننا" أميركيون وألمان ونمساويون وفرنسيون وأتراك وإيطاليون وهنود، في عالم كان يتهجى لغة واحدة هي لغة الموت. وأبطال كاتبنا على غرار صديقه فيتزجيرالد لا يطفئ نارهم غير الإقبال على الشراب لنسيان واقع قاتم.

وبينما يخيم معجم الحرب على عوالم همينغواي، تصبح استعاراته وتشبيهاته نفسها من الحقل الدلالي للحرب والدمار، كما يرد في إحدى قصص المجموعة، وهو يصف مشهد صيد سمكة التروتة: "وحينما برز ظهر التروتة فوق الماء قفز سمك المينوة بعنف وتناثرت هذه الأسماك على سطح الماء مثل تناثر قذائف صغيرة قُذف بها في الماء".

وإذا كانت القصة أُمَّ الرواية، فماذا عن القصة القصيرة جدا؟ يبدو هذا التساؤل غريبا، قبل أن نقلب الصفحة 133 من المجموعة القصصية، حيث تطالعنا قصة بعنوان "قصة قصيرة جدا"، وهي بالفعل قصيرة جدا، وفي حدود ثلاث صفحات، قياسا إلى قصص أخرى طويلة، حيث جاوزت الأولى الأربعين صفحة، بينما وردت أخرى في سبع أو عشر صفحات وهكذا... قصة أرادها همينغواي بنهاية مفتوحة وبرمزية دالة، وهي ترد على لسان شخصيته المفضلة "نيك"، الذي يذكرنا بنيك كراواي، الراوي في رائعة "غاتسبي العظيم".

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced