في القرن التاسع عشر، كانت الحفلات الراقصة المنظمة بعناية عنصرا مهما في حياة المجتمع الروسي الأرستقراطي، تُراعى فيها قواعد الإتيكيت، والاهتمام بالأزياء، وفن الرقص، دون أي تساهل أو انحراف. وكان دور الرقص مختلفا اختلافا كبيرا عن وظيفة الرقص في حياة عامة الناس في ذلك العصر، وكذلك عن دوره في العصر الحديث. ونجد أوصاف تلك الحفلات في العديد من نصوص الأدب الروسي الكلاسيكي: الموسيقى الجميلة، والفساتين الرائعة، وقاعات القصور الفارهة، وغيرها من ظواهر الطبقة الأرستقراطية، لم تكن الحفلات الراقصة مجرد ترفيه؛ بل كانت أيضا مكانا للتواصل غير الرسمي، حيث كان بإمكان ضابط شاب من رتبة أدنى، بارع في الرقص وتسلية السيدات، أن يشعر بتفوقه على جنرال مُسنّ. كان بإمكان الرجال والنساء التفاعل مع بعضهم بعضا، دون خوف من النميمة في المجتمع. وقد تميزت حفلات الرقص الأرستقراطية عن الرقصات التقليدية بالوقار المتزايد، والآداب الصارمة، والرقصات الكلاسيكية التي يتم أداؤها بترتيب مُحدد.
من خلال وصف الرقصات، يستطيع المؤلف تقديم شخصية جديدة، ورسم مسار جديد للحبكة بسلاسة، وإبراز أهمية الأحداث التي تجري خلال الحفل، أو الكشف عن شخصية البطل من منظور جديد. في مثل هذه المشاهد، يستطيع القارئ فهم العلاقات بين الشخصيات، وسماتهم الرئيسية، وأهدافهم الحياتية بشكل أفضل. رغم تباين مواقف كبار الكُتّاب الكلاسيكيين الروس تجاه الحفلات الراقصة، إلا أنها لعبت دورا مهما في حياتهم وأعمالهم.
يرى العديد من أبرز الكُتّاب والنقاد العالميين، أن رواية «آنّا كارينينا» ـ تحفة أدبية من حيث عمق التعبير وجمال الشكل الفني، وقد استُوحي منها أكثر من 40 فيلما وعشرات المسرحيات وعروض الباليه في مختلف بلدان العالم. تكمن خصوصية هذه الرواية في تصويرها الفريد للشخصيات والأحداث عبر لغة الرقص، التي تتحول إلى وسيلة تعبير رمزية عميقة، تكشف الانفعالات والصراعات الخفية، وتضفي على السرد بعدا جماليا ونفسيا بالغ التأثير. لغة الرقص غالبا ما تُعبّر عن أكثر من مجرد كلمات بسيطة. ماذا كانت تُخفي حفلات الرقص وراء أضوائها وأنغامها؟ وكيف أثّرت مشاهد الرقص في الأحداث اللاحقة؟
يُمثل مشهد الحفل الراقص في موسكو لحظة محورية تُغير مسار حياة عدد من الشخصيات الرئيسية، فرونسكي، الذي كان يُغازل كيتي في البداية ويُغريها على ما يبدو، يتخلى عن سعيه وراءها في الحفل، ويختار بدلا من ذلك الرقص مع آنا وإغداق الاهتمام عليها، ما يشكل صدمة مؤلمة لكيتي، التي كانت تتوقع من فرونسكي أن يتقدّم لخطبتها، غير أن رقصه مع آنا واهتمامه بها يبدّدان آمالها ويتركانها جريحة ومُهانة. آنا، التي استمتعت في البداية باهتمام فرونسكي وإعجابه بها، تُدرك الخطر المُحتمل والعواقب الاجتماعية المترتبة على انجذابهما المُتزايد. فتُقرر العودة إلى سانت بطرسبرغ هربا من هذا الوضع، ولكن علاقتهما تتوطد خلال رحلة عودتهما بالقطار معا. يُسلّط مشهد الحفل الضوء أيضا على التسلسل الهرمي الاجتماعي وأهمية المظاهر. فطريقة اختيار النساء للرقص، وكيفية التدقيق في مظهرهنّ، تكشف عن الديناميكيات الاجتماعية في ذلك الوقت. يستخدم تولستوي أوصافا حية للحفل، ليخلق شعور الروعة والعظمة الاجتماعية، على النقيض من التوتر العاطفي الكامن تحت السطح..
من أجواء الحفل الراقص
«كان الحفل قد بدأ للتو عندما دخلت كيتي ووالدتها الدرج الكبير المُضاء، المُزدان بالزهور، والخدم الذين يرتدون القفاطين الحمراء. ومن قاعة الرقص جاء حفيف الحركة المُنتظم، الذي كان هناك، كخلية نحل، وبينما كانتا تُصففان شعرهما أمام مرآة على المنصة بين النباتات المُزروعة في أصص، سُمعت أصوات كمان الأوركسترا المميزة والواضحة، تعزف أول رقصة فالس في قاعة الرقص. اصطدم بهما على الدرج رجلٌ مُسنّ يرتدي زيا مدنيا، يُصفف سوالفه الرمادية أمام مرآة أخرى، تفوح منه رائحة عطر، ثم تنحى جانبا، مُعجبا على ما يبدو بكيتي التي لم يكن يعرفها. رغم أن ملابسها، وتسريحة شعرها، وكل الاستعدادات للحفل كلفت كيتي الكثير من الجهد والعمل، إلا أنها الآن، بفستانها التول المعقد ذي الغطاء الوردي، دخلت الحفل بحرية وبساطة، كما لو أن كل هذه الورود والدانتيل وكل تفاصيل ملابسها لم تكلفها هي وعائلتها لحظة واحدة من الاهتمام، كما لو أنها وُلدت بهذا التول والدانتيل، بهذه التسريحة العالية، مع وردة وورقتين في الأعلى.
كانت كيتي تعيش أحد أيامها السعيدة. فالفستان لم يكن ضيقا في أي موضع، ولم تنزلق الدانتيلات عن كتفيها، ولم تنثنِ زهور الزينة أو تنفصل عن مكانها؛ ولم يضغط الحذاء الوردي ذو الكعب العالي المنحني على قدمها، بل أراحها. تدلت ضفائر الشعر الأشقر الكثيفة على رأسها الصغير، انغلقت الأزرار الثلاثة للقفاز العالي الذي لف يديها، دون أن يغير من شكلها. أحاط المخمل الأسود للقلادة برقبتها برقة فائقة. كان هذا المخمل جميلا، وفي بيتها، وهي تنظر إلى رقبتها في المرآة، شعرت كيتي بأن هذا المخمل يتحدث. قد يكون هناك شك في كل شيء آخر، لكن المخمل كان جميلا فعلا. ابتسمت كيتي هنا في الحفلة أيضا، وهي تنظر إليه في المرآة. وشعرت في كتفيها وذراعيها العاريتين ببرودة الرخام، شعور أحبته بشكل خاص. لمعت عيناها، ولم تستطع شفتاها الورديتان إلا أن تبتسما من إدراك جاذبيتهما. لم تكن قد دخلت القاعة بعد، ووصلت إلى حشد من السيدات ذوات الشرائط الدانتيلية الملونة بالتول، ينتظرن دعوة للرقص (لم تقف كيتي في هذا الحشد قط)، عندما كانت مدعوة بالفعل إلى رقصة الفالس، ودعاها أفضل فارس في التسلسل الهرمي للرقص، مدير الاحتفالات، يغوروشكا كورسونسكي وهو رجل متزوج وسيم ومهيب،. بعد أن غادر للتو الكونتيسة بانينا، التي رقص معها الجولة الأولى من الفالس، نظر حول ممتلكاته، أي العديد من الأزواج الذين خرجوا للرقص، فرأى كيتي تدخل، وركض إليها بتلك المشية الخاصة والحرة التي لا تميز إلا قادة الحفلات، وانحنى، دون أن يسألها عما إذا كانت تريد ذلك، ورفع يده ليعانق خصرها النحيل.
– ما أجمل وصولكِ في الوقت المحدد، قال وهو يعانق خصرها، ويا لها من تأخر.
وضعت ذراعها اليسرى، وانحنت، على كتفه، وتحركت قدماها الصغيرتان، بحذائها الوردي، بسرعة وسهولة وإيقاع متناغم مع الموسيقى على الأرضية الصقيلة.
– إنه لأمر مريح أن أرقص معكِ، قال لها، بادئا خطوات الفالس الأولى المريحة. يا لها من ساحرة، يا لها من سهولة ودقة!
ابتسمت لمديحه، واستمرت في النظر من فوق كتفه إلى القاعة، رأت صفوة المجتمع متجمعة، وهناك رأت قوام آنا الساحر في ثوب مخملي أسود.
قال كورسونسكي، وهو يلهث قليلا:
ـ حسنا، جولة أخرى؟ ألا تشعرين بالتعب؟
– لا، شكرا لك
– إلى أين آخذك؟
اعتقد أن كارينينا هنا، خذني إليها.
« كانت آنا واقفة تتحدث، محاطة بالسيدات والرجال. لم تكن ترتدي اللون البنفسجي الذي تعلقت به كيتي بشدة، بل كانت ترتدي فستانا مخمليا أسود منخفض الخصر، يكشف عن كتفيها وصدرها المنحنيين كقطعة عاجية منحوتة قديمة، وذراعين مستديرتين، ويدين صغيرتين نحيلتين. كان الفستان مزينا بالكامل بدانتيل البندقية. على رأسها، في شعرها الأسود، الذي لم يكن مُضافا إليه أي وصلات، كان هناك إكليل صغير من زهور البنفسج، وكان هناك إكليل آخر على الشريط الأسود لحزامها، بين قطع من الدانتيل الأبيض. كان ترتيب شعرها غير واضح. فقط تلك الخصلات الصغيرة العنيدة من الشعر المجعد المتدلية باستمرار عند مؤخرة رقبتها وعلى صدغيها كانت لافتة للنظر، وقد زادت من جمالها. كان هناك عقد من اللؤلؤ حول رقبتها القوية المنحوتة.
واتجه كورسونسكي نحو الحشد في الزاوية اليسرى من قاعة الرقص، مبطئا خطواته، مرددا: «معذرة يا سيداتي، معذرة، معذرة يا سيداتي»، وهو يتلوى في بحر الدانتيل والتول والأشرطة؛ ودون أن يلمس ريشة، أدار كيتي بحدة لدرجة أن كاحليها النحيلين في جواربهما المخرمة انكشفا بينما امتد ذيل ثوبها كمروحة وغطى ركبتي كريفين، الذي كان يتألق برأسه الأصلع دائما، وسط نخبة المجتمع. انحنى كورسونسكي، ومد ذراعه ليأخذ كيتي إلى آنا. احمرّ وجه كيتي وخلعت ذيل ثوبها عن ركبتي كريفين. شعرت بدوار خفيف، فنظرت حولها باحثة عن آنا. لم تكن آنا ترتدي الفستان البنفسجي الذي تعلقت به كيتي، بل كانت ترتدي فستانا مخمليا أسود، منخفض الخصر، يُبرز كتفيها الممتلئين وصدرها، الذي بدا وكأنه منحوت من العاج القديم، وذراعيها المستديرتين ويديها الصغيرتين النحيلتين. كان فستانها مُزينا بالكامل بدانتيل البندقية. على رأسها، في شعرها الأسود، شعرها الخاص دون أي إضافات، كان هناك إكليل صغير من زهور البانسيه، ومثله على الشريط الأسود لحزامها بين الدانتيل الأبيض. كانت تسريحة شعرها غير ملحوظة. لم تكن ملحوظة إلا تلك الخصلات القصيرة المموجة، البارزة دائما على مؤخرة رأسها وصدغيها، والتي زادتها جمالا.. وكان على رقبتها المنحوتة القوية، عقد من اللؤلؤ.
كانت كيتي ترى آنا يوميا، تُغرم بها، وتتخيلها دائما باللون البنفسجي لكنها الآن، حين رأتها ترتدي الأسود، شعرت بأنها لم تُدرك سحرها الكامل من قبل. تراها الآن شيئا جديدا تماما وغير متوقع. الآن أدركت أن آنا لا يُمكن أن تكون بالبنفسجي أبدا، وأن سحرها يكمن في هذا التناقض. كان الفستان الأسود، رغم بساطته بدانتيله الغني، لا يلفت الانتباه بحد ذاته، بل كان مجرد إطار يبرز جمالها الطبيعي وروحها المستقلة. لم يكن ما يراه الناظر هو الفستان، بل آنا نفسها: بسيطة، طبيعية، أنيقة، وفي الوقت نفسه مرحة ومفعمة بالحياة. أُعجبت كيتي بعفوية آنا ورشاقتها، وأُعجبت بعالمها الداخلي الشاعري الخاص، الذي يتجلى في كل حركة. كانت تتوقع الكثير من هذا الحفل: فهي متأكدة من أن فرونسكي سيشرح لها موقفه خلال رقصة المازوركا. وفجأة، لاحظت كيف يتحدث فرونسكي مع آنا: في كل نظرة منهما، انجذاب لا يُقاوم نحو الآخر، وكل كلمة تُحدد مصيرهما. غادرت كيتي المكان يائسة. وهكذا، غيّر الحفل مصيرها، وفي الوقت نفسه، ساعدها على رؤية حب الحرية والرشاقة والذكاء والإخلاص في هذه المرأة».
كاتب عراقي