قرار الإنجاب لا يُنظر إليه في العراق على أنه خيار شخصي للمرأة، ونساء كثيرات يجدن أنفسهنّ عالقات في حلقة قسرية من الحمل أو الإجهاض أو العقم. هذه القصص ليست استثناءات فردية، بل جزء من منظومة متكاملة من العنف الإنجابي..
لم تستطع رنيم (اسم مستعار) (27 عاماً) التي تسكن أطراف محافظة واسط نسيان نظرات الغضب التي اشتعلت في عيني زوجها وهو يصرخ في وجهها، ممسكاً بعلبة حبوب منع الحمل، في مشهد علني أمام أفراد عائلته. في لحظات قليلة، تحول الاتفاق الهادئ بينهما على تأجيل الإنجاب إلى فضيحة عائلية مدوية.
“تردين تحرميني من الأطفال؟” صرخ بينما انهال عليها بالضرب والإساءات أمام والديه وإخوته، غير آبه بمحاولتها تبرير موقفها. كانت رنيم تدرك أن استخدام وسائل منع الحمل أمر مرفوض رفضاً قاطعاً في عائلة زوجها، التي ترى في ذلك تعدياً على إرادة الله. ورغم ذلك، ظنت أن التفاهم الذي توصلت إليه مع زوجها سيحميها من العاصفة.
القرار بتأجيل الحمل جاء بعد ولادة طفلها الأول، الذي يعاني من شلل شبه تام نتيجة خطأ طبي. صدمة رنيم النفسية جراء معاناة طفلها دفعتها إلى طلب تأجيل الإنجاب، خاصة مع احتياج طفلها لرعاية خاصة تتطلب وقتاً وجهداً كبيرين، بالإضافة إلى بدئها العمل في وظيفة جديدة.
الاتفاق الذي ظنّت أنه مستقر انهار في لحظة، مع لوم ضمني من زوجها لها على حالة طفلهما.
تتذكر رنيم بمرارة كيف انتهى ذلك اليوم، بعد أن فرض عليها زوجها قراره القاطع “بعد ماكو دوام”، تاركاً إياها تتجرع خيبة أملها وصدمتها أمام الجميع.
في العراق، يتحول الإنجاب إلى أداة ضغط اجتماعية وقانونية على المرأة، فمن ناحية، تدفعها الأعراف إلى الحمل خوفاً من “وصمة العاقر” وتهديدات الطلاق والعنف، ومن ناحية أخرى، يُهددها التعديل الجديد لقانون الأحوال الشخصية بسحب حضانة أطفالها إذا اختارت إنهاء العلاقة الزوجية والطلاق.
هذه الآلية المزدوجة – ضغط اجتماعي لإجبار المرأة على الإنجاب، ثم عقاب قانوني إذا طالبت بحقوقها – تمثل شكلاً ممنهجاً من العنف الإنجابي.
غالباً ما يكون قرار الإنجاب في مجتمعنا بيد الرجل، بل يتعدى ذلك الى اختيار جنس الجنين، حيث يمارس الرجل ضغطاً كبيراً على المرأة، ويدفعها إلى الخضوع لآليات تحديد جنس الجنين، مثل أطفال الانابيب، أو تناول الأدوية أو الوصفات العشبية لتلد ذكوراً، أو يضغط عليها لتكرار الحمل لإنجاب مولود ذكر.
ضغوطات نفسية واجتماعية كثيرة تواجهها المرأة قد تؤدي إلى إنهاء الزواج إذا أنجبت المرأة إناثاً فقط.
وقد يصل الأمر إلى إرغام المرأة على الإجهاض المتكرر وغير الآمن إذا كان الجنين أنثى، خاصة أولئك النساء اللاتي يلدن أكثر من أنثى، أو لا يلدن ذكراً. وأكثر من ذلك، فقد يجبرن على الإجهاض في حال أنجاب أنثى للمرة الثالثة أو الرابعة مثلاً، وإن كان هذا لا يحصل على نطاق واسع في المجتمع العراقي لأسباب شرعية ودينية.
هذه الممارسات، التي تبدو لكثيرين (ومنهن نساء أيضاً) عادية، تُعرف بالعنف الإنجابي، الذي يُعّد “شكلاً من أشكال الإساءة والإكراه والتمييز والاستغلال والعنف الذي يهدّد الاستقلالية الإنجابية للإنسان”.
يتمثل العنف الإنجابي بانتزاع حق المرأة في اتخاذ قراراتها الخاصة بجسدها وخصوبتها، مثل متى وكم تنجب، أو إن كانت ترغب بالإنجاب أصلاً.
عادة ما تكون النساء ضحايا هذه العنف، وغالباً ما يكون الجناة هم أزواجهن أو شركائهن الحميميين، إلا أن هذا النوع من العنف قد يمارس ضد المرأة من قبل أسرة الزوج أو حتى أسرتها أو أصدقائها أو المجتمع كله.
ضغوطات قاتلة (حرفياً)
الضغط على المرأة المتزوجة حديثاً لإرغامها على الحمل، هو مثال بارز على العنف الإنجابي المنتشر في مجتمعنا، فقد بات هو “الطبيعي” وأي قرار آخر هو “غير طبيعي”.
تُمنع المرأة المتزوجة حديثاً من استخدام وسائل تنظيم الأسرة، ومنها حبوب منع الحمل أو تُخفى هذه عنها أو  يُفرض عليها توقيت ممارسة الجنس خلال فترة الإباضة، أي الأيام التي تُحتسب بدقة بغرض زيادة فرص الحمل، وغالباً ما يكون الزوج هو من يتحكم بهذه التفاصيل ويفرض العلاقة حتى دون رغبتها، ما يعني إمكانية الحمل.
وقد تُرغم المرأة أيضاً على تناول منشطات الإباضة، وهي التجربة التي خاضتها فرقان (25 عاماً)، وهي مهندسة في إحدى شركات القطاع الخاص من محافظة البصرة ومتزوجة منذ نحو عشرة أشهر. تسعى فرقان جاهدة لتحقيق ذاتها المهنية بينما تواجه ضغوطاً متزايدة للإنجاب، مع أنها مثل رنيم اطمأنت لوجود اتفاق مسبق بينها وبين زوجها، “بداية زواجنا اتفقنا نأجل الحمل لسنة أو سنة ونص حتى أضمن عقد (العمل) وهمين نتونس ونسافر سوية”.
لكن سرعان ما بدأت أسئلة أسرة زوجها وأقاربها حول الحمل تلح عليها بعد أربعة أشهر فقط من زواجهما.
تتوق فرقان لتوقيع عقد طويل الأمد مع الشركة التي بدأت بالعمل فيها مؤخراً، ولأنها في فترة تجربة لمدة ستة أشهر فهي تحتاج للاستمرار في عملها دون إجازة طويلة كي تُثبّت في الشركة، وهي خطوة ستضمن لها حقوقاً أكثر في المستقبل، من بينها حق الحصول على إجازة أمومة، ولكي تتمكن من ذلك يجب عليها الالتزام والاستمرار بالعمل وإثبات ذاتها بين مجموعة من المنافسين والمنافسات، هذا كله ما دار في خلدها، التخطيط للحمل والولادة بالتوازي مع تطورها المهني.
بيد أن فرقان باتت تواجه ضغوطاً نفسية متزايدة من المحيط العائلي، كل دورة شهرية تتحول إلى “خبر سيء”، خبر عام عليها أن تشاركه مع من حولها، فيتلقونه بملامح حزينة وكلمات جارحة، “كانت عمتي تقول لي بنبرة لوم: “وهم هذا الشهر؟،” وكأنها خذلت الجميع.
مع مرور الوقت، لم تعد الضغوط على فرقان تقتصر على التعليقات والإشارات الخفية، بل أصبحت أكثر صراحة، مثل محاولة إرغامها على عمل فحوصات تثبت أنها لا تعاني من علة ما تمنعها من الحمل، وهو الأمر الذي رفضته فرقان بشدة “قلتلهم إحنة ثنينة مقررين نأجل الخلفة”، لكن الأمر لم يعجبهم.
تصف فرقان كيف تحولت حياتها اليومية إلى صراع بعدما بدأ زوجها يتراجع عن الاتفاقية التي عقداها.
“بدأ زوجي يرفض الوسائل الطبيعية التي كنا نتبعها لمنع الحمل، شعرت أنني محاصرة في جسدي وقراري.. حتى وصل الأمر إلى أن عمتي اقترحت عليّ أخذ منشطات بدون وصفة دكتورة أخذتهن بنت أختها وحملت بتوم”.
عمة فرقان ليست استثناء في إعطاء نصائح طبية والحث على أخذ عقارات دون أن تكون مؤهلة لذلك ودون وعي لأثرها على النساء، وفقاً لأخصائية النسائية والتوليد والتجميل النسائي، الدكتورة ضي نصيف جاسم، التي أشارت في حديثها لجمّار إلى أن الكثير من المنشطات والحقن التفجيرية أصبحت تؤخذ من قبل المرأة بدون وصفة طبية، وتعطى لها من قبل قابلات أو أطباء مختصين دون إجراء الفحوصات اللازمة ليس فقط للزوجة، وإنما للزوج أيضاً.
هذه الجقن والمنشطات باتت “ترند” مثلها مثل أي شيء آخر، ولكن ما هي هذه الحقن وما أثرها على أجساد النساء؟
قالت الدكتورة رؤى علي إن منشطات الإباضة (Ovulation Induction Agents) هي أدوية هرمونية تُستخدم لتحفيز نمو عدد أكبر من البويضات لدى النساء اللواتي يعانين من اضطرابات في التبويض، أو متلازمة تكيس المبايض، أو العقم الأولي، أو صغر حجم البويضات، وتُعطى بعدها ما يُعرف بـ “الإبرة التفجيرية”، وهي دواء هرموني يحتوي على هرمون (Hcg).
حذرت علي من لجوء بعض النساء إلى هذه العلاجات بعد أشهر قليلة فقط من الزواج، رغم أن تأخر الحمل لا يُشخص طبياً إلا بعد مرور عام على الزواج دون إنجاب، وعدَّت أن منح هذه العلاجات للمتزوجات حديثاً بات تجارة في بعض العيادات الخاصة، إذ يؤدي استخدامها لدى نساء لا يعانين من مشاكل صحية إلى حدوث حمل سريع، ما يُعد “إنجازاً زائفاً” من الناحية الطبية.
تضيف الدكتورة رؤى “يؤدي الاستخدام غير المنضبط لهذه المنشطات إلى مضاعفات خطيرة، مثل التحسس الشديد، أو فرط استجابة المبايض، مما يؤدي إلى تضخمها وتجمع السوائل في البطن والصدر، فضلاً عن تسارع نبض القلب وانخفاض ضغط الدم، وعلى المدى البعيد، قد ترتبط هذه الأدوية بزيادة خطر الإصابة بسرطان المبيض”!
وقد يحدث ما هو أسوأ.. وفاة المرأة، حذرت الدكتورة ضي نصيف جاسم قائلة: “يمكن أن يسبب التنشيط المكثف للمبايض انفجارها وصعود محتوياتها إلى الرئة والاختناق بها وبالتالي الوفاة، أو من الممكن أن تسبب حملاً خارج الرحم، أو اضطرابات بالدورة الشهرية، أو في بعض الأحيان قد تؤدي إلى الحمل بتوءم، والذي بالرغم من أنه يعد من المضاعفات الإيجابية إلا أنه خطر وغير صحي في بعض الحالات”.
تنطلق كل هذه الضغوطات الاجتماعية على المرأة وجسدها من منطلق ذكوري، لا يقتصر فقط على التحكم بجسد المرأة والحكم عليه بأنه موجود لغرض التكاثر والإنجاب فحسب، وإنما يمتد لتحميل هذا الجسد -دون جسد الرجل- “مسؤولية” عدم الإنجاب.
و تؤكد الدكتورة ضي نصيف جاسم مردفة أن في مجتمعاتنا ما زالت النظرة التقليدية تُحمّل المرأة وحدها عبء مشكلات الحمل، متجاهلة أن تأخر الإنجاب قد يكون سببه خللاً لدى الرجل أو المرأة بنسبة متساوية.
فنسبة أن يكون السبب في تأخر الحمل من المرأة هي أربعون إلى خمسين بالمئة، والنسبة ذاتها للرجل، وتُحدَّد هذه النسبة بعد عام من الزواج، إذ تُعد اختباراً لخصوبة الطرفين، بعد ذلك يمكن تصنيف الحالة بوصفها عقماً أولياً.
لذا فأول الفحوصات المطلوبة عند تأخر الحمل هو تحليل السائل المنوي، بيد أن كثيراً من الرجال يرفضون الخضوع لهذا الفحص لاعتقادهم أنه يمس رجولتهم، ما يدفع النساء إلى الخضوع لفحوصات غير ضرورية رغم أن المشكلة الصحية قد تكون من الرجل الذي تسانده في ذلك منظومة ذكورية كاملة، من العائلة القريبة إلى البعيدة، حيث لا تتوانى أي عمة أو خالة من دفع المرأة إلى حقن نفسها بمواد قد تقتلها أحياناً دون وعي أو فهم!
هذا التحيز المجتمعي لا يعكس تجاهلاً للحقائق الطبية فحسب، بل يُشكل نوعاً من الإكراه الإنجابي، حيث يُمارَس ضغط نفسي واجتماعي على المرأة.
منع الحمل.. عنف أيضاً
يرتبط العنف الإنجابي غالباً بالعنف الأسري، حيث يستخدم الشريك المسيء أساليب تهدف إلى السيطرة على صحة الطرف الآخر الإنجابية وسلبه حق اتخاذ قراراته المستقلة بشأن جسده ورعايته الصحية. هذه السلوكيات لا تتسبب فقط في تقويض استقلالية الشخص، بل تعرض سلامته وصحته لخطر حقيقي.
هذه التجربة ليست دراسات فحسب، إنها قصص حقيقية تختبرها نساء كثيرات. واحدة من تلك القصص هي ما عاشته سارة (اسم مستعار) (30 عاماً) من بغداد، إذ وجدت نفسها في مواجهة العنف الجسدي والتهديد بسبب قرارها إكمال حملها.
منذ بداية زواجها، اشترط زوجها، وهو ضابط في وزارة الدفاع، تأجيل الإنجاب في الفترة الأولى من الزواج للاستمتاع بحياتهما الجديدة، وهو شرط وافقت عليه سارة مؤقتاً، لكن مع مرور الفترة الأولى ثم العام الأول ثم الثاني استمر رفضه للإنجاب دون تقديم أسباب منطقية، متجاهلاً رغبتها في الإنجاب رغم محاولاتها المستمرة لإقناعه.
كان زوجها يختار وسائل منع الحمل الطبيعية، مثل القذف خارج المهبل، لضمان عدم حدوث حمل. “هو زوجي صح بس مو جدي بالعلاقة ميهتم للبيت بس على رغبتة الجنسية فقط”، تقول سارة.
بعد عامين من زواجهما حملت سارة بتوءم، رغم محاولات المنع، شعرت بسعادة غامرة لكنها كانت مشوبة بالخوف من رد فعل زوجها.
“بس كتله أنا حامل انصدم وتعارك وياي وكلي روحي ذبيهم، ومصروف للبيت ما بقى ينطيني، كتله أذا ماتريدني طلكني فكلي ذبي الأطفال واطلكج”. ثم ما لبثت التهديدات اللفظية أن تحولت الى عنف جسدي.
”إجه من الدوام وكتلني، كان يختلق أسباب تافهة حتى يكتلني حتى لا أكول لأهلي أن هو يكتلني لأن انا حامل”. ومع تصاعد العنف، هجر زوجها المنزل واشترط مقابل عودته إجهاض التوءم، ورغم شكواها المتكررة، لم تلقَ أي اهتمام من عائلة زوجها، التي فضّلت الصمت وعدم التدخل ومساندة قرار ابنهم.
توجهت سارة الى إحدى قابلات الحي، التي طالبتها بمبلغ مليون دينار لإجراء الإجهاض، محذرة إياها من أن العملية قد تشكل خطراً على حياتها.
“القابلة كلتلي أنا أنطيج حبوب وراح تسوي عندج نزيف وأنتي روحي للمستشفى وهما يسوولج عملية الإجهاض”. زوجها لم يتردد حين بلغته بكلام القابلة بل وافق على دفع المبلغ.
بيد أن الخوف من فقدان حياتها ودعم أهلها لها جعلا سارة تبعد الفكرة عنها وتتمسك بالحمل رغم هجران زوجها لها بعد هذا القرار.
تتعدد أنواع العنف الإنجابي، فمنها أن يتزوج الرجل زوجة ثانية صغيرة السن، ثم يمنعها من الإنجاب، أو أن تُجبر النساء على الحمل أو تكرار الحمل، خوفاً من أن يتزوج أزواجهن امرأة أخرى إذا رفضن الإنجاب، حتى وإن كانت هناك مخاطر صحية كبيرة تهدد حياة الزوجة. كما تُجبر الكثيرات على تكرار الولادة مرات عديدة قد تصل إلى ست مرات أو أكثر، في محاولة لإنجاب الذكر، نتيجة تهديدات الزوج، ما يسبب لهن حالة من القلق الدائم وعدم الاستقرار النفسي والخوف من الطلاق أو زواج الرجل بامرأة اخرى.
في خضم كل هذه الضغوطات، يُنسى أن الضغوط النفسية الناتجة عن العنف الإنجابي لا تقتصر على الجانب الاجتماعي من حياة المرأة، بل تؤثر على الصحة الجسدية وعلى قدرة المرأة على الإنجاب! إذ يؤدي التوتر والقلق في كثير من الأحيان إلى تأخر الإنجاب، فالإجهاد النفسي يؤثر على إفراز هرمونات الغدة النخامية المسؤولة عن التبويض، مما يؤدي إلى اضطرابات في الدورة الشهرية وصعوبة في الحمل، كما أشارت المستشارة الأسرية والنفسية إخلاص جبرين في حديثها معنا.
أين الدولة؟
تتحمل المرأة وجسدها ويلات العنف الإنجابي لأنها تفقد قدرتها على القرار، سواء كان القرار قرار حمل أو امتناع عنه أو تأجيله، لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو شخصية أو حتى صحية.
وهنا يأتي السؤال حول دور الدولة ومؤسساتها والقانون في دعم المرأة وحمايتها، إذ في كثير من البلدان، ومنها العراق، قد يمارس الإكراه الإنجابي من قبل الحكومات من خلال القوانين والتشريعات التي تتحكم بخيارات الإنجاب.
تقول المحامية نور الطائي لجمار: “رغم أن الدستور العراقي، بالفقرة التاسعة والعشرين، يمنع كل أشكال العنف والتعسف داخل الأسرة ويحمي الأمومة والطفولة وحتى الشيخوخة، إلا أن المادة 41 من قانون العقوبات العراقي تناقض الدستور، إذ تنص هذه المادة على أن لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحق مقرر، من ذلك تأديب الزوج زوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً أو عرفاً، ما يفتح الباب أمام ممارسة العنف الإنجابي ضدها”.
وتشير الطائي إلى أن “القانون العراقي لم يتطرق إلى العنف المرتبط بالإنجاب صراحةً، ولم يقدم تعريفاً واضحاً له في أي فقرة من فقراته”.
أما فيما يخص القضايا التي تنتهي بعنف نتيجة الإكراه الإنجابي، أشارت الطائي إلى أنه وفق أحكام المواد الخاصة بالعنف من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، يتم تقديم أي نوع من الأدلة كالشهود أو التقارير الطبية التي تثبت صحة الاعتداء. فمثلاً الزوجة المُكرهة على الحمل، في حال وجود مانع طبي يهدد حياتها إذا حملت، تستطيع تقديم شكوى مع التقارير الطبية التي تثبت ذلك.
ولكن ماذا عن النساء اللواتي يمتنعن عن الحمل لأسباب أخرى غير صحية، مثل حالة رنيم وفرقان وغيرهن؟
القانون لا يوفر أي حماية لهن في هذه الحالة، كونه يحوي على ثغرات تشريعية حول حق المرأة في جسدها وتجربة الإجهاض وإن وجدت فيه الكثير من النساء في العراق حلاً ممكناً.
يواجه الإجهاض قيوداً قانونية صارمة، حيث يجرّمه قانون العقوبات العراقي وفقًا للمادة 417، “إذ يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد عن مئة ألف دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل امرأة أجهضت نفسها بأية وسية كانت أو مكنت غيرها من ذلك برضاها”، ما يعني أن العقوبة تسري على كل من يشارك في هذه العملية، سواء من الكادر الطبي أو القابلات أو الصيادلة، وفق ما أوضحته المحامية الطائي، حيث يُعد ذلك ظرفاً مشدداً، وقد تصل العقوبة إلى سحب رخصة مزاولة المهنة، أما في حال موت المرأة أثناء الإجهاض فتفرض المادة العقوبة على الطبيب بالسجن لمدة قد تصل إلى سبع سنوات.
وكذا هو الأمر بالنسبة للزوج الذي يجبر زوجته على الإجهاض، لأسباب مثل كون الجنين أنثى.
سابقاً كان القانون يجيز الإجهاض بحالات محدودة جداً، من بينها وجود تشوهات كبيرة جداً لدى الجنين، أو أن الحمل يشكل خطراً على صحة المرأة، وهي حالات تُدرس بعناية وتخضع لشروط قانونية وطبية صارمة، حالياً الإجازة فقط في حال كان الحمل يشكل خطراً على حياة الأم، وفق ما أخبرتنا الطائي.
وأوضح نقيب محاميي النجف، مهند الوائلي، أن هذا السماح المحدود للإجهاض يستند إلى المادة 41 من قانون العقوبات، والتي تعفي الطبيب المختص من العقوبة إذا أجرى عملية الإجهاض حفاظاً على حياة المرأة. وأضاف، “القانون يعتبر أن حياة الأم حق مؤكد، في حين أن حياة الجنين حق غير مؤكد، ولذلك يُرجح إلى جانب حماية الأم، ويُعدُّ تصرف الطبيب في هذه الحالات من قبيل أسباب الإباحة”.
وتوضح الطبيبة النسائية رؤى علي أن هذا الإجراء لا يتم تلقائياً، بل يخضع لضوابط صارمة، إذ يُشترط أن يُوافق عليه طبيبان اختصاصيان بالإضافة إلى طبيب مقيم، بعد إجراء تقييم دقيق لحالة المريضة، وتشير إلى أن “وسيلة الإنهاء الأكثر شيوعاً في هذه الحالات هي استخدام حبوب السايتوتك، التي تسبب نزيفاً يستدعي في كثير من الأحيان تدخلاً جراحياً عبر عملية الكورتاج (Curettage) لإنهاء الحمل بشكل آمن”.
وتضع هذه الأحكام والشروط المحدودة حياة النساء على المِحك، فالتحذيرات واحتمالية الموت التي سمعتها سارة من القابلة عندما خيّرها زوجها بين الإجهاض والطلاق كادت تودي بحياتها.
لكن تجد الكثيرات في الإجهاض خياراً يؤدي رفضه إلى تعريضها لعنف مجتمعي، وقد يؤدي إلى قتلها في الكثير من الحالات.
تخبرنا الدكتورة جاسم أنه “عندما تأتي مريضة تريد عمل إجهاض غير مرخص (Illegal abortion) ونرفض إجراءه بسبب المنع القانوني تضطر المرأة إلى اللجوء إلى قابلة مأذونة، وقد تصاب بعدها بمضاعفات مثل نزيف أو التصاقات أو التهابات داخلية أو تهتك بجدار الرحم نتيجة ثقبه أثناء عملية (Curettage)، وهو أمر متوقع لأن القابلة حتى وإن كانت تملك خبرة فهي لا تملك العلم الذي يملكه الطبيب المختص، لكن ولكوننا ممنوعين من الإجهاض تضطر النسوة إلى اللجوء إلى السوق السوداء لشراء الأدوية التي تساعدهن على الإجهاض، والتي تباع لهن بمبالغ مهولة، كأن يباع شريط الإجهاض الذي لا تتجاوز قيمته عشرة آلاف دينار عراقي بـ 300 دولار، وتشتريه المرأة رغم ذلك خوفاً من الفضيحة أو الطلاق”.
يعني هذا أن منع الإجهاض الآمن إلا في حالات محدودة جداً، يضاعف العنف الإنجابي ضد النساء، حيث تفقدن مرة أخرى استقلاليتهنّ وقدرتهن على اتخاذ قرار يخص جسدهنّ الذي يصير رهن سوق سوداء للإجهاض!
من يدعمهن؟
مع كل الضغوط التي تعيشها المرأة بسبب مجتمعها ودولتها ثمة غياب دور فاعل للمؤسسات الصحية وأطباء الدعم النفسي، يتمثل ولو بالإنصات والتوجيه.
تؤكد أخصائية النسائية والتوليد والتجميل النسائي الدكتورة ضي نصيف جاسم أن “الكثير من النساء يخفن من التحدث صراحة إلى الأطباء بسبب الخوف من استغلالهنّ والتحرش بهنّ أو تسخيف معاناتهنّ، بالتالي تفضل المرأة الصمت على البوح”. “لا يوجد في المؤسسات الصحية ولا عند الأطباء دعمٌ نفسي للنساء اللواتي تعرضن للإكراه الإنجابي، كوننا لا نملك ثقافة الإنصات للمريض، رغم أن الاستماع قد يمثل نصف العلاج، إذ أن الكثير من المريضات قد لا يعانينّ من ألم عضوي بقدر ما يكنّ يعانين من جرح نفسي ولا يجدنّ من يستمع إليهنّ، لا من قبل الأزواج ولا الأطباء”.
وما يزيد من الصمت والتكتم حول ممارسات العنف الإنجابي، هو خلو العراق من جمعيات فاعلة تختص بصحة المرأة الإنجابية والجنسية، فرغم وجود آلاف المنظمات في المجتمع المدني في العراق، إلا أن القليل منها –إن وجد– يولي اهتماماً جدياً لمعاناتهنّ أو يقدم برامج فاعلة تسهم في كسر حاجز الصمت المفروض عليهن.
تعزو الناشطة النسوية شهد حسين، العاملة في إحدى هذه المنظمات، هذا الإهمال إلى طبيعة عمل المنظمات المختصة بحقوق المرأة؛ إذ غالباً ما تعتمد على الدفاع العام عن الحقوق دون تخصُّص في مجال محدد كالصحة أو التعليم أو السياسة، وتوضح أنَّ هذه المنظمات، حتى عندما تتبنى مشاريع متعلقة بالصحة الإنجابية، فإنها تفشل في إنتاجها بشكلٍ مُجدٍ، لافتقارها إلى الخبرة الكافية في إدارة مثل هذه المشاريع الحساسة.
وتُضيف شهد: “ثمّة جهل كبير لدى المنظمات نفسها بموضوعات الصحة الإنجابية وأهميتها وآليات توعية النساء بها، مما يدفعها إلى التركيز على قضايا تلقى قبولاً اجتماعيّاً واسعاً، كالعنف ضد المرأة والموضوعات الاقتصادية، لضمان بقائها تحت الأضواء، في المقابل، يتم إهمال قضايا مثل الصحة الإنجابية التي لا تحظى باعتراف مجتمعي، فتختار المنظمات الحفاظ على قبولها الاجتماعي بدلاً من خوض موضوعات قد تَعْرِضها للرفض”.
إنهاء دوامة العنف الإنجابي يتطلب اعترافاً جدياً بمخاطره، ليس فقط على النساء بل على النسيج الأسري برمّته، فاستمرار هذا العنف يُفرغ الأمومة من معناها، ويحوّل العلاقة الأسرية إلى عبء نفسي واجتماعي، لذا، لا بد من تشريع يحمي حق المرأة في اتخاذ القرار بشأن جسدها، ويضمن لها الحماية من العنف، بعيداً عن قيد العادات والتقاليد. كما أن على المنظمات الحقوقية أن تضطلع بدور فاعل في التوعية والتأهيل، دعماً لنساء يُنتزَع منهنّ حقهنّ في الاختيار.