"ماما العنب مالح": كيف نكره الماء في البصرة المسورة بالمياه!
نشر بواسطة: mod1
الأحد 14-09-2025
 
   
جمار-هالة عبدالله

كيف يصبح الماء "عدواً" يخيف الأطفال والآباء والأمهات؟ من تسمم آلاف السكان إلى موت الحدائق، حتى العنب صار مالحاً… هذه يوميات عائلة بصراوية تعيش في مدينة محاطة بالماء، لكن أهلها عطشى..

اعتاد والداي على التعاون والتنسيق فيما بينهما للاستيقاظ ليلاً بعد ولادة شقيقتي، تنام أمي الساعة 12، بعد أن تُشرب شقيقتي الحليب وتغط في نومها، ويبقى والدي -المُصاب بالأرق- مُستيقظاً حتى السابعة أو الثامنة صباحاً، مراقباً تقلبات ابنته الصغيرة، وفي هذه الساعات، يشاهد مسلسلات الأكشن التركية التي يُحبها، وبعد عامين، أي عام 2015، توقف نظام الـ “شفتات” بينهما.

لكن النظام عاود الظهور عام 2018، حين صار الهدف الجديد هو الـ “ماطور” والـ “تانكي” (خزان المياه)، اللذان يحددان إذا ما كنا سنغسل الصحون والأيدي اليوم، أم سنكتفي بتوزيع الأكل على صحنين، لأن مياه الغسل لا تكفي.

نسكن مركز البصرة منذ أن تزوج والداي، ولذلك، كانت مشاكل المياه محصورة في ثلاث حالات:

لا يوجد ماء.

الماء موجود، لكنه مالح.

الماء موجود، لكنه مالح وله رائحة المجاري.

في البداية، كان علينا أن نجرب كل يوم حظنا، لنعرف ما هي نوعية المياه التي سنستقبلها اليوم، أهي مياه مالحة؟ أم ذات رائحة؟ أم ذات لون؟ أم لا مياه على الإطلاق؟

تطلب الأمر الكثير من التجريب، والكثير من “هالة، صيحي أخوانج وتعالوا نغسل التانكي”، لأن المياه مالحة جداً، أو لأن رائحة المجاري لا تزول. تخيل التالي، فتاة في السادسة عشرة وشقيقها في الخامسة عشرة، يراقبهما شقيقهما الأصغر، وهو في العاشرة، ويعتقد أنهما يلعبان داخل الخزان العميق، الحار، الرطب في الساعة 12 ظهراً، أو الرابعة عصراً، حسب الظروف.

كان علينا أن نغسل الخزان مرات عدة خلال ذاك الصيف، محاولات مستمرة لتطهيره من المياه التي تصلنا من الماطور، وتصوّر خيالي موجود في عقل أبي عن الساعات التي يجب علينا أن نمتنع فيها عن فتح الماطور لكيلا نعاود غسله.

فهم والدي أخيراً، أن الماء الـ “حلو”، (وهي كلمة تعني أنه ماء يوافق بعض الصفات التي تؤهله للاستخدام البشري)، لا يصل إلى المنازل إلا فجراً، بعد الساعة الثالثة صباحاً.

كان النظام واضحاً، تستيقظ أمي وقت الصلاة، بين الثالثة والرابعة فجراً، وتفتح الماطور، وتتأكد أن الماء الحلو وصلنا، وأنه يصل إلى الخزان. يستيقظ والدي معها ليُصلي، ويشاهد مسلسلاً تركياً قديماً (غالباً قد تابعه أول مرة خلال عامي 2013 و2014 عندما كان يُراقب شقيقتي)، وينتظر بصبر أن يمتلئ الخزان بالمياه، ليُغلق الماطور وينام، وهذه الدورة كاملة قد تصل إلى أربع ساعات من الانتظار والصعود إلى السطح ومُراقبة مستوى المياه في الخزان.  

لكن حتى مع هذا الجدول الصارم، ومع تواجد الكلور في المياه، والذي يضعه والدي فور أن يمتلئ الخزان، أُصيبت أمي، كما أصيب 100 ألف فرد من سكان البصرة، بالتسمم.

في البداية لم نفهم ما المشكلة تحديداً، فجأة صارت شاحبة ومُرهقة، تشعر أن أمعاءها تلتوي وتنكمش على نفسها من الألم، فقدت شهيتها للأكل والشرب، وصار مزاجها معكراً، ولم تمتلك من “طول البال” ما يكفي لتتعامل مع أربعة أبناء سنهم ما بين الخامسة والسابعة عشرة.

حين زارت المستوصف، وجدت عشرات من سكان الحي يعانون مثلها، أخبروها هناك أنها أُصيبت بالتسمم، مثل آلافٍ غيرها في المحافظة، وأن عليها أن تترك مياه الحنفية، وصرفوا لها بعض الأدوية. لاحقاً عرفت أن المرض ليس تسمماً فقط، بل جرثومة معدة أيضاً، وقد لازمت هذه الجرثومة أمي أكثر من سنتين، وصار كل مغص أو شعور غير مُريح يُعدّ إنذاراً بعودتها.

صارت الحنفية فجأة عدواً، مثل شخصية كارتونية في فيلم للأطفال، تخيلنا الحنفية شخصية شريرة تريدنا أن نتسمم.

أصبح كل ما له علاقة بالماء مُخيفاً. الاستحمام؟ لا، سيدخل الماء في عينَي وفمي وأذنَي، غسل الصحون؟ لا، ستعلق الميكروبات أو البكتيريا في صحني، وسأتسمم، غسل اليدين؟ لا!  

أن يتحول الماء إلى عدو لطفلٍ من البصرة، هذا أمرٌ جلل. منذ ولادتي، كان هناك رابط خفي بيني وبين الماء، كل قطرة ماء كانت تعني لي الكثير، ولاحقاً خمنتُ أن السكن في البصرة يعني أن تحب المياه، أن تحب نهر العشار، ونهر الرباط، وشط العرب، ودجلة والفرات، والبرك الصغيرة التي يكونها المطر في الشوارع التي لم تُبلَّط بعد. لِذا، أن أكره الماء في عمر السابعة عشر كان هذا أمراً غريباً.

اليوم، أكتب هذا النص عام 2025، بعد ثماني سنوات من تسمم أمي، تخرجت في المدرسة والجامعة، وأعمل من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة عصراً، وعملي يتطلب الكثير من الاجتماعات، لكن لا مانع من أن آكل عنباً أو أي فاكهة أخرى خلال العمل.

ألجأ عادة إلى أكل الفواكه التي لها قشرة، مثل الموز والبرتقال والرمان، لأنها بعيدة عن ماء الحنفية، لكن اليوم، أحضر والدي عنباً، ونسيت، في لحظة غفلة، ماء الحنفية.

أخذتُ عنقوداً كاملاً من العنب، غسلته بالماء، ووضعتهُ في صحني، وأخبرتُ أمي أن تؤجل غدائي، لأنني سأشبع من العنب، ولأن يومي مليء بالعمل.

كنتُ أتحدث مع زميلتي وآكل العنب، ونحن نعمل على إعداد تقريرٍ مطلوبٍ منا، لكن العنب مالح.

“العنب مالح” جملة غريبة، غبية حتى، ما معنى أن يكون العنب مالحاً؟ كيف يكون العنب مالحاً؟ لماذا العنبُ مالحٌ؟  

قلتُ لزميلتي “العنب مالح”، وضحكنا، تساءلنا كيف يحدث هذا؟ وبعد لحظة صمت، قلتُ لها “غسلته بماي الحنفية”.

تسألني زميلتي: “تتشاقين؟”، أجبت: “أي والله”.

أعدتُ العنب لأمي، وأخبرتها أنه مالح وأني لا أريده، وطلبت منها أن تعجل غدائي. أخذت أمي العنب من صحني، لتضعه في “طاسة” كبيرة من ماء الشرب مع بقية العنب، وتغسله جيداً بعيداً عن ملح الحنفية.

خرجت إلى الحديقة عصراً، أحب الجلوس بجانب النخلة والـ “نبكة” الموجودتين في منزلنا، أنظر إلى التربة حولهما، إنها بيضاء، آثار الأملاح الموجودة في مياه الماطور تحاوط الشجرتين من كل مكان، العشب الأخضر مات معظمه، وشجرة من غصنين أو ثلاثة تقاوم بلا حيلة.  

النباتات لا تنمو في منزلنا، النخلة والنبكة تعيشان فيه منذ التسعينات، لكن في السنوات الأربعة الأخيرة كلما حاولنا أن نزرع شيئاً تقتله الشمس، أو الماء.  

بنى الجيران عمارات من شقق بدلاً من المنازل لتأجيرها، عمارات عالية بما يكفي لحجب الشمس عن الحديقة، وإذا ما جاءت الشمس رافقها الماء المالح. لا يهم متى نسقي النبات أو كيف سنسقيه، سيموت على أي حال. توقف أبي عن زرع أي شيء، لأنه مُرهق من النباتات الميتة، توقف عن مقاومة المياه والشمس، وترك الحديقة بنخلة ونبكة فقط، وشجرة على وشك الموت، وعشب لا يغطي سوى مساحة بسيطة من الحديقة لإرضاء رغبة أمي في الحصول على حديقة حقيقية.

أمتنع عن الاستحمام كثيراً في بدايات أيار وحزيران، أقول لأمي: “الماي يلعب النفس”، رائحته من المجاري، إنه مُقرف، لا غسول ولا “لوشن” ولا صابون ولا “بطيخ” يمكنه أن يزيل الرائحة، أقرف كلما أفكر بالاستحمام به، وأضطر أحياناً إلى ملئه من خزان مياه الشرب، أملأ الـ “طشت” وأقول “يا رب سامحني على هالنعمة الضايعة”.  

أراقبُ القشرة تشق طريقها في شعري وشعر شقيقي، وتنتشر بسرعة، في الشتاء لا تظهر، لكن فور وصول ماء الصيف، تصل معه. كما تظهر التشققات على جلدنا في أماكن مختلفة. أحياناً أشعر بأشياء تتحرك على أصابعي، أنظر إليها فأجد جلداً متشققاً أو ميتاً بسبب المياه، أنزعه عني، وأفكر كم طبقة جلد بقيت لي قبل أن تنتهي هذه الأزمة؟

“همزين إحنا بالمركز”، تردد أمي، كلما رأينا على فيسبوك أو إنستغرام صوراً لسكان الأقضية والنواحي والأماكن البعيدة عن المركز. أمراض جلدية بأسماء أكبر وأعقد من استيعابي، جلودهم متقرحة، ونازفة، وحمراء، ولديهم حبوب كبيرة، لا تشبه الحبوب التي تغزو كتفي وأكتاف أشقائي كل صيف مع تغير الماء، حبوبهم مؤلمة، وتنزف، وألوانها مُرعبة.

أقرأ التعليقات، “كله من الماي”. يخبرني أصدقائي ومعارفي، “بخت أهل البصرة، هم تنطفي يمكم الكهرباء؟” أضحك وأقول لهم، لا، لا نعاني من الكهرباء، ليس في مركز البصرة على الأقل، لكننا نريد المياه.

يتحول أبي وأمي إلى حارسين على الخزان، وأتخيلهم في الصيف يحملون بطاقة حمراء للماء المالح، وخضراء للماء العذب. في أيام الماء المالح، نغسل الملابس، والصحون، ونشطف الحديقة والكراج، ونستخدم ماء الشرب للغسل والاستحمام. تنسى أمي أحياناً أن تخبرني أي بطاقةٍ تحمل اليوم للمياه، مثلما حدث الأسبوع الماضي عندما لامست المياه شعري، قطرة واحدة وجدت طريقها إلى شفتيّ، لا تحتاج حتى أن تصل إلى لساني، يكفي أن تقف على شفتيّ لتُداهمني الملوحة، قطرة واحدة، لا أكثر، لأقول “أهو!” وسط الحمام، قطرة واحدة، لأخرج وأجلب علبة مياه معبئة لأغسل أسناني ووجهي لاحقاً.

نضحك على خالتي أحياناً، تتخلف عن بعض المواعيد والتجمعات عندما يأتي الماء “الحلو”، لأنها تريد أن تستحم دون أن تسب وتلعن وتحترق عيناها من الماء المالح. تسألها أمي “ما تجين اليوم؟” فتخبرها على عجل “لا، الماي الحلو أجا، نريد نسبح أنا والجهال”. وتختفي لساعات.

يُناديني أبي مساءً، لا لأتعشى، بل لأتابع معه تقريراً صحفياً عن نهر العشار، الأسماك الميتة طافية على سطحه، فمها مفتوح كحرف “o”، مصدوم مثلي من المياه.

أشتمُ الحكومة المحلية أحياناً، وأُلحقُها بالمركزية أيضاً، وتصل المسألة إلى أن أشتم أردوغان حتى، لكنني أعرف أن المشكلة تتجاوز “الشيخ” و “الريس”، تتجاوز البصرة ومدن الجنوب، تتجاوز بغداد وإسطنبول ودمشق وطهران، وأن المشكلة لا تنبع من مكانٍ واحد. أعرفُ أن دول الجوار لا تقدم الحصة المائية المُتفق عليها، وأن الحكومة لا تهتم، وأن المزارع السمكية لن تتوقف عن أخذ الحصص المائية خلسة. أعرف أن البصرة لا تعاني وحدها، وأن العطش لا يُفرّق بين جنوب العراق وغربه، وأننا جميعاً على هذه الأرض عطشى.

سد مياه على شط العرب، ومحطة تحلية لمياه البحر، ومنع للمزارع المائية، وقطع حصة محافظة أخرى لتشرب البصرة، ومُقترحات أخرى لا أفكر بها كثيراً، مقترحات إما أن تكون غبية، أو خيالية، مقترحات تُقال للصحافة، وللرِفاق في مجلس المحافظة والنواب، ليسكت الريس ولا يغضب، لكيلا يزور البصرة ويقول “شبيها عطشانة!” مع حواجب مرفوعة وصدرٍ مشدود.

العنب المالح دفعني إلى كتابة هذا النص، وهو أمر تافه، لا يعد أزمة، لكني لم أفكر يوماً أن من بين كل الجمل التي يمكن أن تخترعها اللغة العربية، ستكون جملة “ماما العنب مالح” إحداهن.  

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced