المدى تفتح ملف..العاصمةالأسوأ:مجانين يتّخذون الخرائب مأوى بعيداً عن الرقابة
بقلم : سها الشيخلي
العودة الى صفحة المقالات

لم يخرج علينا مسؤول واحد مبرراً أو معتذراً لأن عاصمتنا بغداد قد احتلت المراكز الأولى في قائمة أسوأ المدن ضمن التقرير الذي أصدرته منظمة ميرسو لنوعية المستوى المعيشي عام 2011 لمعظم دول العالم ،

وكأن الأمر لا يعنيهم ، وكأنهم ليسوا طرفاً في إحراز هذه المكانة التي يندى لها جبين كل مواطن عراقي غيور عندما تطالعه هذه الحقيقة المرّة ، ربما لأنهم لم يشاهدوا بأعينهم ما آلت إليه العاصمة ، لأنهم لم يبرحوا المنطقة الخضراء إلا للسفر أو الإيفاد إلى الدول الأوروبية أو الاسكندينافية ، لكننا تجولنا في مناطق بغداد لننقل لهم صورة حيّة ومن دون رتوش عن بغداد في الألفية الثالثة.
ونبدأ بقلب العاصمة الذي كان نابضاً بالحيوية ورافلاً بالتنظيم والإعمار قبل فترة  ، وكان وجه بغداد الحضاري ، إنها منطقة البتاوين الواقعة إلى الجهة اليسرى من ساحة النصر ، فقد اكتشفنا أن هذا القلب بحاجة ماسة للدخول إلى غرفة الإنعاش .
بلديّة الرصافة
علمنا من بعض سكنة البتاوين أن المنطقة تتبع لبلدية الرصافة ، وهذا ما يجعلنا نعتب على مدير عام البلدية ونسأله هل أتعب نفسه يوما وزار تلك المنطقة ليرى بأم عينه التخسفات والحفر الممتلئة بالمياه الآسنة في غلب شوارع المنطقة؟  هل شاهد أكداس الازبال وهي تسد مداخل الشوارع والمنعطفات ؟ هل كلّف نفسه بالنظر إلى (المنهولات) وشبكات المجاري المسدودة وقد طفحت بمياه الصرف الصحي مع أن دائرة المجاري لا تبعد سوى أمتار عن المنطقة، وهي  قرب المجمع الطبي في ساحة النصر.
سارت بنا السيارة بين أزقة وشوارع ضيّقة لا تمت للحياة بصلة فالأرصفة قد تجمعت فيها  بقايا عربات خشبية محطمة  للباعة المتجولين ، إلى جانب بقايا البناء من أنقاض وبقايا ومخلفات باعة الخضراوات والفواكه ، وتقف عربات تعرض الأطعمة  السريعة من فلافل و( لبلبي )وحلويات مكشوفة للغبار والذباب! ورائحة المجاري تزكم الأنوف ، قال لنا الشاب علي - صاحب جنبر لبيع  السكائر- إن السيارات الحوضية التابعة للأمانة تزور المنطقة دائماً، الا ان المشاكل كثيرة منها طفح المجاري وتتسرب المياه الآسنة الى الأزقة والشوارع الفرعية ، ويوضح علي أن سكنة المنطقة قد ملّوا من كثرة المراجعات من أجل نظافة المنطقة لكن لا أحد يرى ولا يسمع شكوى المواطن وأن الحكومة لا هم لها إلا التناحر في ما بينها للحصول على أكبر قدر من الكعكة التي تقاسمتها الأحزاب بعد الإطاحة بالنظام السابق .
من الملاحظ أن المنطقة قديمة؛ فالبيوت متهالكة والشناشيل حزينة وصامتة صمت القبور، بعض من تلك البيوت أصبح مخزناً للمذاخر الطبية  التي انتشرت في المنطقة ، إلى اليسار من جامع الأورفلي هناك شارعان يضمان العديد من تلك البيوت التراثية ذات الشناشيل، بعضها مسكون، والبعض الآخر ما زال في انتظار السكن ، ومن اللافت للنظر كثرة الخرائب والبيوت المهدمة وقد علتها تلال من الازبال ومخلفات المحال، والمنازل تتكاثر فيها القطط ويتوسدها المتسولون ،ورغم كثرة الحاويات فان اكداس الازبال كانت متناثرة في منعطفات الطرق.
كانت الشوارع هادئة لا حياة فيها، قال لنا أحد المارة إنها تضم أكبر بيوت الدعارة في بغداد ، كما تضم عصابات ومدمني المخدرات ومحتسي الكحول ، فقد كان الوقت عند زيارتنا تلك المنطقة هو الظهيرة والساعة شارفت على الثانية عشرة والنصف، مع ذلك وجدنا شبابا بشعور مسترسلة ووجوه متسخة وملابس قديمة ، يتناولون الكحول على الرصيف مقابل الكراج الكبير ، وعندما مررنا بهم اخفوا القناني وراء ظهورهم!
بطالة وفقر ومجانين
عند دخولنا المنطقة تطلعت إلينا وجوه متعبة حزينة لرجال متسولين ومدمني المخدرات والكحول ومجانين ( رسمي ونص ونص )  ، حتى خيّل لنا أن شخوص روايات الكاتب جارلس ديكنز قد عادت الى الحياة من جديد ، في إحدى الخرائب كان هناك ثلاثة من المجانين وجدنا أحدهم  يستلقي وقد وضع ساقاً على أخرى ، أردت الاقتراب منه وطلبت من المصور أن يلتقط صورة له  لكنه انتفض ولوح لنا بعصا غليظة، مهددا ربما لأننا قطعنا عليه تأمله وشوشنا أفكاره ! دخلنا المحل الملاصق لتلك الخرابة لنسأل صاحب المحل عن هوية هؤلاء ، فقال لنا أحمد ( 16 عاماً ) إن هذه الخرابة هي المأوى لبعض المجانيين والمتسولين يتخذون منها مقراً لهم ولكن بصورة مؤقتة ، إذ سرعان ما ينتقلون إلى مكان آخر ، وهم يهاجمون كل من يتقدم إليهم ، وهم يحتسون الكحول ، حيث قال أحمد إن هذا المكان لا يخلو أبداً من مجانين يذهبون وآخرين يحلّون ، ووجدنا  وجوهاً كالحة متعبة تعاني الفقر والحرمان ، استوقفنا أحدهم لنسأله عن حاله، فقال حيدر(20) عاماً يحمل الشهادة الابتدائية فقط  انه يعاني البطالة وقد راجع مكاتب التشغيل في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ولم يحصد سوى الوعود، وقد تعب منها وتركها، وأنه يعمل يوما ويبقى من دون عمل عشرة أيام! فهو يعمل أحيانا في المطاعم المنتشرة في المنطقة ، يتساءل حيدر لماذا لا تعالج الحكومة مشكلة البطالة لدى الشباب؟ ولماذا تسمح بدخول العمال الأجانب والعامل العراقي يبحث عن عمل ؟ ويؤكد أن أغلب الشركات تفضل العمال الآسيويين وتشغلهم حتى بشكل سري، وهم ينافسون العامل العراقي، فقد طردني صاحب المذخر الذي كنت أعمل لديه منذ سنتين وجاء بعامل من بنكلادش!
وأنت تسير في منطقة البتاوين تجد أن عدد المتسولين في تزايد ملحوظ ،وقد كانت الأكف تمتد إلينا عبر زجاج السيارات ، أين منهم وزارة الداخلية أو وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بل جمعيات حقوق الإنسان التي قال عنها مسؤول في وزارة حقوق الإنسان  إنها أكثر من 90 منظمة ؟وأين منهم رجال الدين الذين يتحدثون عن الرحمة والتكافل الاجتماعي؟ لماذا لا تخصص الأوقاف الشيعية والسنية مبالغ للمحتاجين والمعوزين الذين أخذت أعدادهم بالزيادة ؟ الإحصائيات التي تشير إلى البطالة والصادرة عن الدوائر المعنية غير دقيقة، فالمتسولون يملأون الشوارع والساحات، وأن منطقة البتاوين تعج بهم ، المتسول محمد 40 عاماً استوقفنا بعد أن قال له أحدهم إننا صحافة ، أفاد محمد بأنه كان يعمل صباغا للدور وأن لديه أربع بنات، لكنه فقد عمله إثر إصابته في رجله ، وصار يستدر عطف المارّة ، وأشار محمد الى أن الحكومة لا هم لها سوى الحصول على المغانم ، أما المواطن فهي لا تعرف عنه شيئاً ، وعندما قلنا له لماذا لا يذهب إلى شبكة الحماية الاجتماعية، أجاب أن ( المشتكى لله وحده ) وبعد أن أعطيناه بعض النقود قرأ لنا محمد بعض القصائد الغزلية.
مدارس مزدوجة
مع كل ذلك الواقع البائس فهناك أيضا عدد غير قليل من المدارس الابتدائية المختلطة، ومن الملاحظ أن أغلب تلك المباني المدرسية قديمة ومزدوجة الدوام ويرجع تاريخ بنائها إلى ما قبل 50 عاما ، فمثلا مدرسة السعدون الابتدائية المختلطة تتقاسم الدوام مع متوسطة أخرى للبنين ، مما يربك طلاب المدرستين معا ،ودخلنا المدرسة فوجدناها قديمة البناء وجدرانها تعلوها الرطوبة ، ما يؤثر سلبا في صحة الطلاب،  أوضح مدير المدرسة ماجد الربيعي أن المبنى مستأجر لذلك لا تهتم به وزارة التربية  ، كما أن الصفوف مكتظة ومزدحمة بالتلاميذ، وأن أثاث المدرسة قليل وقديم ، وشاهدنا أولياء أمور بعض التلاميذ ينتظرون خروج الأبناء لاصطحابهم إلى المنزل، فالمنطقة كما يؤكد ساكنوها تعاني تدهور الوضع الأمني وأن عصابات خطف الصغار منتشرة فيها، كما تتعرض دوما إلى سرقات ، وبيّن والد أحد التلاميذ أن عصابة مجهولة قد خطفت أحد التلاميذ الصغار من أجل ابتزاز أهله، لذا عاش كل من الطلاب وأهلهم الرعب والخوف وهو مؤشر أكيد على تدهور الأمن في المنطقة ، كما يؤكد ذوو الطلبة أن التفجيرات قد ازدادت في البتاوين وحالها حال المناطق الأخرى من بغداد.
مركز صحي واحد
رغم أن المنطقة مأهولة بالسكان إلا أنها لا تضم سوى مركز صحي واحد لا تراجعه غير العوائل الفقيرة جدا ، لأنه على مدار السنة خال حتى من المسكّنات البسيطة ، ومنها البريستمول، كما قالت إحدى السيدات التي شكت عدم وجود اللقاحات للأطفال حديثي الولادة، ومنها لقاح البي سي جي ، وأكدت تلك السيدة أن الجيل القادم سيكون معلولا غير محصن لا صحيا ولا اجتماعيا ولا حتى تربويا! فالتعليم متدهور ، والمجتمع يعاني الفقر والحرمان ، وصحة الفرد في تراجع لعدم كفاية المراكز الصحية والمستشفيات التخصصية ، صحيح أننا هنا في منطقة الأطباء حيث تكثر العيادات الطبية والمجمعات الطبية، ولكن من هو ذلك المواطن القادر على مراجعة هؤلاء الأطباء وقد ازدادت أسعار الفحص والدواء بشكل يدعو إلى الاستغراب .تتساءل المواطنة أم بشرى التي كانت تحمل طفلة عمرها 3 سنوات، وقد  خرجت غاضبة من ذلك المركز الصحي، وهي تتحدث مع نفسها، هل زار هذا المركز مسؤول؟ سواء كان وزيرا أو نائبا ليرى بعينه ما آلت إليه المراكز الصحية التي ما وجدت إلا لخدمة المواطن الفقير، وعندما سألناها عن سبب تذمرها وغضبها، بيّنت:  في عز الشتاء والمركز يشكو فقدان أدوية وشراب السعال للأطفال ، لماذا لا يتم غلق هذا المركز الذي يتم احتسابه مركزا صحيا علينا ،وهو يخلو من ابسط أنواع الأدوية! وتساءلت أين هو وزير الصحة ؟ ليرى معاناة المواطن الفقير .
أسواق عشوائية
يمتاز سوق البتاوين  بالعشوائية وعدم التنظيم، كما وجدنا محال بيع الخضراوات وبيع اللحوم وعربات الأسماك وباعة الطيور إلى جانب عربات تبيع الأكلات الجاهزة ومطاعم الدرجة الثالثة والمقاهي  وورش تصليح السيارات ، ومحال تغليف الجدران ومحال صناعة الكاونترات وبيع الألمنيوم ومحال الصيرفة  كلها تشكلها لوحة سريالية لمنطقة بعيدة عن التنظيم، وتفتقر إلى النظافة والترتيب ، أما عن المرور والطرق في تلك المنطقة فمع وجود مرآب كبير في منتصف المنطقة، فقد أحاطت به تلال من الازبال، كما كانت  السيارات تسد مداخل الشوارع وحركة المرور تسير ببطء، فالشوارع الفرعية مزدحمة وغالبا ما نسمع الشتائم والكلام البذيء جاريا  بين سواق السيارات بسبب الدخول عكس السير، أو الوقوف المفاجئ.
استغرقت جولتنا في تلك المنطقة ساعات، وجدنا فيها أنواعا من السلبيات وحياة الفقر والإهمال والفوضى وصرنا نبحث عن ايجابية واحدة لكننا فشلنا في إيجادها. وللمسؤولين عن بغداد نقول إن إحراز بغداد هذه المرتبة المتدنية من سوء الخدمات تتحملون جزءاً من أسبابها، إلى جانب تدني  المستويات المعيشية وحركة المرور والمدارس والأنشطة الترفيهية والاستقرار الداخلي، إضافة إلى العوامل الاقتصادية التي كانت سبباً في حصدها هذه المرتبة المتدنية ، فإذا كان التصنيف في ذلك التقرير يعتمد على 39 معيارا، فقد وجدنا في جولتنا أكثر من تلك المعايير بكثير!

  كتب بتأريخ :  الجمعة 09-12-2011     عدد القراء :  1934       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced