لماذا تسقط ثمارُ الثورات العربية المدنية في سلةِ الإسلام السياسي؟!!
بقلم : د. فارس كمال نظمي
العودة الى صفحة المقالات

برهنت التجارب السياسية للبشرية أن التغير الاجتماعي بشقيه السلمي والعنفي كثيراً ما يتبع مساراتٍ غير نمطية وغير متوقعة، وإنه قد يُنجَزُ بآليات وأدوات متنوعة بحسب درجة تطور الوعي المعارِض الذي يمر به أي مجتمع في مرحلة تأريخية معينة.

وللكشف عن ديناميات هذا التغير، فلا مفر من العودة في كل مرة إلى السؤال الخالد: ((هل إن ايديولوجيا الحركات السياسية في أي مجتمع هي التي تنتجُ اتجاهاتِ الوعي السياسي السائد في ذلك المجتمع؟ أم إن اتجاهات الوعي السياسي السائد في أي مجتمع هي التي تنتجُ حركاتٍ سياسية تتبنى ايديولوجيا معينة؟)).

إن جدلية هذا السؤال تقتضي بالضرورة عدم وجود إجابة واحدة عليه. فالنسبيات التأريخية تؤدي دوراً حاسماً في تحديد نمط العلاقة التأثرية والتأثيرية بين النخب السياسية وسلوك الجماهير. وهذا يعني أن الحراك الجماهيري التلقائي يمكن في حالات معينة – كما في الثورات العربية الأخيرة- أن يسبق الحراكَ السياسي التنظيمي للجماعات المؤتلفة في أحزاب أو نقابات، لا سيما في ذروة انبثاق التحولات النوعية من التراكمات الكمية للمظالم المهينة لكرامات البشر وكبريائهم الآدمي. وعندها تنتقل بوصلة الفعل التغييري من تلك الجماعات الحزبية أو النقابية الساكنة إلى جماعات أكثر ديناميكية وحداثويةً واتصالاً بالضرورات الموضوعية لتلك التغيرات الاجتماعية الحتمية.

وإذا كانت "الثوراتُ قاطراتُ التأريخ" كما قال "ماركس"، فإن قيادة تلك القاطرات ليس مرهوناً بنسق ايديولوجي ثابت، بل يخضع إلى حقيقة أن ما يصنع الثورات على الدوام هو التناقض بين حاجات الناس وواقعهم، حتى لو جاء هذا التناقض أحياناً دون غطاء ايديولوجي محدد المعالم، كما حدث مؤخراً في ما بات يُعرف بـ"الربيع العربي".

فاليسار التنظيمي التقليدي، بتياراته الماركسية والقومية والديمقراطية، كان دوره محدوداً جداً بالمقايسة مع الروح اليسارية الراديكالية التي اتسمت بها الجموع الثائرة غير المؤطرة في تنظيم سياسي محدد. ويحيلنا ذلك إلى فرضية أن "اليساروية" هي في الأساس اتجاه نفسي عقلاني يعتمل في كل شخصية بشرية مظلومة أكثر من كونه هويةً لعقيدة محددة يعتنقها تنظيم أو حزب معين. فاليساروية الشعبوية المدنية العربية سبقت قوى اليسار التقليدي المنطوية على طروحاتها المصطلحية التبسيطية للعالم.

امتازت هذه الثورات بكارزما جمعية مدنية عابرة للطبقة والايديولوجيا والدين، مصدرها التواصل الاجتماعي بنوعيه التقليدي والإلكتروني الذي أتاح فرصة فريدة وهائلة لتنامي الوعي بضرورة استعادة الحقوق المدنية المستلَبة من الاوليغارشيات الفاسدة المستمرة باغتصاب السلطة منذ عقود. فالمحرض الأساسي للثورات العربية لم يكن الاستبداد والظلم الاجتماعي بحد ذاتهما، ولكنه الوعي المتنامي بهما وبضرورة التحرك ضدهما لدى فئات شبابية شكلت الأغلبية الديموغرافية لمجتمعات أنتجت وعياً مدنياً يدمج فكرتي العدل والحرية في إطار جدلي أتاحه التطور المذهل لقوى الانتاج التكنولوجي.

وهنا أذكّر أن هذه الشبيبة المشبعة بقيم التنوير المدني، قد أنجزت خلال أسابيع قليلة ثورتين باهرتين في تونس ومصر، دون أن يعني ذلك أنها ستكون قادرة بالضرورة على حقن قيمها الفاضلة هذه في جسدي الدولة والسلطة على نحو سريع ومباشر، إذ تشير التطورات الأخيرة التي أعقبت شهور التغيير الأولى إلى أن ثمة أسلمة سياسية شرعت بالزحف إلى صناديق الانتخاب لقطاف الغرس الذي أنبتته دماء الثوار المدنيون. وهنا يطل المنطق الديالكتيكي برأسه من جديد: إن الفئات المغيرّة لوجه العالم، ليست بالضرورة هي الفئات التي تحكمه على الدوام. 

فمن وجهة نظر تكنيكية أسلوبية، يمكن للمراقب أن يلحظ بوضوح أن أحزاب الإسلام السياسي باتت تستفيد من الإطار المطلبي العدالوي الذي دأب اليسار على تبنيه طوال تأريخه، إذ أخذت تقتبس برامجَ اليسار الإصلاحية في مجال الخدمات والضمانات الاجتماعية ومكافحة الفساد والفقر، ولكن بإطار إسلامي كما لو إن هذه المطالب تستند إلى ضرورات دينية شرعية لا إلى حاجات بشرية طبيعية. وهذا يؤكد أن ما يحدث اليوم في تونس ومن بعدها مصر، ليس صراعاً ايديولوجياً طبقياً فحسب، ولكنه أيضاً صراع إرادات سياسية توظف فيه مباديءُ علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي على نحو تكتيكي فاعل.

إن القواعد الشعبية للإسلام السياسي بمجملها اليوم هي ذاتها قواعد اليسار قبل عقود؛ أعني بها طبقة الفقراء والطبقة الوسطى، بكل ما تتضمنانه من تقسيمات فرعية، كفئات النساء والعمال والعاطلين والموظفين والمثقفين والتكنوقراط. ولذلك فأزمة اليسار اليوم تتمثل في كيفية استعادة هذه القواعد التي فقدها ليس بسبب أحقية الإسلام السياسي أو جدارته الفكرية والأخلاقية، ولكن بسبب الفراغ والخواء السياسي والهوياتي والوجودي الذي أشاعه صعود الأنظمة الاستبدادية العربية ثم تهاويها المفاجيء، وأيضاً بسبب براعة اللاهوت السياسي في رشوة المحرومين والمهمشين والمستلبين بصكوك الخلاص الإلهي "المكدسة" في خزائنه.

إن واحداً من أهم أسباب تنامي هذه النزعة الماورائية لترحيل المشكلات الأرضية إلى عالم السماء، هو إحباط الجماهير ويأسها من قدرة اليسار وفاعليته التي أصابها الإخفاق "موضوعياً" نتيجة القمع المنظم الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية حيال قوى اليسار السياسي والثقافي طوال أكثر من نصف قرن ما أدى إلى إطلاق الخيار الغيبي بديلاً سيكولوجياً عن الخيار الواقعي الذي بشّر به اليساريون؛ و"ذاتياً" نتيجة حشر اليساريين لأنفسهم في إطار دوغماتي مثالي بتأثيرات مناخ الحقبة الايديولوجية السوفييتية، وبتأثير تفكيرهم النمطي الذي يرى في التحليل السياسي الصرف الوسيلة الوحيدة لفهم الظواهر واقتراح الحلول دون أي محاولة حقيقية لإدماج مناهج العلوم الاجتماعية - المتطورة أصلاً عن الفلسفة الاجتماعية للماركسية - في بنية عملهم السياسي، الأمر الذي حرمهم من إمكانية تأسيس إطار ثقافي تنظيمي متجدد يستوعب حاجات الناس وفعلهم الاحتجاجي.

إن هذا التحليل يعيدنا من جديد إلى فرضية أن فهم التطور السياسي لأي جماعة بشرية، يتطلب أولاً وقبل كل شيء البحث في ديناميات الهوية وتمظهراتها الجمعية في سلوك تلك الجماعة. فالناس ينزعون ويرتدون هوياتهم السوسيوسياسية بنفس سرعة وإيقاع بحثهم عن المعنى والأمن واحترام الذات فردياً وجمعياً. إن الفراغ النفسي والوجودي العميق الذي بات يستشعره الفرد العربي بعد لحظة التغيير السياسي الكبرى التي يشهدها اليوم، وما رافقها من اهتزازٍ في تنميطه الهوياتي بتأثير زوال أو تفكك البنية السلطوية التي منحته معنى وتماهياً اجتماعياً جامداً على مدى عقود، هو الذي يدفعه إلى ارتداء الهوية الـتأسلمية على عجالة ما دامت تحقق له أمناً نفسياً في لحظة قلق مريرة تشهد فيها أعماقه صراعاً لا شعورياً دفيناً بين أنماط هوياته المحتملة، سيما أن أحزاب الإسلام السياسي نجحت بمواردها المالية وخبراتها السياسية المتراكمة من جراء ممارستها للمعارضة العلنية والسرية طوال أكثر من نصف قرن، بتوفير إطار تنظيمي يستوعب تلك الهوية التأسلمية.

فالأمر لا يتعلق بصراع الايديولوجيات الظاهري فحسب، بل يتعلق أيضاً بالبحث البشري المستميت عن هوية اجتماعية آمنة وسط عالم مضطرب لا يُعرف له معيار مؤكد. ودون هذا الفهم التطويري للفكر السياسي، لن يجد اليسار العربي له مكاناً في خارطة الـتأثير السياسي في بلدانه.

وأقول أبعدَ من ذلك، إن انبثاق يسار جديد فاعل بات مرهوناً بفهم الطبيعة النفسية الآنية للشعب، وبطرح رؤية إصلاحية توعوية تأخذ بالحسبان ما يعانيه الفرد العربي من قلق وجودي وتشتت هوياتي، وتسعى في الوقت ذاته لابتكار أساليب في العمل السياسي تدفع ذلك الفرد نحو آفاق عقلانية عملية تسامحية بدل أن يظل متعلقاً بغيب افتراضي تعصبي النزعة.

إن جوهر الحراك البشري ومصيره يظل مرهوناً بالصراع حول إشباع الحقوق الأساسية للناس، وأيضاً إرضاء حقوقهم المصطنعة غير الأساسية التي أنتجها التداول غير العادل للثروات والحقوق على مدى الـتأريخ وما رافقه من تأسيس منظومات ثقافية وقوانينية وعُرفية لاعقلانية.

إلا إن التأثير ببعض مسارات هذا الصراع لصالح الأغلبية المحرومة، في عصر تكنولوجيا المعلومات والعولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، يظل ممكناً وفاعلاً فقط بتجديد أساليب التفكير وإعادة طرح الأسئلة القديمة الأصيلة عن صراع الطبقات وتطور وسائل الإنتاج وعلاقاته، ومناقشتها برؤية أكاديمية حداثوية توظف أهم مكتشفات العلوم الاجتماعية، لصياغة إجابات فكرية استشرافية تؤسس لأساليب جديدة للعمل السياسي الجماهيري. وتلك مهمة اليسار الجديد الذي يقيناً إنه بات بطور التشكل والتأسيس.

فعالمٌ تتسيده الأوليغارشيات والكارتلات والفتاوى الكهنوتية، ستظل أغلبيته المحرومة والمستلبة باحثةً ومؤسسةً ليسارات جديدة على الدوام يصنعها الوعي المتجدد والمتقدم والمنبثق جدلياً من تخلف الأمس وآلامه.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 27-12-2011     عدد القراء :  1874       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced