مظاهر (اللنكة).. صور حيّة للفقر العراقي المزمن
بقلم : عبد الكريم العبيدي
العودة الى صفحة المقالات

في العراق جوع متوارث، يبث صورا متعددة بالأسود والأبيض ليلا ونهارا. تظهر  بجلاء في طور الطفولة أولا كأجساد نحيلة وعليلة (وبالية)، وكشعور مشعثة  وجافة، وكثياب رثة وممزقة (لنكة)، وكوجوه مصعوقة وأقدام حافية وألعاب  بدائية قديمة ثيمتها الطين والحصى والرمل والعظام وأغطية القناني والخرق  البالية

و.... كدمى مستعملة، أو قل نفايات كنستها الدول الغنية من ربوعها الخضراء لتصلنا، ولله الحمد (كبالة/ لنكة) وتتمظهر في نهارات وليالي الحياة العراقية.
في العراق جوع (سبور)، يمضي قدما باضطراد، وأبطاله الكبار، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، تراه بإمعان في دشاديشهم وسترهم ومعاطفهم وسراويلهم وقبعاتهم وقماصلهم وجواربهم وأحذيتهم ونعالاتهم، وتراه في أعراض أمراضهم ومعاناتهم وكدحهم وصبرهم وتذمرهم.
في العراق جوع حقا حقا، يتصدر حوارات الناس في الشوارع والمقاهي والمدارس والبيوت وداخل سيارات الأجرة وفي الصحف والمجلات ونشرات الأخبار والتقارير وفي الأمثال الشعبية و"السوالف العتيكة" والنكات والطرائف القديمة والمستحدثة، جوع مزمن كأساطير وخرافات موغلة في القدم ، يتناقلها الأجداد إلى الآباء والأمهات، ويرويها الآباء إلى الأبناء، ويدسها الأبناء في قلوب الأحفاد، "وعلى هالرنه اطحينك ناعم"!
مهرجان ما زال وما يزال
ما زال بعض العراقيين يشربون ماء الأنهر ويستحمون به ويحملونه بالصفائح الصدئة والبراميل (المزنجرة) ويستخدمونه لأغراض الطهي وغسل أواني المطبخ وغسل ثيابهم ما ظهر منها وما بطن، وما يزال الكثير من العراقيين يتناولون أقراص الخبز مع الشاي (الحصة) الرديء كوجبة فطور، ومع الخضراوات كوجبة غداء، ومع الطماطم كوجبة عشاء – إن صح لهم هذا!
ما زال الكثير من العراقيين يشبعون (أعينهم) بالنظر المقرون بالحسرة إلى الفواكه المستوردة على اختلاف أنواعها وأشكالها، وما يزال العديد منهم يحدقون في (لشش اللحوم المعلكه من اكراعهه) في محال القصابة ويحلمون بالتشريب والقوزي والكباب والتكة والمعلاك والشيخ محشي، ثم يعودون كما هو عهدهم دوما إلى (الكرشه والمصارين والفشة والعظام المعزولة على عتبات محال القصابين القساة).
ما زال وما زال الكثير من العراقيين يشمون رائحة السمك المسقوف أو اللابط في مياه عربات بيع الأسماك ثم يعرجون إلى شراء أسماك (الزوري والخشني) ليمنوا أنفسهم برائحة (الزفرة) وليرددوا مثل غيرهم المثل العراقي القديم (مثل السمكة ماكولة مذمومة)!، بل ما يزال، ما يزال دون شك العديد منهم يطالع الدجاج المشوي والمقلي والمعروض في الأسواق بكل أصناف ماركاته القديمة والجديدة ثم يكتفي بشراء البيض انطلاقا من الأهزوجة العراقية الدارجة (مسمارج منج يا لوحة)!.
ما زال العراقيون ينظرون بنصف عين إلى الملابس المستوردة المعروضة في واجهات المحال الزجاجية، والى الأحذية والشحاطات والملابس الداخلية على اختلاف أنواعها ثم يتسللون سرا أو علنا الى أسواق (اللنكة/ الرحمة)!، ليستروا عوراتهم ويدفئوا أجسادهم بملابس البالة الحمراء والصفراء والخضراء والخاكي، ليظهروا وكأنهم في حفلة تنكرية مجانية شعبية، وما يزال العديد منهم مثابرا ليلا ونهارا على تناول لفات (الفلافل دبل) كغذاء يومي لا سبيل لفراقه، ولا فرج غيره باعتباره المادة الغذائية الوحيدة المتيسرة والغنية بالفيتامينات التي يسمعون عن (أيها وبيها وسيها وديها) ويسخرون منها في نكاتهم اللاذعة.
ما زال العراقيون، ويا للأسف ينظرون إلى صورة الدولار عبر زجاج واجهات محال الصيرفة ويدندنون بهمس: (مخطرتش على بالك يوم تسأل عني)!؟، وما يزال جميعهم، ويا للأسف يتعاملون بالدنانير والأرباع (المشككة) بعدما (زهكوا) من (فلوس صدام المزورة منها أو الطبع ذات (الخط ونخلة وفسفورة).
ما زال العديد من العراقيين يسكنون في بيوت الصفيح والطين والصرائف والبلوك المسفط والمباني الحكومية المنهوبة وتحت الجسور وفي مناطق (الشيشان)، وما يزال الكثير منهم تفتك به أنواع الأمراض المعروفة والغريبة، والمزمنة والطارئة، والمكتشفة أو التي ما زالت في أنابيب المختبرات الطبية.
ما زال العراقي يقف أمام الصحف العراقية المعروضة على الأرصفة كل صباح باحثا عن خبر مزمن وعراقي بامتياز، (زيادة رواتب المتقاعدين، زيادة رواتب المعلمين)، ولكنه لم يعثر يوما على فرص عمل للعاطلين، ولم يحصل يوما إلا على مزيد من البؤس والقهر والحرمان وال....... جوع!.
ما يزال، نعم ما يزال وسيبقى العراقي يلعن ذلك اليوم الذي ولد فيه ومعه مهرجان الـ (ما زال وما يزال)، صفة سترافقه وهو ميت لثلاثين عاما قبل أن يموت ميتة أخرى ليبرهن بيقين على جملة شعرية شعبية عراقية شهيرة: (عمر وتعدى التلاثين لا يفلان).
جوع.. جوع
في العراق مجاميع من المتسولين تتوجه "مثلنا" كل صباح إلى أماكن عملها التي باتت مقار ثابتة لهم منذ أعوام. فمنهم من "احتل" أبواب الجوامع والحسينيات والكنائس والدوائر الحكومية. ومنهم من يستجدي أصحاب السيارات الفارهة وسائقي سيارات الأجرة والركاب. ومنهم من وجد ضالته في الأسواق والشوارع والأرصفة.
فرق الشحاذين في بغداد باتت كثيرة وتعمل بآمرة "شقاوات" يوفرون لهم السكن والحماية مقابل الاستحواذ على أغلب أموالهم، التسول ظاهرة اجتماعية سيئة يصنعها الفقر وانقطاع صلة الرحم وعدم توفر الرعاية الاجتماعية من قبل الدولة لانتشالهم من هذا العناء والبؤس، خصوصا وأن أغلبهم من كبار السن والعجزة.
الشحاذون في العراق كثر. وصور التسول تعددت. منهم من يرتل آيات من المصحف الكريم، ومنهم من يردد أشعارا دينية بصوت عال. وثمة من يزعم أنه بحاجة لشراء أدوية باهظة الثمن لإنقاذ زوجته من الموت. وهناك من يدعي أنه غريب وقد تقطعت به السبل ولا يملك أجرة العودة الى محافظته. أما حين تشتد المواجهات وأعمال العنف في مدينة ما ويضطر سكنتها إلى مغادرتها فسرعان ما يزعم الكثير من المتسولين أنهم من سكنة تلك المدينة وأنهم باتوا بلا مأوى ويعيشون في العراء.
في تقاطع "المعسكر" الذي يشهد زحاما خانقا طيلة ساعات النهار، يطوف العديد من المسنيين والعجائز والصبية حول العربات المتوقفة ويشرع بعضهم بمسح زجاج النوافذ بيد ويبسط يده الأخرى للاستجداء فيبادر القليل من السائقين بمنحه ورقة نقدية لا تستحق الذكر.
وقرب إحدى سيطرات التفتيش أشار سائق الى فتاة شحاذة تستجدي ركاب العربات وقال أنها "ذكر" وليس أنثى ولكنه يرتدي ثوبا نسائيا وحجابا ليحصل على المزيد من عطف الناس وشفقتهم!.
في الكثير من أزقة بغداد وشوارعها يتوزع الكثير من الباعة المتجولين لبيع المناديل الورقية الرخيصة وقطع الإسفنج والمهاف والقبعات والحلويات والسكائر. وغالبا ما يلجأ أغلبهم إلى التوسل والإلحاح لدفع الركاب والمارة على شراء حاجاتهم من باب الإشفاق ليس غير. فبات "المجبر" على الشراء مضطرا لشراء أية حاجة ليصرف الباعة عنه ويتخلص من منغصاتهم.
وليس غريبا أن نجد بين الباعة هؤلاء شيخا طاعنا في السن نحيفا ومحني الظهر يعرض علبة علكة رخيصة ويتوسل المارة لشرائها. أو نجد امرأة عجوز بصيرة يقودها صبي أشعث الشعر ويرتدي ملابس رثة، وهي تبيع المشروبات الغازية "وتطالب" الركاب بمساعدتها لإعالة أيتامها.
وليس غريبا أن نشاهد الكثير من الأطفال المتسربين من المدارس وقد تحولوا إلى منظفين وصباغي أحذية وباعة متجولين في الأرصفة والأسواق أو حمالين وأصحاب "جنابر".. وليس غريبا أيضا مشاهدة عائلات عراقية بأكملها تنتشر في الكراجات والشوارع والأرصفة لبيع الشاي والأكلات الخفيفة والمرطبات على مدى ساعات النهار الطويلة.
وبقدر ما ينتج عن الفقر وسوء الأحوال المعيشية من صور البؤس هذه، فإنه يدفع بشرائح اجتماعية كثيرة إلى الشذوذ والانحراف والتغريب والتهميش. ولطالما لجأ الكثير من الشباب والأطفال إلى بيع المخدرات وحبوب الهلوسة والصور الإباحية. وكنتيجة طبيعية لاتساع آفة الجوع التي تفتك بملايين العراقيين وسط انتشار أعمال العنف، برزت ظاهرة ما يعرف "بتجارة الدم" وبيع الكلى بين أوساط الشباب المتسكعين في الشوارع والمقاهي والحدائق العامة، وصار لها سماسرتها "وبورصتها".
الى ذلك أعلنت بعثة الأمم المتحدة في العراق في وقت سابق ، ان نسبة الفقر في البلاد تصل إلى 23% مؤكدة أنها تعمل على خلق فرص عمل للشباب في قطاعي النفط والغاز وبناء قدرات المؤسسات الحكومية للاستفادة من الخبرات.
وقال المدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق بيترو بتشيلور خلال مؤتمر صحفي عقد بمقر الأمم المتحدة في بغداد في وقت سابق  إن "نسبة الفقر في العراق وبحسب الأرقام المسجلة لدى الأمم المتحدة تصل إلى 23 %"، مبينا ان "الأمم المتحدة تعمل على خلق فرص عمل للمواطنين في قطاعي النفط والغاز".
وأوضح أن "البعثة تقوم ببناء قدرات المؤسسات الحكومية ومجالس المحافظات للاستفادة منها"، مشيرا إلى أن "أحد أكبر التحديات التي تواجه العراق هو الافتقار إلى القابليات التقنية التي تؤطر تقديم المساعدات إلى المستفيدين وهناك ثغرة في القدرات الفنية لتقديم المساعدات".
بدورها قالت الأمين العام المساعد للأمم المتحدة أمة العليم خلال المؤتمر، "تبقى الأمم المتحدة  في خانة الملتزم بدعم العراقيين الذين يجب ان يكون برنامجهم الوطني هو الأساس لأي عمل تقوم به الأمم المتحدة وخاصة في موضوع الفدرالية لسلامة العراق واستقراره".
لا خيار سوى اللنكة
أسواق البالات في العراق تنتعش مع انتعاش الفساد المالي والإداري، ومع انتشار الرشا والمحسوبية والصفقات والشركات الوهمية وكثرة (الحرامية) والمليارات التي ضاعت والمليارات التي ستضيع والشهادات المزورة والتعيينات (ابكم ورقة كاش)، (وضاع أبتر بين البتران).
أسواق اللنكة تتكاثر وتتسع، وروادها (خير امن الله) بسبب تزايد الفقر وارتفاع المدفونين تحت خطه الأسود، وارتفاع جحافل العاطلين عن العمل في ظل ارتفاع الأسعار واتساع الهوة بين (الحرامية والفكور)، وإلا لماذا يشتري العراقي لأولاده وبناته ملابس العيد وملابس بدء العام الدراسي من اللنكة!؟، ولماذا يعود إلى اللنكة التي هجرها بعد سقوط النظام السابق وعهده التسعيني الحصاري الأجرب لو لم تهبط القدرة الشرائية إلى الحضيض!؟، بعدما انتعشت/ تنفست الحالة الاقتصادية للموظف بعد عام 2003، نتيجة للتحسن الذي طرأ على المرتبات وافتتاح السوق العالمية أمام التجار، لكن الأمر لم يدم طويلا بسبب ارتفاع أسعار السوق المحلية دون حدوث تحسن مؤثر في راتب الموظف إلا بنسبة قليلة، لا تتناسب مع الارتفاع الجنوني في أسعار السوق وجشع التجار، إضافة إلى تعثر مفردات البطاقة التموينية ذات المنشئ الرديء للغاية!
الحل إذن يبقى في اللنكة، وهو خيار شريحة واسعة من العراقيين من متوسطي وضعيفي الدخل والمسحوقين ومنهم تحت خط الفقر في مختلف مدن العراق، الذين يتوجهون إلى أسواق البالة لتأمين حاجاتهم وحاجات أطفالهم.
وبعد التاسع من نيسان عام 2003 غزت العراق السيارات المستعملة أو ما يعرف بالمنافيست، وأصبح سوق العراق، (سوق اللنكة) مشهورا بإيواء هذه النفايات، التي باتت مصدرا من مصادر التلوث البيئي.
وتقوم بعض العوائل بشراء العاب الاطفال من "البالة " بسبب عدم قدرتهم على شراء اللعب الجديدة ، الى ذلك يحذر الطبيب جاسم حنون من خطورة هذه الألعاب حيث يقول  "هذه الألعاب  يجب ان يصرح ببيعها في الأسواق من قبل وزارة الصحة لكن غياب دور الوزارة دفع إلى ان تصل إلى يد الأطفال الصغار وهؤلاء غالباً ما يضعونها بأفواههم وبالتالي احتمالية انتقال الأمراض لهم تكون كبيرة جداً، لذا أرى إن هذه الألعاب كارثة بحق أطفالنا وانصح بعدم شرائها . ويرى الطبيب ان من  المستحسن أن يتم شراء اللعب البلاستيكية لأنها مضمونة ومعروفة المنشأ، ولو كان الأمر بين عدم شراء لعبة أو شراء لعبة مستعملة فليبقى الطفل دون ألعاب أفضل له ولذويه".
دوارة.. مسطر
العديد من أطفال العراق يمتهن مهنة (الدوارة)، بينما يتوجه آباؤهم في فجر كل يوم إلى "المسطر" بانتظار فرصة عمل ليوم واحد وغالبا ما يحصلوا عليها بعد يوم أو ثلاثة أيام.. في حين تمتهن الكثير من نسائهم صناعة التنانير الطينية أو البيع في الأرصفة والشوارع.
في حين تبدو صورة أحوالهم من داخل بيوتهم البائسة مزرية حقا، وسط الروائح النتنة وبرك مياه المجاري والأسلاك الكهربائية المبعثرة والمتصلة بأعمدة الكهرباء في الشوارع بطريقة رديئة وخطرة للغاية.
اللافت للنظر حقا خروج طالبة جامعية من داخل تلك "القمامة" لتتوجه إلى دوامها في إحدى الجامعات العراقية!!.
وذكر نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية روز نوري شاويس ، انه تم تخصيص نحو 717 مليار دينار من الموازنة الاستثمارية لعام 2012 بالإضافة الى 125 مليار دينار، بهدف دعم إستراتيجية التخفيف من الفقر في العراق، بحسب بيان صدر عن مكتبه مؤخراً بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الفقر.
وأوضح شاويس، وهو رئيس اللجنة العليا لإستراتيجية التخفيف من الفقر في البيان سابق  تلقت ( المدى ) نسخة منه انه "تم تخصيص حوالي 717 مليار دينار من الموازنة الاستثمارية لعام 2012 لدعم مشروع صندوق القروض الصغيرة ومشروع إزالة المدارس الطينية في العراق ومشروع بناء مجمعات سكنية واطئة الكلفة وتعزيز خدمات الرعاية الصحية الأولية"،
وأضاف "كما تم تخصيص 125 مليار دينار منها الى خمس محافظات لدعم نشاط بناء مراكز لتنمية المرأة الريفية وأنشطة أخرى من الإستراتيجية، فضلاً عما هو مخصص أصلا لمشاريع تنموية كبيرة تستخدم في جانب مهم منها شرائح الفقراء والمناطق الفقيرة، وبشكل خاص مشاريع دعم القطاع الزراعي وبناء المدارس في المناطق الريفية وتفعيل أنشطة الرعاية الصحية الأولية.

المدى

  كتب بتأريخ :  السبت 25-02-2012     عدد القراء :  1906       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced