تنويع أنصاري على (معتصم فنان شيوعي شهيد)
بقلم : ئاشتي
العودة الى صفحة المقالات

معتصم ...ذلك الشهيد ..تلك اللوحة
لما يزل الدم النازف حارا، والرصاصات التي استقرت في الصدر وفي اليد اليسرى، عبثا حاولت النفاذ، فخلايا هذا الجسد تأبى مغادرة منْ يكون ضيفها، حتى لو كان قاتلها، فلم يمر على هدأت صوت الرصاص دقائق حين هرع فلاحو قرية قزلر، كي يبصروا الفجيعة التي احدثتها الطلقات، فقد كانت مطرا خريفيا متواصلا، احدهم مد يده إلى الموقع النازف من صدره، أخرج من جيب قميصه المصبوغ بالأحمر دفتر مذكرات، كانت كلماته تنزف معانيها سلاما ومحبة، لكي لا تبقى معادلة الدم وحدها هي التي تحكم المشهد، لهذا قرأ في الكلمات نشيد الحب الذي يحمله هذا القلب النازف حبا وسلاما (وفي احدى هذه القرى تجمع الاطفال حولنا ، فأخذتهم الى شجرة كبيرة ورسمنا معا وحفرنا على جذعها) يا آلهة الحب هل قرأتم في قواميس الوجد الإنساني كلمات بهذا الصفاء، بهذا الصدق، بهذا التوحد مع الذات، يذهب بأطفال القرية إلى جذع شجرة، كي يرسم لهم ويحفر على جذعها كيف يعلم الأطفال الحب، مثلما يزرع في نفوسهم، حقيقة الشجرة، فهي الأصل وهي التي تحفظ العهد، وهي التي تسجل التاريخ، ربما أبهجهه في تلك اللحظة صدق الدهشة في عيونهم، وهم ينظرون الطائرات توزع الحلوى عليهم، ربما رسم لهم كيف يتحول عرق الفلاحين إلى أنهار من العسل المتدفق، أو ربما حفر لهم على جذع الشجرة اسمائهم، كل شئ جائز في موقع الفعل الإنساني، مادامت الكلمات ترسم ابتسامتها في ذلك الدفتر الصغير الذي كان غلافه البلاستيكي، يستعيد كل دقائق حياته قبل أن تستقر الرصاصات في صدره،

الاسم : معتصم عبد الكريم
المهنة : طالب في معهد الفنون الجميلة قسم التشكيل
العمر : يكبرني بأربع سنوات
الهواية : يحب الناس والفرح والموسيقى والعصافير والأطفال وأمه وأبيه والألوان جميعها، إلا الأسود
تاريخ الاستشهاد : 24 آذار 1980
مكان ألاستشهاد : ( وصلنا الى قرية قزلر وتعني البنات الجميلات ، وهي حقا كذلك ) وهذه الجملة الأخيرة كانت بين سطور دفتره الصغير ذو الغلاف البلاستيكي، والقرية سجلت لوحدها على أغصان أشجارها لحظة استشهاده، لهذا نزفت حزنها وهي في ربيع عرسها الآذاري، كي تحكي قصة عشقها للذين ينذرون حياتهم من أجل الفرح، ومعتصم ورفاقة الأربعة نذروا حياتهم من أجل هذا الفرح، وكان احدهم يردد قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة:

(أنا لا أراك
لكن جبل (كَويزه) يبصرك
وعيناي واقعتان فيه)

لا أدري لماذا هذا الهاجس الأسود كان يلوح أمام ناظري وأنا أراك بهذا الهدوء الذي أشبه بالصمت، هاجس كانت خيوطه تلتف على رقبتي منذ بدأت تلوح في الأفق علائم غيوم سوداء وأمطار من رصاص وقتل، هل هذه الصفة يشترك بها الشهداء وحدهم؟ أم أنك تفردت بها أيها الصديق الشهيد، ها أنت تراني أدعوك صديقي، رغم أنك تحمل صفات المشيمة التي احملها والتي بدورها تحمل نفس صفات الرحم الذي تكونا فيه نحن أبناء عبد الكريم، ولكنك فارقتنا يا صديقي، رحلت بعيدا مع أحلامك في رسم لوحة تحمل أبعاد الإنسان إلى عالم من بنفسج لكي يشع في الأرض السلام، فكم كنت تحب السلام؟ وكم كنت تحب أن ينجو رفاقك من إخطبوط الموت، والذي امتدت أذرعه على شبكة هذا الوطن، وربما تجاوزتْ تلك الحدود، فها هو رفيقك وزميلك مكي حسين يكتب لي على قصاصات ورق صغيرة، كيف حملته بين مسالك الجبال الوعرة على ظهرك، وبصبرك المعهود، برهنت من أن الصمت يحمل الكثير من المآسي دون أن يصرح بذلك، حتى أوصلته إلى نوزنك، وكان ذلك ديدنك، لهذا ساعدت الكثير من رفاقك في الهروب من وحش الدكتاتورية الذي خيم على وطننا، ، حيث كانت المكان الآمن بعض الشئ  .

آه معذرة صديقي معتصم، نسيتُ شيئا أخرا، كان يراودك حين تمسك الفرشاة أو قلم التحبير، كي ترسم دنيا الحب على قرطاس الروح، أنها الموسيقى يا صديقي، حين مرت بي السنوات، عرفت كم تساهم الموسيقى في حركة فرشاة الرسم، وكأنما الفرشاة تتحرك بفعل النغمات، حتى ظننت بأن اللوحة هي معزوفة موسيقية ولكن بحركة فرشاة أو قلم تحبير، وهل هي غير ذلك؟؟ لهذا صديقك الشاب أبن كويسنجق، عامل الحلاقة وصلة علاقتك الحزبية، كان يحتفظ بجيتارك في دكانه، لعلك تعود قريبا وتعزف له أغنية من تلك الأغاني التي يحبها، ولكنه رحل في قافلتكم دون أن يحقق حلمه، وبقى جيتارك معلقا في دكانه ربما إلى الآن.

معذرة يا صديقي الجميل، تجاوزتُ حدودي، لم تكن تكبرني بأربع سنوات، بل كنت تكبرني بدهر طويل، هل تتذكر يوم أخذتني إلى الحفلة الموسيقية التي أقامتها الفرقة السمفونية العراقية في قاعة الشعب ؟؟ وهل تدري ساعتها أنا كنت (مثل الأطرش في الزفة) لم أفهم ما جاءت به معزوفاتهم، ولا حتى أسم الآلات التي يعزفون بها ؟؟ ولكن أنت كنت عكس ذلك، ولا أدري من أين أتيت بكل هذه المعرفة ؟؟ هل هي القراءات الكثيرة والمتواصلة، أم هي الموهبة ؟؟ أو ربما الأثنان معا ؟؟ وهنا معضلة التوريط يا صديقي، أعجابي بك جعلني أتبنى كل ما تطرحه، فعشقت المسرح، وساعدتني في الانتماء إلى معهد الفنون الجميلة لكي أدرس المسرح، وهذا ما جعلك تتعهد أمام والديّ من أنك سوف تقوم بمرافقتي إلى البيت كل مساء، عندما ينتهي أي عرض مسرحي.

أقول لك الحق يا صديقي، في البدء لم افهم أصرارك على عدم مغادرتك الوطن، رغم أنك كنت تردد من أن فهدا وسلام عادل لم يغادرا الوطن يوم أشتدت محاربة الشيوعية، ولم أفهم ذلك إلا بعد أن عرفت من أن شيوعيتنا ارتبطت بجذور النخيل، وهي تمثل تلك الجذور عن حق، لهذا كان إصرارك على عدم المغادرة، وواصلت عملك التطوعي في جريدة (طريق الشعب) إلى حين إغلاقها من قبل أجهزة الأمن.

لا تحزن يا صديقي سأفضي إليك بسر، هو أن والدنا كتم سر استشهادك، كان يخشى على والدتنا وهي التي تتصورك قمرها الجميل، وكيف للقمر أن يـُقتلْ ؟؟، كان والدنا يوهمها مثلما يوهم اخوتنا الأربعة، من أنك تدرس الرسم في ايطاليا، وتبعث لهم بتحياتك الشفاهية خوفا عليهم من ذئاب السلطة، سافر سرا إلى مدينة السليمانية من أجل نقل جثمانك من مقبرة البلدية إلى مقبرة شيخ محي الدين في السليمانية، رحلت والدتنا وهي تمني نفسها في رؤيتك، رحلت وهي لا تدري من أنك رحلت قبلها بسنوات.

أعرف أنك ستفرح كثيرا عندما تعرف من أنني التحقتُ أيضا بفصائل الأنصار، وكم مرة حاول الموت أن يقترب منا، وكنا نتجنبه حبا بالحياة، وذلك لم يكن بمقدروك، حيث كان الجنود أكثر من ستمائة والطلقات لم يتوقف أزيزها، إلا حين توقف قلبك عن الخفقان.

قالوا فيك يا صديقي
- (ان فناننا لا يخوض الحياة بل الموت ايضا ، لا يخوض المعرفة بل جهل الآخرين بحياته وموته وسط عذابه اليومي وعذاب حلمه البسيط ، وكأن مصير معتصم هو مصير الجميع ، فنانين وادباء) - الشاعر عيد الكريم كَاصد

- (سمعت بمآثره الصامته ، إذ كان معنيا بنقل البريد الحزبي من مقرات الأنصار الى الداخل وبالعكس ، كانت مهمة لا تشبه أي مهمة اخرى ، وكان ناجحا في مهمته ، ربما لأنه كان مقلا في الكلام ، ومتجنبا الحديث عن نفسه) - الفنان هادي الخزاعي

وأخيرا أقول أن النسيان يا صديقي ليس نعمة بل هو خيانة.

  كتب بتأريخ :  السبت 24-03-2012     عدد القراء :  1799       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced