لقد تكرر مصطلح التطور "اللارأسمالي" والذي بات يُعرف فيما بعد بالتوجه الاشتراكي في مناقشاتنا السابقة. ومن المفيد إعطاء فكرة عن مفهوم هذا المصطلح لجمهور القراء، وخاصة للمناضلين الشباب منهم. لقد ظهر هذا المصطلح في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الحركة الشيوعية العالمية لتوصيف الطريق الذي يمكن أن تشقه الدول المستقلة، ضعيفة أو متوسط التطور في مستواها الاقتصادي - الاجتماعي وعبر التخطيط المركزي، وتحت راية الاشتراكية وبقيادة "الديمقراطيين الثوريين" من مختلف شرائح البرجوازية الصغيرة، وذلك بمساعدة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى. وسنتوقف هنا عند التجربة المصرية لعلاقتها الوثيقة بخط آب، الذي سبق وأن كان موضع نقاش قبل أسابيع قليلة في عدد من المواقع الألكترونية.
كانت مصر في مقدمة البلدان العربية التي سارت في طريق ما يعرف بالتطور اللارأسمالي بقيادة جمال عبد الناصر، ولم يجبرها أحد على ذلك. لقد أرادت مصر التغلب على تخلفها بأسرع الطرق، فجربت تشجيع الرأسمال الخاص لتصنيع البلد ولكن هذه التجربة فشلت، لأن الرأسماليين المصريين الكبار رفضوا توظيف رساميلهم وفق الخطة التي رسمتها الدولة، وفضلوا أن يوظفوها في ميادين الربح العاجل، ولم يصغوا إلى مناشادات عبد الناصر، فلجأ هو في عام 1961 إلى انتهاج سياسة اقتصادية جديدة، تمثلت في تأميم الدولة للمؤسسات الاقتصادية الأجنبية في مصر، والمشاريع الكبيرة للرأسمال المصري الخاص، وتبنى التخطيط الاقتصادي ــ الاجتماعي المركزي، على غرار ما كان يجري في الاتحاد السوفييتي. ولجأ النظام المصري إلى الاعتماد على المعونات الاقتصادية من الاتحاد السوفيتي وحليفاته، واتجه إلى توظيف مدخرات الدولة، وعمل على تعميق الإصلاح الزراعي. وبموجب هذه الإجراءات، بات في حيازة الدولة 70% من الإنتاج و50 % من العمالة و90% من جملة الاستثمارات الجديدة في قطاع الصناعة المصرية. وعلى أي حال، فإن الزيادة الحقيقية في دخل الفرد الواحد لم ترتفع في الفترة ما بين 1960 و1965 إلا بمقدار 3,6%. وقد انخفضت هذه النسبة إلى 1% في الفترة ما بين 1966 و1975. (1).
وقد دهش الكتاب والمنظرون في الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية، كما يشير زكي خيري، لما يجري في مصر. فرأى بعضهم إنه طريق جديد للتطور وإنه يتجنب التطور الرأسمالي فأطلقوا عليه اسم التطور اللارأسمالي. ودار صراع فكري واسع ومتشعب حول الطبقة المؤهلة لقيادة هذا الطريق وصرح زعيم ألمانيا الديمقراطية أولبرخت قائلاً: " إن أناساً مثل جمال عبد الناصر فقط يبنون الاشتراكية في إفريقيا"! وانعقدت ندوة في برلين عام 1963 حضرها ممثلو الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية، ودار نقاش حاد جداً حول مصير الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية (2)
وكان من بين ما أفرزته هذه التطورات، هو تعمق الروابط بين القاهرة وموسكو، بما في ذلك الدعم الأيديولوجي لنظام جمال عبد الناصر من المنظرين السوفييت، الذين لم يفتهم الاستناد على بعض النصوص في الماركسية- اللينينية حول إمكانية تجنب الطريق الرأسمالي، معزولة عن ظروفها.
وانعكس تعمق الروابط بين القاهرة وموسكو،إيجاباً على علاقة موسكو ببغداد. ورحب نيكيتا خروشوف بمبادرة بغداد لإيقاف الحرب في كردستان في 10 شباط 1964، واعتبرها خطوة محسوبة "لتعزيز هيبة الجمهورية العراقية في أعين شعوب العالم". واستأنف الاتحاد السوفييتي تزويد العراق بالسلاح، بعد أن توقف ذلك إثر انقلاب شباط 1963. وفي 26 أيار 1964 وقع عارف وناصر اتفاقاً تمهيدياً للوحدة، ما بين مصر والعراق، نص على أن البلدين يدرسان وينفذان الخطوات الضرورية لإقامة وحدة بين البلدين ووضع سياسة مشتركة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وتنسيقها وفقاً للخطة المرسومة، وإنهما يعملان على تحقيق وحدة عقائدية بين شعبي البلدين من خلال منظمات شعبية وعمل شعبي يوّحد هذه المنظمات في المستقبل (3)
كان هناك اتجاهان بين أنصار طريق التطور اللارأسمالي أو التوجه الاشتراكي في الحركة الشيوعية العالمية، الأول: يرى أن اشتراك الشيوعيين في قيادته هو شرط لنجاحه. أما الاتجاه الثاني فيرى بأنه من الممكن أن يقتصر دور الشيوعيين على دعم وتأييد قيادة "الديمقراطيين الثوريين". وكان هذان الاتجاهان المذكوران موجودين في الحزب الشيوعي العراقي أيضاً. الاتجاه الأول مثبت في وثائق المؤتمر الثالث والاتجاه الثاني ضعيف وجد تعبيره في مواقف معينة. على أي حال لم تزك الحياة كلا الاتجاهين.
لقد تبنى الحزب الشيوعي العراقي طريق التطور "اللارأسمالي" في عام 1964 وتخلى عنه بعد بضعة أشهر، كما مر بنا. وعاد وتبنى ذلك في عام 1975 وتخلى الواقع عنه، هذه المرة، وفشلت تجربة تجنب طريق التطور الرأسمالي عالمياً.
تشير تجربتنا في العراق والتجربة العالمية، لحد الآن، إلى عدم وجود طريق للنمو والتطور أمام البلدان الضعيفة، أو متوسطة التطور، في مستواها الاقتصادي - الاجتماعي، ما دام النظام الرأسمالي قائماً عالمياً، سوى طريق التطور الرأسمالي، ولكن من الممكن تقليص مصائبه وويلاته، وما يضمن ذلك هو النظام الديمقراطي المؤسساتي، بما يعنيه من إقامة مجتمع مدني ومجلس نواب ودستور دائم والفصل بين السلطات، وإقرار حق تقرير المصير للقوميات، وفصل الدين عن الدولة، وضمان حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل بالحقوق والواجبات ... وإن الكفاح من أجل المزيد والمزيد من العدالة الاجتماعية يمر عبر تحقيق وترسيخ النظام الديمقراطي ومن ثم تطوير الديمقراطية في مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وإن الوصول إلى الاشتراكية يمكن أن يتحقق بطرق مختلفة، حسب خصائص كل بلد، و أن طريق بلادنا الخاص إلى الاشتراكية سيكون، كما جاء ذلك في برنامج الحزب الشيوعي العراقي، "محصلة عمل فكري وسياسي تراكمي ومتدرج، وأيضاً محصلة نضال قوى سياسية متعددة وتحالفات واسعة، وسيتم الوصول إليها عبر عدد من المراحل الانتقالية التي يمكن أن تستمر طويلاً".
ومن غير الممكن الحديث، منذ الآن، عن سمات تلك المراحل، وتحدياتها ومتطلباتها، وظروفها الإقليمية والدولية.
أوائل كانون الثاني 2015
--------------------------------------------------------------------------------
(1) راجع عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" الجزء الثالث، ص 27. راجع كذلك زكي خيري، "صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم"، ص 256.
(2) راجع زكي خيري، مصدر سابق، ص257.
(3) راجع عزيز سباهي، مصدر سابق، ص 33. راجع كذلك بطاطو، مصدر سابق، ص 350 والهامش رقم 34.