تبقى أية اتفاقية تعقدها أطراف طغمة الحكم في ما بينها مدار شك وريبة. فقد دلتنا مسيرة حكمهم، على ان لا مصلحة تعلو عندهم على مصالحهم الذاتية والحزبوية، وان جوهر ما يبتغونه بعهودهم ومواثيقهم هو تقاسم السلطة والنفوذ وتوزيع الامتيازات، بجانب تأمين سلطة ضامنة للمحاصصة، دون معارضة رسمية مهما بدت شكلية وضعيفة. وهذا ليس استنتاجا سريعا او حكما متعجلا دون سند علمي، بل هو حصيلة دراسة للوقائع السياسية، ومعاينة دقيقة لأداء المتنفذين، وتحليل للطبيعة الطبقية لأحزاب السلطة ونهجها في الحكم.
كما انه ثمرة متابعة متأنية لمسيرتهم في السلطة، حيث ثراء طبقتهم المترفة رثة الثقافة والسلوك، التي لا دور اقتصاديا لها ولا علاقة تربطها بالبناء والتنمية. طبقة بارعة في نهب الأموال العامة وفي تقاسمها، منتجة للفساد والعنف والفقر والتخلف ونقص الخدمات، رائدة في جعل العراق فريسة للتدخلات الدولية وفي انتهاك حساب سيادته واستقلاله.
لهذا لم يكن مستغربا تصريح السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، حينما قال مساء السبت الفائت، بالصورة والصوت وبتمام الوضوح في لقاء متلفز على قناة السومرية ان “وثيقة الاتفاق السياسي التي وقع عليها ائتلاف إدارة الدولة، تضمنت بندًا لا يعتبر الانتماء إلى داعش جريمة، وبالتالي سيكون لقتلاهم تعويضات باعتبارهم شهداء”.
ان الجوهر الخطير لهذا التصريح لا تلغيه ردود فعل الحلفاء في الإطار التنسيقي، ولا تفسيرات زملائه في ائتلاف النصر. فهي لم تمكن سقطة كلام من جانب العبادي، السياسي المتمرس ورئيس الوزراء في فترة حرجة، وأحد اقطاب الحكم واحزابه المتنفذة، العارف بدهاليز وغرف عقد الاتفاقيات والتوافقات، والقادر على فهم ما يظهره الخطاب وما يخفيه بين سطوره.
ان كل ما يتسرب عن اجتماعاتهم ولقاءاتهم السرية يشير الى عقدهم صفقات هدفها ديمومة توليفة التوافقات لتقاسم السلطة، و”توزيع الثروات والمناطق في ما بينهم”، كما جاء على لسان العبادي في اللقاء المشار اليه، وهذا أمر لا يقل خطورة عن اعتبار قتلى الدواعش شهداء للعراق، وهو يكشف جشعهم واستهتارهم بموارد العراق.
كل ذلك وغيره يؤكد تشبثهم بطريقة الحكم المبنية على الاصطفافات الطائفية، وتمسكهم بنهج المحاصصة المقيت رغم كل نتائجه الكارثية على المجتمع، الذي تتسع فيه الفجوة الطبقية، ويتنامي الشعور بالظلم والحرمان وبمآسي العوز والفقر وشظف العيش.
وحتى إن استطاعت طغمة الحكم إخفاء وثيقتها السرية التي اعتبرت قتلى الدواعش شهداء للعراق، وتأكيدها توزيع الثروات والمناطق بين الأحزاب الحاكمة، فليس باستطاعتها اخفاء حجم الظلم وانعدام العدالة، اللذين يسببهما تسيّدها كطبقة مترفة محدودة العدد متنعمة بالسلطة والجاه والمال والنفوذ، على حساب طبقة كبرى من الكادحين والمحرومين والمظلومين والمهمشين، ظلما ودون وجه حق.
ويبقى الدرس البليغ ماثلا:
ان ليل الظلم الى انقشاع مهما طال، ولا بد ان تطرده انوار نهار الحرية والعدالة الاجتماعية، انوار اليوم المرتقب الذي ينتظر النهابين فيه حساب عظيم.