عادل بك
بقلم : مزهر بن مدلول
العودة الى صفحة المقالات

نذر لعاصفة ثلجية بدأت تتجمع في الافق ، قسوة البرد وقرصات الجوع راحت تقتحم اجساد الرجال دون عائق .
مايقرب من عشرة ساعات من المشي المتواصل في ارض هرمة لاتنبت فيها سوى  الصخور الشائكة والعلو الشاهق والمنحدارات السحيقة ..
عشرة ساعات كانت كافية لتحطيم مابقي في راسك .
بدأت الخواطر المختلفة تقفز الى الراس والكلمات تتلكأ على الشفاه وبدأ الاحساس بالتوجس يزحم الاذهان ..
لقد نال منا التعب والجوع ، ذلك كان واضحا ومتأججا في حدقتي كل واحد منا ونحن نتسابق مع نذر العاصفة الثلجية .
وصلنا الى النهر ، وكان علينا ان ناكل ماتوفر لنا من كسرات الخبز بسرعة وبعدها نعبر الى الضفة الاخرى قبل الظلام .
كان النهر صاخبا وثائرا ، تتدافع امواجه كانها حيوانات عملاقة تطارد فريسة ، وكنا نحملق فيه حتى تاخذنا الدوامة الى الاعماق .
الكل متسربل بالصمت والحيرة ، حاول بعضنا ان يغتصب ابتسامة ، لكن هبوط العاصفة الثلجية الى الارض قطع علينا الشعور بالطمانينة ..
المشاعر المحبوسة التي تمنعها الكبرياء من الظهور تقول لنا بأننا وقعنا في طاحونة الموت لامحال ..
تتمادى الرياح في عصفها وتتمادى الذاكرة في خرابها ، هنا وفي هذه اللحظة لا قدرة لأحد في ان يستعيد صورة جميلة علَّها تفرج شيئا من هذا الكرب ..
ولكي نعبر النهر لابد من ان يتطوع بعضنا ممن لديهم مهارات في السباحة ، علينا ان نساعد بعضنا في العبور ونتعاون في حمل الاثقال التي كانت في حوزتنا ..
اكثر من ساعتين ونحن عراة فوق الماء وتحته ، البرد الذي اصابنا لايمكن وصف اوجاعه. كانت السيقان ترتجف والاسنان تصطك والوجوه متيبسة وشعور غريب بان السماء شنت هجومها الكاسح علينا ..
في هذه الاثناء استحالت الجبال والوديان والاشجار وبسرعة فائقة الى صحراء جليدية ناصعة البياض ، ومعها اختفت اي معالم للطريق الذي يجب ان نسلكه ، مما ضاعف من ساعات المشي وكنت اشعر بان نظرات الغضب والاسى تلاحقني كلما توقفت بحثا عن اثر الطريق الذي ضاع تماما ..
انه من المؤلم جدا ان تنتظر معجزة تسوقها الاقدار العابثة علها تنقلك الى شاطئ النجاة ..
وبدات الخواطر من جديد تشكل لوحة مصبوغة بالوان مرعبة ، فقد ادركت في تلك اللحظة عبث محاولاتي ، فاضطررنا ان نسير دون طريق في جبال كانها امتدت الى اخر الوجود حتى تورمت اقدامنا من شدة ارتطامها بالصخور التي تملا المكان ولكننا كنا بالاتجاه الصحيح ..
هبطنا من السفح نحو بيت عادل بك..!! ؟
هذا المكان مررت به مرات عديدة وفي هذا البيت وجدت دفءً وطعاما ، نمت في غرفة الرجال ومع العائلة ليال كثيرة ، وكان الرجل الذي نسميه عادل بك متوسط العمر وطويل القامة مقلا في الكلام ويكتفي بالايماء ، رجل تملأه الخيلاء رغم بساطته وكنت ارقب تعابير وجهه في كل مرة ، اتابع حركاته بفضول مقزز فتجتاحني موجة من التوجس في هذا الرجل الذي اختار هذه البرية الشاسعة الوحشة والخوف ..
فمن هنا تمر مفارز استطلاع الجحوش ومن هنا تعبر سرايا الجندرمة ومن هنا يعبر البيشمركة المقاتلون ضد نظام صدام بكل الوانهم ويستريح فيه مقاتلون من اكراد تركيا وايران ويمر به تجار السلاح والمخابرات والجواسيس ، كلهم يأسسون لزمن المستقبل على احباطات الحاضر حيث البطش والجوع الذي اصاب الشعب ونظام غارق في بشاعته ومجونه..
كل ذلك منعنا من التوقف في تلك المحطة التي كنا في امس الحاجة لها حتى ولو كان لمدة ساعة واحدة ، وكنا نعاند الثلج والعاصفة والجسد بطريقة مغالية جدا .. واصلنا المشي ، امامنا ساعتين فقط في الظروف الاعتيادية ونصل الى قرية زيتا حيث فيها تتحقق احلامنا ، واحلامنا بسيطة جدا ولاتتعدى اطلال زريبة مهجورة نستطيع ان نستظل بها ونوقد فيها النار .
العاصفة في كل لحظة زمنية تمر تشتد وتضاعف من قسوتها والانفاس تجف والاطراف تتجمد والعيون وحدها تتجاذب اطراف الحديث عن الموت الذي اقترب .
الاجساد تقاوم وتتحدى .. هؤلاء رجال مغامرين عنادهم لايطاق ، كلٌّ منهم كان (هوجو) بطل مسرحية الايدي القذرة ، ثائرا متحمسا وباحثا عن الحقيقة الصادقة المقنعة .
القرى البعيدة الغائرة في الكهوف ، يبدو انها مستغرقة بالكامل في صمت مخيف ومستسلمة برعب الى هذا الطوفان ..
لامكان هنا لقصيدة رقيقة ولا نغمة حلوة ولاكلاما دون تأتأة ، لقد خرجنا عن مسافات الجبل المطلوبة ، وان عاصفة الثلج والبرد حسمت الموقف ، ضياع وسير واهن بطئ دون اتجاه محدد ، واصبح الموت واحدا من ظلالنا ، يلتصق بنا ، مثلهُ مثل المشاعر الانسانية التي كانت تقفز الى الراس في لحظة استثنائية مؤلمة ..
البرد ينخر في عظامنا ، الاقدام تتقلص والعضلات تتصلب ، وشعور موجع بان العاصفة ستكون هي مقبرتنا ..
ثلاث ساعات اخرى من تسلق الجبل احسست خلالها بان الموت حل في عينيَّ واني وجها لوجه مع سيناريو جديد كان عليّ ان ادركه ، انه العدو او الاعداء الكثيرين الغير مرئيين ..
صور قديمة تحوم حول راسي ، تظهر على شاشة ذهني بوتيرة متسارعة ، لااستطيع التعرف عليها واعتقد هي ايضا لم تتعرف عليّ ، موال نائح في اخر الليل في شارع الرشيد المضمخ بالحزن ، شوق خفي الى ضحكة تتموج على شفاه الحبيبة ..
الصور أبت ان تنبثق من الذاكرة ، عاصفة الثلج في رحلة الموت هذه  اخذت تبتلع جسدي وكل شئ تراءى لي مثل سراب صحراوي .
اهو الليل ام هو النهار  !؟ بدا راسي ينتفخ ولم اعد ارى شيئا ، عيوني غادرت وجهي ولااعرف اي طريق اسلك..
اعتذر ايها الرفاق دعوني اسير خلفكم ، لكن من الذي يتقدمنا ، لااحد يعرف ، فقط الجسد مازال يقاوم .. ثلاث ساعات اخرى كانها الدهر كله ، وكنا ندرك ان اي توقف يعني الموت بعينه ولذلك لابد ان نمشي ، ان نسحل اقدامنا ، نحن في مكان اخر وتحت سماء فقدت زرقتها ، نحن الان في الماوراء ، لاشئ يتراءى لنا سوى الحقيقة العارية هي الموت ..
وكم حاولت ان اغادر جسدي اليابس وان اصدق باني نائم وان ذلك الهول الذي اراه مجرد حلم قبيح ..
في الاعالي كانت صخرة كبيرة .. علامة فارقة .. شبح الهي غريب .. خلفه تختفي النهاية .. استوقفنا لحظة لننزع اجسادنا ، لحظة للشعور باننا بحاجة لان نستعيد اذهاننا .. في هذه اللحظة الحاضرة كانت نجاتنا .

  كتب بتأريخ :  الأحد 07-03-2010     عدد القراء :  2449       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced