أول لقائي بالرابطة
بقلم : فيحاء السامرائي
العودة الى صفحة المقالات

كان الاتفاق أن لا أسرع الخطى كيما أتخطاها، وأظل أرقب ما هو أمامي جيدا حتى لا تغيب عن ناظري، كنت مشدودة حد التوتر، أضغط حقييبتي المدرسية بقوة على صدري وأنا أتتبعها، عيناي مشدودتان نحوها، تطأ قدماي بركة مياه مجاري مفتوحة في الأزقة، لا أبالي، تلتوي لما أتعثر بمطبات الدرب الضيق، لا أتأوه، لم أرد على تعليق النداف، حين تركت طبع حذائي على لحاف ممدود على الأرض، يخيطه بقماش ستان أحمر : عمى، أشو الوادم صايرة ثولة هالأيام .
ما أفكر به فحسب، هو اللحاق بها وهي تنعطف من زقاق الى آخر...تعدل مدرّستي عباءتها على رأسها بين الفينة والأخرى، وفي شبه استدارة خفية، تنظر نحوي خلسة لتتأكد من لحاقي بها، رحت أعيد تضبيط رباط حذائي عدة مرات، لما رأيتها توقفت عند بائع الكعك، وواصلت سيري خلفها لما مضت تحمل بيدها كيس الكعك. أزقة قديمة ضيقة، تتوسطها طولا، مجاري مياه نتنة، أصوات أطفال يلعبون، بكاء آخرين، أكوام قمامة بجانب كل دار... بانت المسافة الى البيت المنشود بالغة البعد ومتناهية الطول، تذكرت حكايات جدتي عن الطنطل وشقّاق البطون، وكأنهما يخرجان من تلك الأزقة المعتمة، يختطفان الأطفال الأشقياء ولا يرأفان بهم جزاء مشاكساتهم وشقاوتهم، أما السعلوة بشعر طويل منفوش فاحم السواد، تساعدهما في البحث عنهم، وتروح تطلق صيحات غريبة، تتمازج بين العويل الصاخب و الضحك المجنون الماجن...
أفقت من توهاني حين اصطدمت بمن أتبعها، همست لي : بعد شوية نوصل...جلب انتباهي ضريح رجل دين وعالم مبروك، بقبة فيروزية اللون وشباك صدىء، مطبوعة على حائطه بلا فن، أياد ملطخة بالحناء، وكتابة : يا قريب الفرج، قمعت رغبة في عد قصاصات القماش الخضراء المربوطة على الشباك، الوقت لا يسمح لذلك، ولا يسمح أيضاً في النظر الى داخل مكبس التمور ذي الرائحة النفاذة، لرؤية كيف يُصنع الدبس.
توقفت مدرستي عند باب متوار خلف ستارة من القماش غاب لونها، أزاحتها وأشرّت لي لأتبعها...
واجهتنا باحة طينية واسعة مفروش فيها حصير، وراح دجاج حذر، يلتقط ما يجده من طعام على أرضها، وفي ركن متميز برز سلّم طيني، نزلت منه شابة مرحبّة بنا، ارتقيناه الى غرفة، جلست على فرش أرضها نساء رحّبن بنا بحرارة وألفة، نساء من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية، كبيرات بأغطية رأس سوداء ووشم ظاهر، متوسطات العمر، حاسرات الرأس، عرفت احداهن (الدكتورة سامرة) ، شابات بعباءة، كانت احداهن ترضع طفلاً، أخريات بملابس مدرسية يشيهنني، دون ظفائري وشرائطها البيضاء. رحت أنقل عيني في أرجاء الغرفة وأنا أشرب الشاي، حيطان جصية متآكلة، سرير حديدي يعلوه فرش بألوان زاهية، صور شخصية غير واضحة معلقة على الحائط، ورد نايلون في مزهرية تعتلي رفاً صغيرا، كتب متكومة بعناية وأوراق وبقابا سجائر في منفضة، خمّنت انها غرفة رجل الدار، ابن ، أب ، ربما أخ .
بدأت مدرّستي (فاطمة كمال الدين) بقراءة ورقة، رحّبتْ من خلالها بالحاضرات، شكرت فيها (أم سامي) مضيفتنا، وراحت تشيد بالمرأة العراقية ونضالها الدؤوب للحصول على حقوقها في حياة كريمة منصفة، تتمكن من خلالها تنشئة الأجيال الصالحة، وتهيئتها لخدمة وتقدم وعمار هذا البلد المنهوك والمنتهك، الغالي على قلوب المخلصين لتربته من بناته وأبنائه... استعصى عليّ حينذاك ، رغم تظاهري بالفهم، هضم بعض المصطلحات والمفردات، ولم تنجدني قراآتي الأدبية المبكرة والمتنوعة ، لم أدرك يومها تلك التضاريس النضالية التي عرّجت عليها مدرستي، كيف نناضل؟ وما هو النضال؟ وماذا نعمل حتى نوسم بتلك الصفة التي باتت حلم كثير من الفتيات بعمري؟ أن نمشي في الشارع مشية مناضلات؟ أن نقول- لا- وسط جمع الرجال؟ أن نحرز على شهادة ونغيض بها من فشل في تحصيله العلمي من أولاد أقربائنا؟ أو ربما يكون النضال في أن نقرأ الكتب الممنوعة؟ نتملص بحذر من أشخاص يراقبوننا في تلك الأزقة الملتوية، فنصل الى ما نريد ونضحك في سرنا من خيبة مطاردينا؟ وربما الأصوب أن يكون النضال في رفض احناء الرأس عند المرور من أمام المقهى؟؟؟
حقا انها أسئلة محيرة، أسأل مدرستي عنها حتماً حين نكون لوحدنا، أما هذه الكلمات الانشائية الصعبة الفهم، والتجارب النسوية لأخريات من بلدان أخرى، غير قادرة أبداً على فتح دهاليز فهمي لمعنى كلمة النضال أو السبيل لحياة نضالية.
شعرت بفخر ما بعده مثيل لمّا عُهد اليّ، لاعتباري أصغر الحاضرات، بقراءة ملخّص ما ورد في ذلك الاجتماع الموسع، الإجتماع الأول لي في رابطة المرأة العراقية، قرأته دون ارتجاف في صوتي، خلتني على قمة جبل عالية، أقرأ ما هو محتوم على البشرية سماعه، لأجل إنقاذها مما قد يحل بها من ويلات ودمار، إذا لم تصغ وتسع جاهدة للإمتثال بما هو مذكور في تلك الورقة، كنت مستعدة وقتها في الإسهام بتظاهرة كالتي أراها في الأفلام أوأحبكها في الأحلام، أو حتى القفز من جسر مدينتي قبل أن أعلن انني مع النضال، وليكن هذا أي شيء، المهم انه يُدعى نضالاً، ما أعرفه انه كدروب الغابة التي تأوي ساحرات ماكبث، فيها متاهات وأغوار، وكائنات غريبة، وأرض تبتلع المارّين، وسراديب مجهولة تقود الى جحيم، وبقدر ما فيه من غموض ومغامرات ومشّقة، كان لي فيه يوم ذاك، سعادة تمنح من يطأه حبوراً ، يغمر داخله بأمل لا ينشف ولا ينتهي، كما قيل لي، حتى بلوغ المنتهى، يقيناً ليس في حياتنا، بل ربما في حياة آخرين يطأوه بعدنا .

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 09-03-2010     عدد القراء :  2459       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced