انتخابات العراق... اجتثوا صوتي!
بقلم : رشيد الخيون
العودة الى صفحة المقالات

بكل المقاييس، تبقى التجربة العراقية ذات فرادة. إنها تمرين حيٌ على استيعاب ما عجزت عن استيعابه شعوب لها باع في المدنية، ولو لا عبث الفاسدين، وسيوف القتلة، وأنانية مَنْ دخلوا جوعى للولاية والمال، المنقول وغير المنقول، ما نبس أحد بكلمة ضدها. ومع ذلك، إنها الانتخابات لا ظلها، ليست مثلما يحصل في تأسيس مجالس الشعب، في العديد من البلدان، ترى نائبها "يرفع يداً للحاكمين.. نعم، وهي في زي لا" (الجواهري، المقصورة).
ولأنها حقيقة لا مجاز، غضب الشباب وتشاجروا أمام مراكز الاقتراع لأنهم حُرموا من التصويت، بذريعة أنهم لا يحملون الجواز العراقي(ج)، وهو جديد ولا يصدر إلا من بغداد، مع أن المراد هو إثبات العراقية ليس إلا. وبهذا اجتثت آلاف الأصوات، من التي تريد مقاومة الفساد عبر الخضاب بالحبر الأزرق، وهو مشهد لأجساد تكدست على بوابات المراكز وعادت مخذولة.
جاء التحايل على الأصوات عبر خطوات، بداية من قانون الانتخاب، وعمل المفوضية غير المرضي، وهو إصرار على عدم قبول تصويت عراقيي الخارج، لكن بحيلة تعقيد إثبات الهوية. وقبلها جرى التحايل، بعد الشعور بأن الشعار الديني والمذهبي والترهيب بالصداميين لم يعد نافعاً. فالناس تتطلب الخبز والأمان، و"لولا الخبز ما عُبد الله"(الميداني، مجمع الأمثال). فلما أُقرت القائمة المفتوحة، ليس على هواهم، عمدت المفوضية إلى وضع اسم القائمة ورقم الشخص، وسعيد مَنْ يحفظ الوجوه بالأرقام.
ثم مرّروا القانون الجائر، وهو احتساب الأصوات الفائضة للكتل الحيتان، وكم من آلاف الأصوات ذهبت لمَنْ لا يريد المصوتون انتخابه. وآخرها كان رد الآلاف من المصوتين بذريعة الجواز وشهادة الجنسية. ولا ندري بأي حق تُرد امرأة مثل "أم حقي" وتغلق بوابة مركز الانتخاب بوجه رجل مثل "أبي سلام"، وأسرتيهما، وغيرهما من يهود العراق، من الذين قطنوا بريطانيا منذ خروجهم القسري من بلادهم، ولديهم الهويات كافة، من التي لا يحملها موظفو مفوضية الانتخابات أنفسهم، ولا وزراء في السلطة، رُدوا دامعي العيون، فعلى تقدمهم بالسن رأوها فرصة للاتصال بموطنهم، الذي حملوه أينما حلوا ورحلوا، وهم يشاركون بالانتخاب! إنه الاجتثاث، عن موطن أو أرض، أو أي علاقة من العلائق!
غدت مفردة الاجتثاث سائرة على الألسن، مع أنها كانت موجودة في التاريخ العراقي، ومنذ الأيام الخوالي، وكان عنوانها التطهير مثلما كان متداولاً بعد الانقلابات العسكرية، فتصوروا أن تجتث الجامعة لغوياً مثل مهدي المخزومي (ت 1993)، وعالماً مثل عبدالجبار عبدالله (ت 1969) وغيرهما من أساطين المعرفة، حيث مورس تطهير دوائر الدولة، بل والشعب، من العناصر غير السائرة بخط الثورة! ومعلوم أن التطهير من الطهارة، التي تعني في الفقه إزالة النجاسات، وعُرف، على ما يبدو الكنيف بالطهارة لأنه مكان إخلاء البدن من النجاسات، فتأملوا كم كان الإنسان رخيصاً، وكيف قورنت مخالفة الرأي بالنجاسة. والتطهير على أشكال: العرقي، والديني، والمذهبي، والسياسي... وكلها مورست بأهل العراق، قبل أبريل 2003، وبعده بشراسة.
أما الاجتثاث فلم نسمع به، من قبل، إلا بعروق الأشجار، والأمراض العصية، ثم تم تداوله بقانون! ولأن الأيام دول، أخذ الاجتثاث يتداول، لكن بأسماء مختلفة، مع قوة وقع المفردة، مثلما هو التطهير. ومن طريف ما قاله الشيخ محمد علي اليعقوبي (ت 1964) عميد المنبر الحسيني في زمانه، عندما طهر رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي (ت 1997) ساحة الميدان من المنازل المشبوهة أخلاقياً لا سياسياً: "وقالوا ببغداد الجماليّ قَد مَحا.. منازلَ كانت دنَستْها (...).. فإن طُهرتْ تلكَ المنازلُ لم تكنْ.. لِتطهرَ من أبنانهنَّ الدوائرُ" (القزويني، كتاب النوادر). وقال الشيخ ذلك لأن رئيس الوزراء قد منح الأدباء البارزين أراضي للسكنى، وإذا بالروتين يتعب أقدام الشيخ، فبعث بتلك الأبيات إلى رئيس الحكومة شاكياً موظفيه.
وكانت هناك مفردة أخرى لإبعاد الخصم وعزله، أو تهيئته للتطهير، داخل الأحزاب أو الحكومات، وهي التجميد. أتذكر أن أحد المجمدين من حزبه كان يشير إلى الدجاج المجمد، ساخراً، على أنها من وحي تلك الثلاجات، وبالفعل فاسم هذه العقوبة لم يكن معروفاً قبل ظهور تجارة الدجاج المجمد! فمن قبل يُقال للتجميد من الوظيفة "سحب يد"، ليبقى نصف الراتب للمسحوب وعائلته. وإذا لم أكن مخطئاً، فقد اندثرت تلك العقوبة الرحيمة بعد مجيء انقلاب 17 تموز، حيث لا منطقة وسطى؛ إما راتب تام وإما تجويع وتطهير من الحياة!
على أية حال، جمعت العقوبات كافة بمفردة الاجتثاث، لا "تجميد" ولا "سحب يد"، وهي كالتطهير والتصفيات ليس لها اعتبارات، فالسياسة محركها الأول والأخير، مع ما تلعبه الحماقة من دور في إيجاد الأخطاء القاتلة، ولكثرة تداول المفردة، التي تبدلت، للتخفيف وللعذر في طرق باب المصالحة، أخذ العراقيون يتغاضبون بها ويتمازحون، فهي مناسبة للتعبير عن العقوبة القصوى في الجد والهزل.
لا ندري ما هي نتائج الاجتثاث، وقد اجتث مرشحون قالوا إن الشعب لا يريدهم، وإذا كان الشعب لا يريدهم فاتركوهم لمصيرهم في صناديق الاقتراع! أم أن الشعب قاصر ولكم الولاية عليه! المهم، بَانَ الأمرُ جلياً، العراقيون محبون للديمقراطية، ومَنْ لم يخضب سبابته بالحبر الأزرق، لاجتثاث وقع عليه، بحجة أو أخرى، غضب لبلاده، كونه لم يساهم، ولأربعة أعوام، بتقرير مستقبل إدارتها، ومنهم مَنْ بكى وتأسى، ومنهم مَنْ هاج مطالباً بحقه، وإن دلت تلك المشاعر على شيء فتدل على أن الشعب العراقي، وشبابه، حتى من المولودين خارجه، أهلاً للحرية، وهي حق لا عار في أخذه وإن كان بعون غازٍ، فطرق منافحة الغزاة ليست واحدة، ومنها صوت يعلو من داخل البرلمان!
وهل تركت الحروب والكوارث والحصارات لدى العراقي غير سيف من خشب، حتى يريدون منه حمله لمواجهة القاصفات والدارعات، هذا ما طلبه أحد مقدمي البرامج، المتخشبين بإخوانيتهم، من مرشحين عراقيين، يرون في صندوق الاقتراع طريقاً لزوال أشكال الاحتلال، وفلول "القاعدة" تأتي في المقدمة. أقول: رغم اجتثاث صوتي، للأسباب الآنفة، ولأني نسيت حمل شهادة الجنسية، بلا جدال كان مشهد تسابق طُلاب الديمقراطية ساحراً نحو مراكز التصويت، زرافات ووحدانا. مشهد يرد عن أهل العراق شبهة أنهم لا ينقادوا إلا لحجاج آخر!

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 17-03-2010     عدد القراء :  2267       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced