العلمانية وأسس تحرير الإنسان العراقي وانعتاقه الفكري والسياسي*
بقلم :
العودة الى صفحة المقالات

( 1 - 2 )


جاسم المطير
يزداد الحديث عن (مفهوم العلمانية) على نطاق واسع في بلادنا ، في هذه الأيام ، وبالذات منذ سقوط الدكتاتورية عام 2003 خصوصا بعد ظهور العديد من المشكلات المحيطة ببناء الدولة العراقية الجديدة ، مما أدى إلى نشوء مفاهيم كثيرة وربما مواقف أكثر حول التحول نحو الديمقراطية وعلاقته بالعلمانية . جدل واسع جرى ويجري ويبحث من قبل مفكرين عراقيين ، داخل العراق وخارجه ، عن حقبة السنوات السبع الماضية وما أحاط بها وبالسياسة العراقية من مشكلات فكرية ، معقدة وملحة ، أدت بدورها إلى تنامي فعاليات المنظمات الإرهابية المحلية مستجيبة في تناسقها مع فعاليات منظمات الإرهاب الدولي ، التي وسعت اهتزاز الاستقرار السياسي مثلما وسعت تنوع الأطروحات السياسية حول علاقة الديمقراطية بالعلمانية وحول علاقة العلمانية بالخطاب الديني الأصولي و السياسي وغيرهما جعلت بعض النخب تخضع جميع مكونات وسلوكيات تلك العلاقة الى رغبات من نوع خاص هدفها السياسي والعاطفي قطع العلاقة بين العلمانية والديمقراطية .

هذا الواقع المختلف ينعكس جديا على الواقع السياسي العراقي وهو يدفعنا ، اليوم ، للحوار حول معاني ومفاهيم العلمانية وتأثيرها على إنقاذ المجتمع العراقي من مظاهر الانشطار والتجزئة في داخله ، خاصة بعد صعود مظاهر الطائفية خلال نفس الفترة كان من ابرز نتائجها هو هزيمة وفشل قوى الديمقراطية العلمانية من تحقيق فوز في انتخابات 2010 ترك الكثير من شعور بالعزلة النفسية لدى المناضلين الديمقراطيين رغم أن هذا الفشل كان تبعيدا مقصودا استجابة لرغبة بعض قوى الإسلام السياسي .
نواجه الآن سؤالا كالتالي : هل كانت هذه النتيجة بسبب الوهن الانتخابي في صفوف القوى الديمقراطية ..؟ أم أن أحلام الديمقراطيين قبل الانتخابات سمح بتخدير المشاعر ، تخديرا كليا أو جزئيا ..؟ أم الرابط الحميم بين الديمقراطيين والجماهير الشعبية (الناخبين) كان ضعيفا ومصدوما بسبب نهوض الطائفية ومقدرتها على جذب الأصوات لصالحها ..؟ .
ربما يكون جواب كل هذه الأسئلة بكلمة (نعم) من خلال الرؤية الثاقبة لأوضاع ما قبل الانتخابات وما بعدها أيضا ، التي يشعر فيها المواطن العراقي أن جميع الأوضاع الانتخابية لم تكن عادية أو طبيعية .
يوجد اعتقاد شامل في خطابات بعض كتابنا في هذه الأيام أن العلمانية تعني أولا وأخيرا انه مجرد (فصل الدين عن الدولة) . هذا المعنى إن ظل من دون تعميق وتفصيل ومن دون علاقته بالحرية والتعددية الفكرية فأنه يظل نقطة باهتة لا تحقق رؤية متكاملة عن مستقبل الإنسان العراقي ، أي أن بقاء مفهوم العلمانية غير ذي صلة بالواقع الديمقراطي ومن دون تعامله مع حقوق جميع المواطنين على اختلاف عقائدهم فأنه لا يكون هناك أي متسع لتحميل العلمانية مظاهرها الحقيقية ومهامها الأصلية . هذا يؤدي إلى نزع الكثير من صمامات الأمان من العلمانية الحامية للديمقراطية ولحقوق المواطنين .
اليوم أحاول إعادة التذكير بأن تجارب العلمانية الغربية في دول مثل هولندا والسويد وألمانيا وفرنسا وبلجيكا ، كلها ساعدت بصورة رئيسية الديمقراطية والحرية في هذه البلدان ، على إزاحة كل عقبة تعترض تقدمهما ، كما أنها ساعدت الديمقراطيين على التخلص من الحنق على الرأي المعارض ومن أية حساسية وتأثيرات سلبية بين القوى السياسية في البلد الواحد . كما أن العلمانية ساعدت على نشر مبادئ الشفافية والمساواة والإنصاف المتبادل ، مبعدة عن مناضد العلاقات الوطنية الكثير من مظاهر الخداع والزيف والكذب . حتى غدت مثالا يقتدى به لحل الانقسامات الدينية داخل البلد الواحد جعل الكثير من العلمانيين في العالم العربي يحملون مشاعر حميمية نحو العلمانية بوصفها النموذج القادر على انجاز بعض الوظائف الديمقراطية داخل المجتمعات التعددية مثل الآتي :
(1) تنوير المجتمع المصري بأن العلمانية علاج للانقسام الإسلامي- المسيحي ليس فقط داخل جمهورية مصر ( مجتمع قبطي ـ إسلامي ) وليس فقط داخل لبنان ( الإسلامي ـ الماروني) بل داخل العالم العربي كله.
(2) كما وجد الديمقراطيون العراقيون أن العلمانية هي مساهمة رئيسية من مساهمات ليس فقط الوظيفة الرمزية لتوطيد وتطوير شعبية أقوى مكونين من مكونات الشعب أي الاتحاد العربي ـ الكردي ، بل لتطوير كل وسائل معالجة الانقسام السني ـ الشيعي . وهو انقسام ليس محصورا في العراق فقط ، بل نجد غرائزه المحرضة على تدمير الوحدة الوطنية موجودة في كل من سوريا ولبنان والسعودية والبحرين والكويت بل وحتى اليمن كما ظهر في العامين الماضيين ؟
(3) هناك من يعتقد ، وهو على صواب ، بأنّ العلمانية هي دواء حتى داخل (الإسلام السنّيّ) نفسه . كذلك يمكن أن تحمل العلمانية طاقة دافعة لحل إشكاليات كثيرة داخل الإسلام الشيعيّ أيضا ، في العراق على وجه التحديد .
القيم التي أشرت لها في النقاط الثلاث السالفة الذكر لا يمكن أن تكون قوة حقيقية مقبولة اجتماعيا إلا بتوفر ما يلي :
(أولا) تحريك العقل الإبداعي لتفكيك العقائد القديمة والعصبيات الطائفية والمذهبية كما فعل فلاسفة التنوير في أوروبا.
(ثانيا) التفاعل الايجابي المتواصل بين الأفكار العلمانية والأفكار الديمقراطية .
(ثالثا) الابتعاد تماما عن استخدام القوة والانقلابات العسكرية لفرض إجراءات سياسية معينة على العقل الشعبي.
(رابعا) المحافظة دائما على عدم بلوغ المجتمع وضعا من التوتر السياسي أو الاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد من مختلف الاثنيات والمذاهب .
(خامسا) أن يكون هدف ووسيلة تغيير المجتمع معتمدا على تحويل أحلام الجماهير إلى واقع .
لا بد من القول أن العلمانية مثل الديمقراطية ليست وصفة جاهزة تباع وتشترى في الأسواق ، بل هي نماذج لتطبيقات في العمل الثقافي – الاجتماعي – السياسي تبتعد عن التسويق ، تقترب من الممارسة الحرة الجريئة للنخب الثقافية داخل المجتمع وفي أعماقه ، ومن الممارسة للنخب السياسية الواعية في بناء الدولة الجديدة وفق عملية أصلاح جذري ، لا يترك أية مؤسسة من مؤسسات الدولة لا يدخل إليها . يعني هذا القول أن العلمانية تفرض نفسها كحل وحيد للمشاكل الطائفية وفي حل معضلة الأقليات كافة ، في العراق وفي المنطقة العربية وفي البلدان التي تحررت من الدكتاتورية الحزبية والفردية مثل العراق ولبنان أو التي مؤمل خلاصها من هيكلية الاستبداد والدكتاتورية .
من ناحية أخرى أن تجارب جميع البلدان والشعوب الديمقراطية تعلمنا أن التحرر من الاستبداد يحتاج إلى حزمة كبيرة من العمليات والخطوات ، في الإصلاح الفكري وفي التطبيق العملي . هذا بحد ذاته يحتاج ليس فقط إلى وقت طويل بل أن العلمانية تحتاج إلى حرية واسعة ، في التحرك والعمل ، تشارك فيه وتسهم كل قوى الديمقراطية الساعية إلى تغيير المجتمع أي أنها تحتاج إلى تمهيد طويل عريض كي تروق في عقول الناس ، خاصة في مجتمع متخلف مثل مجتمعنا . إن العلمانية كوسيلة فكرية لإزالة الكثير من القيود أمام تطبيق الديمقراطية الحقيقية لا يمكن فرضها عن طريق القوة أو الضغط أو الإكراه ، بل لزاما على العلمانيين الديمقراطيين العراقيين أن يثروا تجاربهم ، الفكرية العامة والسياسية اليومية ، بما يمكنهم من إقناع الناس بالفكر العلماني والديمقراطي اعتمادا على فضائل العلم والحقيقة . إن دراما الخلاص من العوامل المعيقة لتقدم مجتمعنا ، لا يمكن اعتبارها وسيلة سهلة التطبيق في ظروف لم تنضج لها بعد ، خاصة في ظل انتشار السحب السوداء في سماء الواقع الأمني المتردي ، في ظل وجود أجسام صلبة أمام عجلة التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، مما يحتم استقطاب جميع وسائل التنوير الفكري واستخدام قياسات إضاءته كما فعل التنويري الأوربي في بلدان القارة الأوربية كلها ثم جاءت العلمانية كتحصيل حاصل .
بالنسبة للديمقراطيين العراقيين فأن خطواتهم بالنسبة للتنوير الفكري ما زالت ضعيفة ، وفي بعض الأحيان وبعض الحالات والموضوعات والمواقف ما زالت ضعيفة جدا أو مترددة أو خائفة ، خاصة ما يتعلق منها بالنشاطات الدينية والمذهبية التي مارستها وتمارسها بعض القوى الدينية بواسطة الميليشيا المسلحة . كذلك نجد في بعض الحالات أن قوى ديمقراطية تحاول (استرضاء القوى الدينية) في المحافظات الجنوبية والوسطى على وجه التحديد ، مما جعل العراق المضطرب يعيش في عصور وسطى وليس في عصر الثورة العلمية ـ التكنولوجية . ورغم أن الحقيقة المجربة في البلدان الأوربية الديمقراطية أثبتت أن لا ديمقراطية بلا علمانية ، إلا أن التجربة الديمقراطية العراقية خلال سبع سنوات أعادت إنتاج (الطائفية السياسية) وفرضت سيطرتها في ظل الدستور ربما إلى خمسين سنة قادمة عن طريق صناديق الاقتراع ، التي استخدمت مرتين بين أعوام 2005 ـ 2010 حيث تفرد الطائفيون في البرلمان والحكومة . لا استبعد أن هذه النتائج المثيرة للقلق جاءت نتيجة واقعية بسبب ضعف التجربة والدليل المنهجي لدى القوى الديمقراطية العراقية .
بعض المفكرين العرب يكرسون بعض أفكار العلمانية كعامل مساعد لنشوء وتبلور خبرات تاريخية حول حقوق الأقليات في عدد من بلدان العالم العربي ومنها العراق . مثلا هناك فكرة يطرحها جورج طرابيشي هي ( أن الأقلّيات اقرب إلى العلمانية لأنها تتيح لها التساوي مع الأكثرية أمام القانون). هذا صحيح إلى حدّ كبير وقد تقدم مثل هذه الفكرة حين مناقشتها بين السياسيين العراقيين إذ تقدم نتائج واقعية سمحت في جمهورية العراق بأن تلتهم قوى الأقليات من ثمار الشجرة الديمقراطية المزروعة حديثا في الأرض العراقية ، التي كان الديمقراطيون العراقيون جوعى لها خلال القرن العشرين كله .
هناك الكثير من التقاليد الغربية تقدم لنا أمثلة في موضوع حقوق الأقليات . أول وابرز مثال يمكن أن نذكره بهذا الصدد هو ما قدمته فرنسا حيث أن العديد من مبلوري العلمانية الفرنسية كانوا ينتمون إلى (الأقلّية البروتستانتية) التي حصلت على حقوقها كاملة بفضل انتشار الوعي والمعرفة والفهم والحكمة . لكن يجب أن نعرف أنه لولا انضمام العديد من قادة ( الرأي العام الكاثوليكي ) إلى تيار العلمانية ، باعتبارها الحل الصحيح لأصل مشاكل الأقلية ، لما نجحت وترسخت في الدساتير والممارسات العملية والقوانين. اكبر مفكر فرنسي حارب الأصوليّة الكاثوليكية بكل عنف وضراوة وشق الطريق أمام العلمانية كان كاثوليكيا ينتمي إلى مذهب الأغلبية: انه فولتير الذي لم يكن لا فضوليا ولا مطيعا لواقع الحال الانقسامي بل متحركا لصنع الأهمية الإنسانية المركزية لدعم حقوق الأقليات . يمكن أن نذكر ديدرو أيضا وآخرين عديدين . وحده جان جاك روسو كان ينتمي إلى الأقلّية البروتستانتية المعتبرة ، آنذاك ، أنها خارجة على الطريق المستقيم للديانة المسيحية. اكبر سياسي رسخ العلمانية في فرنسا هو جول فيري الكاثوليكي المنتمي أيضا إلى الأغلبية المذهبية لا إلى الأقلّية. وقد خاض حربا ضروسا ضد زعماء طائفته. تقول قصص الطرافة الفرنسية بهذا الصدد ان جول فيري تزوج فتاة (بروتستانتية) من عائلة كبيرة. لكن أخته المتدينة جدا والمتعصبة كاثوليكيا رفضت مصافحتها عندما دخلت إلى البيت لأنها (كافرة) بنظرها وقد تنجسها..! هذا حصل بعد التنوير والثورة الفرنسية بقرن كامل لا قبلهما . الحقيقة العراقية تقول ان (نظرة النجاسة) إلى الأقليات العراقية كان موجودة عندنا بأشكال متعددة ، كما ظل شكلها السياسي كحقيقة قاسية شاهدها العراقيون بألم في فترات كثيرة من أعوام القرن العشرين لدى المتشددين الإسلاميين إزاء الصابئة والمسيحيين . كنا ننظر إليها سابقا كخرافة منذ منتصف القرن العشرين حتى كادت أن تزول نهائيا في أواخره ، غير أن هذه الخرافة عادت إلى الوجود في البصرة والعمارة وبغداد مثلا بقتل المسيحيين والصابئة وتفجير كنائسهم ومعابدهم من قبل عصابات تنظيمات " القاعدة " ومن قبل قوات الميليشيا المسلحة بالجهل التام لمعنى الحياة الإنسانية .
الآن بعد العام السابع من التغيير نرى العلامات التالية :
(1) إن القوى والأحزاب الدينية تخجل من الاعتقاد بأن الكون مصنوع من اجل الناس كلهم ، لفائدتهم كلهم ، وللتمتع بخيراته كلها من قبل جميع الناس بلا استثناء.
(2) ما زال أغلب العلمانيين العراقيين لا يملكون من العلمانية غير مؤهل واحد يتعلق بكونها (فصل الدين عن الدولة) بينما يرى فيه الكثير من المتدينين الجاهلين بأن القوى الديمقراطية والعلمانية هي ضد الدين والمتدينين .
(3) البرلمان بأغلبية أعضائه مبتهج بالانقسام والطائفية . كما يبدو خلال سبع سنوات من وجوده أنه مبتهج فعلا بالمنفعة الناتجة عن الحصص الطائفية.
(4) بقاء المجتمع العراقي مثقل بالمشاكل والأعباء وأن الحكومة بغالبيتها ذات التركيبة السياسية الطائفية لم تستخدم الجوهر الديمقراطي في معالجة الأعباء والمشاكل المتعلقة بحياة الشعب خشية أن يعزز هذا الاستخدام مكانة الفكر العلماني.
(5) لا يفوتني أن أشير إلى أن الباب المسحور، الذي يعبر منه مصطلح العلمانية بكونه (فصل الدين عن الدولة) يظل بابا مغلقا أمام عيون كل الطائفيين مهما ظهر بعضهم بأنهم ينظرون بأمان وسلام إلى العلمانية والديمقراطية .
اليوم أتحدث عن الفعل الذي يمكن أن تنتجه كل صورة غير واضحة في قول أو مقولة وربما تؤدي إلى إفساد علاقة الديمقراطيين العلمانيين مع الناس ومع المجتمع . هذا اعتقاد خاطئ وهو الذي يفسر لنا أسباب انحسار الخطاب العلماني وتقهقره عن الجماهير الشعبية .
أقول هنا أنه من الضروري التأكيد أن الخطاب العلماني ليس موجها ضد الدين بل هو خطاب يعتمد اعتمادا رئيسيا على مبادئ العقل والعقلانية وعلى العلم ومنجزاته التكنولوجية التي حققت تقدما هائلا في حياة الإنسان وتلبية مطالبه وحاجاته المتنامية باتساع .
في العراق الحالي نشاهد انحسارا للخطاب العلماني . بل أصيب التيار الديمقراطي العلماني بضربة قاسية نتيجة انتخابات البرلمان بتاريخ 7-3-2010 التي كانت بالغة القسوة على الحرية العراقية وعلى الديمقراطيين العراقيين وعلى بعض فصائل الجماهير الشعبية الكادحة لأن تلك النتائج تعني بأخطر علاماتها تعثر المشروع الوحيد الذي يتحدى الطائفية السياسية ويحرر الناس من مساوئها أعني مشروع الفكر العلماني .
من المسؤول يا ترى عن هذا الانحسار .. هل تغلب عليه الخطاب الديني .. أم تغلب عليه الخطاب المحافظ ..؟
لا شك أن الجواب المنطقي الصحيح يتعلق بالعلمانيين العراقيين أنفسهم لأنهم لم يملكوا ، حتى الآن ، تناغما في علاقتهم مع الجماهير الشعبية بحيث يولد عند هؤلاء أملا كبيرا بالتحرر من كل أشكال التخلف والعبودية . إن نقاشات العلمانيين العراقيين لم تتخلص بعد من ضيق الأفق ولم تتخلص من مواجهة الصعاب بلا انفعال . لم يتضمن خطابهم نشر الفوائد العملية العميقة من الوعي بالعلمانية وضرورة ارتباطها بالديمقراطية . بصورة عامة يمكن تحديد أسباب انحسار العلمانية بالأسباب التالية :
(1) إن الخطاب العلماني ليس لديه ما يركز عليه غير مقولة ( فصل الدين عن الدولة ) وإعادة تكرارها ، بسذاجة ، في وقت تحمل هذه المقولة المكررة تجاهل الارتباط بين الدين والمجتمع ، بين الدين والاقتصاد ، بين الدين والثقافة ، بين الدين وحقوق المرأة ، بين الدين والجنس الخ.
(2) لا يملك الخطاب العلماني العراقي حتى الآن تحديدا في الفرق بين ارتباط الدين مع (الفرد) وارتباطه مع (المجتمع) ليصبح هذا الأخير قانونا اجتماعيا . مثال استخدام التلفزيون وسيلة لنشر المفاهيم الدينية.
(3) ليس من الصحيح تهجين الخطاب العلماني بمفردات دينية أيا كانت . بل حتى أن تهجين الكتب المدرسية والجامعية بالمفردات الدينية يصبح أمرا ضارا للجميع . صحيح أن كل إنسان حر بمعتقداته الدينية لكن ليس من الصحيح أن يتحول (الإيمان الفردي الخاص) إلى (قانون اجتماعي عام) لأن هذا الشيء يعني المتاجرة بالدين هدفه إضعاف الخطاب العلماني .
(4) الفهم عقيم للعلمانية الذي يظهر أحيانا في فهم بعض العلمانيين هو فهم قاصر عن استيعاب الظروف والمستوى الفكري والتعليمي للجماهير ، لذلك فهو فهم مسؤول عن حصر الصراع الفكري في (الجانب السياسي) بينما يكتسح بقية جوانب الحياة خطاب ديني مسيَّس من دون منافس..!
(5) يعني فهم العلمانية كونها (فصل الدين عن الدولة ) رغم صوابه لكن الكثير من العلمانيين(القاصرين) يريدون للعلمانية أن تكون تعبيرا عن (شكل للدولة) بينما العلمانية يجب أن تكون (حركة ديناميكية) نحدد بواسطتها (شكل المجتمع) .
هذا الواقع العلماني الضعيف في عمليات الاقتراع الانتخابي في البرلمان ، وفي مجالس المحافظات ، يفرض على المثقفين العلمانيين والديمقراطيين واليساريين عموما أن يراجعوا التاريخ العراقي ، بل عليهم أن يراجعوا تاريخ تطور العلمانية الغربية ، خاصة مراجعة كل تاريخ فرنسا ، منذ القرن الثامن عشر وحتى بدايات العشرين ، الذي كان مليئا بالصراع بين القوى الدينية الرافضة للعلمانية وللنظام الجمهوري ، وبين القوى العلمانية الرافضة للأصوليّة المسيحية والعهد الملكي القديم.
بعد أن تحرّر المجتمع الفرنسي في شرائحه العريضة من هيمنة الكنيسة ورجال الدين انتصرت العلمانية في فرنسا . بالتالي لا أرى أي فرق بين تجربة العلمانية في الغرب وما قد يحصل عندنا في العراق أو ما نرجوه أن يحصل من تقدم وحداثة وعلمانية. العلمانية إما أن تكون كاملة متكاملة تشمل (الدولة والمجتمع) كما في الدول الغربية المتطورة أو لا تكون..ولأنها لم تشمل (المجتمع) في تركيا حتى الآن ، أو قل أنها لم تتغلغل في الشرائح الشعبية بما فيه الكفاية ، فأن الأصوليّة عادت إلى المسرح من جديد خلال السنوات الخمس الماضية . أما في فرنسا فلا يعقل حصول نفس الشيء ( أي عودة رجال الدين إلى الساحة وانتكاسة العلمانية ) .. بالتأكيد كلا . إذ من المستحيل أن نشهد يوما ما عودة رجال الدين المسيحيين إلى السلطة الفرنسية لأن العلمانية أصبحت مرسخة في كافة شرائح الشعب الفرنسي . لأن الصيرورة الاجتماعية في النظام الإقطاعي أو شبه الإقطاعي في العهد الملكي الفرنسي كانت تستمد قوتها من الدين لذلك نشأ تضاد بين البورجوازية الناشئة والنظام الإقطاعي القديم. تبلورت على اثر هذا التضاد ( رؤية جديدة ) للعالم تناقض ( الرؤية القديمة ) التي سادت طيلة قرون متكئة على الدين. كانت العلمانية في صلب هذه الرؤية الجديدة.
وفقا لهذه الرؤية ولما لحقها من تطور فكري واسع وعميق لم تعد الدولة هي (أداة الله على الأرض ) أو أنها منفذة لإرادته، كما كان يدّعي رجال الدين المرتبطين بقادة السلطة الإقطاعية وملوكها ، بل أصبحت الدولة البورجوازية نابعة من إرادة المواطنين الناخبين في الاقتراع العام . وهو ما أسس لنشوء القوانين المدنية والتعليم المدني ، الأمر الذي عنى فصل الدين عن الدنيا، أي فصل الدين عن الدولة. وبالتالي فصل الدين كطقوس عنه كأيديولوجينا تتضمن تشريعاً «ألهياً»، وصيغة للدولة والسلطة، ولطبيعة العلاقة بينها وبين الرعايا. لتقرّ ممارسة الطقوس الدينية بكل حرية، لكن دون أن تعنى بالسياسة والدولة.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 14-05-2010     عدد القراء :  2286       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced