الموتى يحلمون
بقلم : شيماء المقدادي
العودة الى صفحة المقالات

بين المستطيلات المتناثرة هنا وهناك أقضي أيامي وليالي، خارج أسوار هذه المنطقة فالحياة بالنسبة إليَّ منعدمةٌ ومن الغباء العيش خارج حدود هذه المستطيلات.. فهنا يرقدُ بعضٌ من أقاربي وأهلي وأصحابي .. خصوصا في الوقت الحاضرِ فقد ازداد عددهم لكن سمرَهم في الليل قلَ كثيرا مما جعل أُنسي بالقادمين يصبحُ شبهَ منعدمٍ.. في أولِ تسلّمي لعملي هذا كنت اشعر بالخوفِ وبإحساسِ إني خارج الطبيعة البشرية كوني أواري أناسا لهم حياتُهم وأحلامُهُم وآمالُهُم التي باتت في خبرِ كان. وبيديَّ أُخفي أثرَهم من فوقِ وجهِ هذه الحياة فيُقتَلُ مع رحيلِهِم جزءٌ من إنسانيَّتي حتى خشيتُ أن أصبح بين ليلة وضحاها حيوانا أو شبه إنسان لذلك عمدتُ إلى تنفيذِ نصيحةِ والدي الراحل بان أتعاملَ مع كلِّ من يصبح بين يديَّ لأواريه الثرى كأنّه أنا. فلا بد أن يأتي يوم وأوارى الثرى !. وبدأتُ أشعرُ بالحبِّ والتعاطفِ مع كلِّ من يدخلُ هذه الحفرةَ المظلمةَ وحيدا وأقضي ليلتي قربَ الحفرةِ أُكلِّمُهُم لأشعرهم بالأنس وسطَ قسوةِ الحياةِ الجديدةِ حتى بُتُّ أسمعهم , وعرفت كثيرا من الأسرارِ والكثيرَ من الأمنياتِ الضائعةِ وسط الحياةِ الجامحةِ. جميعُ الأمواتِ يثقون بي , وربما يثقون بغيري فمن ذا يؤذيهم وهم في عالمٍ بعيدٍ عنا رغم إنهم يرقدون بين الأقدام , إلا ذلك الرجل الصامت دوما , الغارق بتفكير اعجز عن معرفته كأنه لم يكتفِ بالغرق وسط الأفكار في حياتِه فحملها معه إلى قبرِه. لا تخلو ليلةٌ من مروري بجانبِ قبرِه، أنصتُ لعلّي اسمعُ منه كلمةً أو همسا , دون فائدة .لكني اليوم أفَقْتُ من نومي على صوتِ هَمَساتِه وهو يردِّدُ .. لا تخف .. لا تخف .
اعتقدت أول الأمر انه يهمسُ لي فأجَبْتُه ( لست خائفا !!) لكنه بقي يردد عبارته المطمئنة وأنا اردد إجابتي حتى صمَتََ .
وصمتّ أنا أيضا .. حاولتُ العودةَ إلى نومي لكني لم أقدرْ , فالفضول قتلني لأعرف لِمَ ظنَّني خائفا !!. وسحبتني قدماي إلى حفرته وجلست قربَ شاهده. ألقيت التحيّةَ فلم يُجِبْني , اعتقدتُ أنّه نائمٌ , ربما !! لكن الفضول عاد وأنطقني , سألته ( أيها الرجل لِمَ ظَنَنْتَني خائفا ؟؟ ) فلم يُجِبْ , عاوَدْتُ السؤالَ مرارا حتى ضاق ذرعا بي وأجابني ( لَمْ أظنُّكَ خائفا أيها الرجل )
-  لكنك قلتَ ..
-  لم أكُنْ أكَلِّمُك أيُّها الفضولي
-  منْ كنتَ تُكَلم إذن ؟
-  وما شأنُك ؟
-  إعْتَبِرْهُ فضولا جائعا .
تحوَّلَتْ نبرةُ صوتِه الخَشِنَةِ إلى نبرةٍ مؤنِسَةٍ وهو يجيبني : لقد عرَفتُهُ أخيرا
-  من ؟
-  إنها قصة
-  واني مستمعٌ جيّدٌ
ضحك حتى شعرتُ إن الأرضَ تهتزُّ مع ضحكتِهِ وهو يسألُني .. أَلَمْ تُشْبِعْ قصصُ الأمواتِ فضولَك حتى اليوم ؟
أجبته _ ليس لديَّ أنيسٌ غيرَكُم أنتم وقصصُكم
عندها بدأ يروي لي أنّه في حياتِه كان يعودُهُ حلُمٌ حيّرَه وأتعبَهُ البحثُ عن تفسيرِهِ ووجودُ طفلٍ يسكنُ حلمَهُ هذا. سألتُه أن يرويَ لي حلمَهُ ربّما أفسِّرُهُ .. ضحِكَ مرَّةً أخرى وهو يجيبُني (لو أني لم أعْرِفْ معنىً لحلمي لصَمَتُّ حتى هذه اللحظة ) عدت وطلبت منه أن يرويَ حلمَهُ فاستجاب لي وبدأ يقصُّهُ عليَّ (في حلمي كان الخوفُ يحيطُ بي من كلِّ جانبٍ وأنا ابحثُ عن قشَّةٍ توصلُني إلى برِّ الأمانِ وسطَ طوفانٍ من الخوفِ , اركُضُ نحو مدينةٍ اطلبُ العونَ , أبوابُ بيوتِ المدينةِ موصدةٌ , اطرقُ هذا البابَ وذاكَ وذاكَ وهذا , وأتناوبُ على الأبوابِ أطرُقُها فيتردَّدُ في نفسي صدى صوتِ طرْقاتِ الأبوابِ , أركُضُ يمينا وشمالا أتلفَّتُ حوليَ أبحثُ عن منفذٍ أهرَبُ منه , من خوفي من ظُلْمَتي وعُتْمَةِ روحي. و أراهُ , وسط الزقاقِ , صغيرا وضعيفا , هزيلا لكنَّه شجاعٌ. يمد يده إليَّ , أركضُ نحوَهُ وأنا أرَدِّدُ مع نفسي هذه خَشَبَةُ الأمانِ , يُمْسِكُ بيدي ويركض وسط الأزقة والشوارع وأنا اركض معه, يجتاز بيوتا كثيرة وأبوابا مغلقة أكثر حتى يصل إلى بيتً دونَ بابٍ , يدخلُ وهو يسحبُني معه إلى الداخلِ. أجلسُ لالتقِطَ أنفاسي من تعبِ الخوفِ والركضِ. أنظرُ إليه ولا أبصرُ ملامحَ وجهِهِ. دوما يخفيه عني , أسحبُهُ برفْقٍ إلى حيث ضوءِ القمرِ , يرفعُ وجهَهُ اليَّ , يفاجئني تشوُّهُ وجهِهِ الصغير فاصرخُ خوفا ويفزَعُ من صراخي وأفيقُ أنا على صوتِ صراخي. حلُمٌ أم كابوسٌ ؟؟ يرافقني منذ سنوات طويلة حتى بتُّ أخشى النومَ أو أن أُغمضَ عينيَّ حتى لا أركضُ وسطَ الظُلْمَةِ ولا أُبصرُ وجهَ ذلك الطفلِ المشوَّهِ .
وتساءلَ : هل تعرف أيَّ أَلَمٍ أنْ أهربَ من كلِّ الخوفِ المحيطِ بي في حياتي لأجِدَ نفسي وسط هذا كلِّهِ؟؟ كأنَّ الخوفَ يسكنُ نفسي وليس حلمي. يرافقني في صحوتي ومنامي .. في ضحكي وبكائي. في فرحتي ولحظة حزني, الخوف كأنه أصبح رفيقي , ظلي الذي لا يفارقُني حتى بتُّ أخافُ من نفسي , أخافُ من الهمسِ, من الخوفِ نفسِهِ , حتى أصبحتُ أخافُ من لا شيء ويا لهوان من يخاف من اللاشيء. وأكمَلَ حكايتَهُ مع حلمِهِ الذي شدَّني وأثارَ فضولي فلَجَمَ الكلماتِ بين شفتيَّ .
( طرقتُ أبوابَ المعبرين أسألُهُم عن حلمي هذا فلم يعرفوا , وطرقتُ أبوابَ المنجَّمين اسألهم عن معنىً لحلمي هذا فلم يأتوا بجوابٍ يشفي قلبي وكأنّي لا اعرف أن معنى حلمي أنّني أعيشُ في خوفٍ دائمٍ لكني أسألُ عن ذلك الطفلِ من يكون , لماذا هو موجود دائما في حلمي ؟ لماذا وجهُهُ مشوَّهٌ كحياتِنا ؟ أيكونُ نصيبي في الدنيا ؟ لا اعرف !! بعضُهُم قال لي ذلك. حاولتُ أن أصطحبَ عقلي معي إلى الحلمِ لعلي أقدر أن أسألَهُ عن هويَّتِهِ , ولماذا هو وحيدٌ وسط المدينةِ الموصدة أبوابها , وتساءلتُ من يكون ؟؟اهو شيطانٌ ؟؟ لكن لا , الطفولة ابعد ما تكون عن الشيطان , اهو ملاك ؟؟ لا .. الملائكةُ محفوظةٌ لا تتشوَّهُ وجوهُها .. ولم يرافقْني عقلي يوما الى منامي .
والليلة كان الحلمُ ذاته , الخوف ذاتُهُ والظلمةُ ذاتُها , وأنا ذاتي أطرقُ الأبوابَ أبحثُ عن منقذٍ ولا أحدَ يفتحُ لي بابَهُ , أجدُ نفسي وحيدا مثل كلِّ مرَّةٍ وسط الأزقَّةِ والشوارعِ وأراه واقفا وسط الظلمةِ يمدُّ يدَهُ إليَّ , ومثلُ كلِّ مرَّةٍ أمدُّ يدي إليه ليركضَ بي وسط الأبواب الموصدة حتى يصل إلى البيت الذي لا يمتلك بابا. اجلس مثلَ كلِّ مرَّةٍ التقطُ أنفاسَ الخوفِ والتعبِ وانظرُ إليه. اسألُهُ من أنت ؟؟يبدو ان عقلي رضخَ أخيرا ورافقني الى منامي في قبري. يرفعُ وجهَهُ إليَّ , أبصرُ تشوُّهَ وجهِهِ فيُفزِعُني , لكنّي لم أصرخْ هذه المرّة بل سألتُهُ : أيها المسكين من أنت ؟ نظر إليَّ وفي عينيه ألفَ كلمةٍ ومعنى , شعرت فجأة بأنه فعلا خشبةُ الأمان التي تنقذني من طوفانِ الخوفِ. أردتُ أن أرمي بنفسي بين أحضانِهِ لكنّي شعرت بجسدِهِ بين ذراعيَّ وهو يدفنُ وجهَهُ الصغيرَ في أحضاني ويهمسُ خائفا ( أنقذني ) !! ورأيتني أمسحُ من فوقِ وجنتيه دمعاتِهِ الصغيرةَ وأنا أهمسُ (لا تخف فأنت بين أحضاني أيها الوطن !! ) هذا الحلمُ الذي أتعبَني في حياتي ومماتي الليلة فُكَّتْ رموزُهُ وعرَفْتُ أنَّ الوطنَ بين أحضانِ أبنائِهِ هو برُّ الأمانِ للجميع وأنَّه يخافُ فقدَهُم , صَمَتَ الرجلُ وترَكْتُهُ لِغَبْطَتِهِ , بينما كنتُ أسيرُ شاردا من هولِ المفاجأةِ التي جعلت السؤالَ يتردَّدُ على شفتيَّ كالمأخوذِ بين المستطيلات التي أصبحت متلاصقة لكثرتِها ( أيها الموتى هل تحلمون ؟؟ ) كان الموتى يغطون في نومٍ عميقٍ بين أحضانِ بلدِهِمْ .

  كتب بتأريخ :  الأحد 16-05-2010     عدد القراء :  2246       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced